نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

التاريخ الصغير للموت

.. وهو يأخذ الدول

1

منذ البداية حلمتُ أن أكتبَ هذا التاريخ. ربما منذ الطفولة التي كنتُ أجرجرها في قدميّ المغلولتين مثل رقبة الماعز المأخوذ للذبح. منذ تلك الليالي التي لم أذقْ فيها النوم، بالرغم من أن الأحلام لم تتوقف عن هديرها الجنوني في رأسيَ السكرى لشدة السهر.. والجوع.

في تلك الطفولة كنتُ كلما فتحتُ كتاباً يؤرّخ، رأيت أن الدول التي تشمخُ مثل الأساطير مشادَة على ملايين الجثث وأنهار الدم وجيوش لا تُحصى، يفنيها العنفُ، دون أن أتمكن من معرفة أسماء هؤلاء البشر الذين يقضون في سهولةٍ ويسر ولا مبالاة، حتى لكأن الكتاب لا تستوقفه هذه المسألة. لم يكن يغريني في كتب التاريخ سوى البحث المحموم عن الأسماء. كل أولئك الذين تعجنهم آلاتُ الحرب وضراوة الطغاة. أولئك الذين يهدر لحمهم وعظمهم ودمهم لتمنح الدول الكيانَ الشامخ. كل أولئك أليست لهم أسماء يُعرفون بها؟ أيمكن أن يكونوا من الهامشية بحيث لا يتوقف المؤرخ لمعرفة هذه المخلوقات الصغيرة كأشخاص ؟

عند كل كتاب أقول، لابد أن مؤرخاً سيكون دقيق الملاحظة، رقيق الاحساس، لن يغفل عن ذكر الأسماء وبعض المعلومات

عن حياة هؤلاء البشر.
ربما كانت طفولتي المجرورة إلى حتفها هي التي دفعتني إلى وهمٍ مثل هذا. لكنني في كل مرة أفرغُ من كتابٍ يؤرخ دون أن أعثر على تلك الأسماء أقرر أن أكتب شيئاً جديداً لم يتوقف عنده التاريخ، أن أكتب التاريخ الصغير للموت وهو يأخذ الدول.

2

منذ الطفولة (التي صارت بعيدة الآن) شاغلتني موهبة التاريخ، لكن من المؤكد أنني لست معنياً بكتابة التاريخ بالمعنى المتعارف عليه. ثم أن الأسماء التي كنت أبحث عنها طوال الوقت ليست هي ظالتي الآن. إنه الموت.

الموت هو الذي يستحوذ على علاقتي بأشياء التاريخ. الموت الذي كان يأخذ كل تلك الآلاف والملايين من البشر، دون أن يمنحنا فرصة معرفة الأسماء. الموت ذاته الذي سيأخذ الدول أيضاً وبلا هوادة. الفرق هو أننا غالباً ما نعرف أسماء الدول التي تشمخ، وتلك الدول ذاتها التي تنهار وتفنى. الموت بسطوته غير العادلة، سيبطش بالبشر المجهولين بلا إكتراث ولا تريث. هو نفسه الذي سيطلق على الدول حشراته الشرهة تنخر أسسها مهما كانت محصنة بالصوان وترسانات الأسلحة.

في طفولتي، لم أكن أرى في فناء الدول سوى تلك الثورة الخرافية لجيوش من الحشرات الصغيرة، الأصغر قليلاً من النمل، وهي تتسرب في حركة زئبقية فاتحة لها طرقاً مسامية تنفذ منها إلى الجسد المترف المسترخي ببسالة المخلوقات التي على وشك الانقراض.

في تلك الطفولة، تخيلتُ أنني أقفُ أمام كراسة صغيرة اسندها إلى صخرة، فيما أمسك بيدي الأقلام التي بريتها جيداً وأبدأ في تسجيل ذلك المشهد الخرافي. التفت أولاً إلى ذلك الحشد من البشر مجهولي الأسماء الذين قضوا في سبيل وجود هذه الدول الشامخة بطغيانها. أقول لذلك الحشد أن يقفَ جانباً ليرى معي تفاصيل المشهد وليذكرني بالتفاصيل التي قد أسهو عنها بسبب اتساع المشهد وشساعة الحدث وعمق المعانات ولا نهائية الخلق والمخلوقات. أقول لذلك الحشد أن يتخلى عن موهبة المغفرة ويتيح للحشرات المتأهبة لأعراس الخراب أن تأخذ حريتها إلى المنتهى. أقول لذلك الحشد أن ما سيراه هنا ليس سوى التاريخ الصغير للموت وهو يأخذ الدول. وهو تاريخ لم يعبأ به المؤرخون، ولم تكترث له الكتبُ السابقة. وأن هذا الموت العادل ليس سوى النقيض لذلك الموت المستبد الذي لا يرى في برنامجه سوى إنتصار الدول على الناس. أقول لذلك الحشد أن يرأف بنزف طفولتي (وهي تطفو الآن لتتثبتَ من أن حلماً قديماً يمكن أن يتحقق). أقول لذلك الحشد، أقول له لئلا يبدو التاريخ الصغير للموت وهو يأخذ الدول، وحيداً في هذه البرية. فالكتابة فيما هي تصير استدراك المهدور، فانها أيضاً إنتقام من كتابة أخرى أمعنتْ في الذهاب إلى الصمت.

3

وعلى الحشد أن يصبرَ ويعتبرْ. فما من دولةٍ إلا وأصابتها حشرةُ الموت الكافية. أنظروا إلى الشعب السجين منذ مئات السنين، أنظروا إليه كيف يخرج مستسلماً لشهوة الموت الذهبية، يلقي نظرةً نافذةَ الصبر إلى رومِ اليمين ورومِ اليسار، روم الأمام وروم الوراء. يتلمس الأعناق والأقدام المثقلة بالأغلال، يسعل ليتأرجح الحديد باعثاً صليلاً يشبه أجراس الكنائس المهجورة. أنظروا إليه عارياً إلا من حديد ينالُ من العظم لشدة الحَكّ وصلافة الحركة. من منكم يتذكر إسماً واحداً من ملايين ذلك الشعب الذي ينتظر الموت في بطء الدم المفصود؟ أية أسماء جميلة يمكن أن نكتشفها في شعبٍ سجينٍ يرفلُ في أكثر المشاعر فعالية وزهواً : اليأس.

4

أنظروا إليه.
هذا الشعب الذي لن ينقذه من الموت سوى صحوة اليأس. أنظروا إليه، أسماؤه لا تحصى ولم تكترث به الكتب. يتفاقم عذابه وهو في الشفير، بين ذاكرة مكتومة وهامش يضيق. أنظروا إليه. شعبٌ تتبادله الحروبُ والقبائلُ والمصادرات، وهو يتأمل النصلَ ذاهباً حتى العظم.
في الدرك الأسفل من الأمل... طالعاً من زهرة اليأس.
أنظروا إليه.
آن له أن يتذكر تاريخه موتاً موتاً، ويبدأ في وضع يده في طين الله، لقد كان يعرف :(ليس الخلق كاملاً و لا جميلاً ولا عدل فيه).
آن له أن يفضح اللعبة، ويذهب في الشكْ إلى آخره، لكي يكتشف في اليأس جمالاً يليق به.
عندها ستبدأ الدولُ في تجرّع ذُعرها من شعبٍ يتشبث بموهبة اليأس. تلك الدول المشادة على جريمة الأمل. وسيقالُ : ها هو شعبٌ محشودٌ للنسيان، يستعيد طاقة يأسه للفتك بالدول التي أرادت احتلال الذاكرة.. و من ثم محوها.
ومثلما خرج هذا الشعبُ من لحمة الأرض كفطر الأساطير، يقدر أن يخرجَ أيضاً وأيضاً من مسارب وأجران الانتظار. يخرج مكللاً بوحي المخلوقات الصغيرة التي في الهامش. أجمل الحشرات قاطبة هذا الشعب. يخرج مدججاً بجيلٍ باسل أكثر جرأة من ترسانات الدول.. وهي توشك على الموت.
أنظروا إلى الحشد البشري مجهول الأسماء وأسألوه، فرداً فرداً، عن أسمائه. كل واحد منهم يتوجب أن يعرف اسمه الآن ويشهره. كل واحد منهم يتوجب أن يبحث عن قرينه من بين هذه الحشود التي تخرج على الدول من كتب النسيان. ففي هذا الشعب يكمن سرُ الأسماءِ كلها.

إنها الطفولة النزقة التي لم تفارقني طوال العذاب، وفي كل منعطف ألمح الكتب تتراكم كأنها تؤرخ، فيما هي ترخي لئلا يدرك الناس المعنى المكبوت في طبيعة الحشرات الصغيرة القادمة برسائل الموت.

5

تلك هي ديباجة كتاب التاريخ الصغير للموت وهو يأخذ الدول.
الدول التي تنسى أسماء البشر المقتولين،
لن تكترث يوماً بالبشر الأحياء.. ولا الذين يولدون.
الدول التي تلهج بجيشها، سوف تبطش بشعبها.
الدول التي تحتفي بالصمت ولا تقيم وزناً للكلام،
فإنما هي دول تستعد لصقل الرقاب بالمقاصل.
الدول التي تحيا على جحيم الموتى،
التراب جنةُ شعبها الذي يجوع.
الدولة، ما إن تحكم الخناقَ على شعبٍ، حتى تبدأ خرقة الخلود في البلى. ليس للدولة مكانُ سوى براثن الحشرات الصغيرة التي يطلقها الموت العادل.
الآن. حشد الأسماء المجهولة، يبحث عن قرائنه في الشعب الذي يخرج من الفوضى.
الآن، في جريدة الصباح، نقدر أن نقرأ أسماء القتلى الذين يدخلون التاريخ الصغير للموت، يوماً بعد يوم.. مثل فصد الدم. الآن، أرى إلى كوكبة من نيازك المجرة تضيئ المشهد.
مستسلماً لطفولتي النزقة، أختارُ الكراسة الصغيرة و الأقلام المبرية.
الآن.. آنَ لهذه الحشود أن تخرجَ على النص... النص الأول.
والآن..على الكتاب الصغير للموت وهو يأخذ الدول...

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى