نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

أحلام مغدوره / غياب فادح

مثلما يذهب الشخصُ إلى أحلامه المغدورة،
ذهبتُ إلى بيروت في نيسان 93.
فبيروت ليست مدينة عابرة، إنها الكيان المتصل بتجربة الانسان العربي المعاصر، من حيث هو توقٌ مكبوتٌ لشتى أنواع الحريات التي يصادرها الواقع العربي. ولذلك فإن الأحلام التي كان العربي يغامرُ بالتعلق بها، ويعاني العسف في بلاده عقاباً على تداولها، غالباً ما يجدُ نفسه مشرداً مطارداً على أطراف العواصم في خريطة العرب، ولا يصادف مكاناً يرأف به سوى بيروت، وبيروت ليست مكاناً عابراً.

ومهما كانت طبيعة تلك الأحلام، من أكثر الشؤون السياسية تعقيداً حتى أصغر الحريات الشخصية، عبوراً بالفكر والثقافة والفنون كلها.. بقيتْ بيروت مربط كل تلك الخيول.

اللبنانيون أنفسهم قالوا قديماً : (نيّـاله من يلقى مرقد عنزة في لبنان).
والطريف أن " عنز "; العرب كان يرقد هناك في المكان المترف، وكانت هناك أيضاً تلك الوعول التي تكسرت قرونها وهي تناطح أنظمة بلدانها في خريطة العرب. فقد وجدت هناك الفسحة الرحبة لراحة المحارب. ويوماً بعد يوم تحولت تلك الراحة إلى لجوء غبر محدود، كانت تلك المدينة تتيح للمناضلين أن يقودوا نضالهم الوطني "بالريموت كونترول "، حيث التحكم عن بُعد مهنة طابتْ لأكثر من جيل من المناضلين العرب، فاستغرقوا فيها، وكان عددٌ من المناضلين والأنصار ما يزالون يصغون لإشارات قيادات الخارج ويحسنون تنفيذها، فلابأس من مواصلة راحة المحارب في عاصمة دافئة العواطف، ولم تكن بيروت دفئاً عابراً في حياة أولئك المناضلين، فقد كان الدرس قاسياً .
الذين عاصروها من خمسينياتها حتى ضراوة حروبها الأخيرة، يعرفون تلك الأحلام التي راكمتها تجارب قوى النضال العربي، التي أدمنت وضعَ طاولة ومقعد في إحدى الشوارع لصياغة البيانات والتنظيرات حول أكثر القضايا تعقيداً في بلدانهم، تلك القضايا التي كانوا يجدون لها دوماً الحلول الجاهزة بلا هوادة. وهم يعرفون أيضاً عن الذين ذهبوا ضحية ذلك الأسلوب من النضال، حيث كانت المسافة بين حركة الواقع في (بلد المنشأ) وبين حركة الكلام الثوري في (بلد الملجأ)... مسافة شاسعة وفادحة. فبعد كل صف يذهب، يأتي صفٌ آخر بعده. وكانت بيروت تضع ذقنها النحيلة على صخرة الروشة تتأمل المشهد العربي وترسل ابتسامة مشفقة من الأسى... كان يظنها البعض ابتسامة اعجاب. ولم تكن ابتسامة عابرة.
المدينة ذات الأفق اللامتناهي، كانت ترى في كل ذلك قدراً يحدث دون تبصّر، يكرزُ له قادةٌ كثيرون، من غير أن يتكشّف ذلك المشهد عن جماهير واضحة الملامح، مسلحة بموهبة النقد، تعرف ما تريد. فعندما يستريح قادةُ النضال فإن خريطة العرب ستأخذ راحتها على الآخر، وربما راح النظام العربي يمعن في إدارة جنازيره الفولاذية في غيبوبة الناس وغياب المحاربين. وهذا تماماً ما كان يحدث، ويقيننا في حتمية التاريخ لا يضاهى.
وليس قليلاً أن تشكّل بيروت مختبراً للأحلام والأوهام معاً، فالشاعر لا يصير كذلك إلا بعد طباعة كتابه هناك، والمفكر لا يكتمل "برستيجه" إلا عندما يشارك في محفلها الفكري، والمناضلُ لا يتأكّد بدون أن يتعمّد من قبضايات النضال العربي المتماهين (بحضورهم الغائب) في أقبية العاصمة أو مخابئ المخيمات. وكانت بيروت تغسل شوارعها صباح كل ليل لتزيل أكداس الورق الملطّخ بحبر الأكباد المنتحبة الشريدة بفعل بيانات الفضح والشجب والتنظير.

رغم ذلك كله، فإن للأحلام نكهة ناقصة إذا لم ترتبط بعاصمة الحرية، فقد كان كل شيئ لا يمر من هناك، سيكون عرضة للشك في مصداقيته. فمن كان يجرؤ على تكذيب بيروت، وبيروت لم تكن شاهداً غائباً. وبعد كل ما أعطته بيروت للعربي طوال تاريخها المعاصر، أنظروا الآن كيف تبدو مخرّبة ومعصوفاً بها و جائعة، و وحيدة إلى هذا الحد.

لقد كنتُ أدخل إلى خرابي الخاص وأنا ألامس خرابها في أبريل 93. كانت وحيدةً في جميع حروبها، ووحيدة عندما حاصرها الاسرائيليون، ووحيدة الآن.. وهي تحاول أن تخرج من آثار الحروب، وحيدة يحاصرها العرب، العرب ذاتهم الذين ارتاحَ محاربوهم فيها لأجل تحقيق أحلامه وتجاوز أوهام النظام العربي بشتى تجلياته.

ترى أليس مفهوماً بحق.. لماذا كان النظام العربي يرى فيها خطراً ديمقراطياً يهدد كيانه واستقراره ؟! وهو (خطر) سيظل ماثلاً، ونحن نرى في بيروت الجائعة العربية الوحيدة التي تقدر على التمسك بحريتها، فيما تجوع العربيات الأخريات دون أن يقدرن على مجرد إعلان ذلك، ناهيك بالاعتراض على جوع الخبز وجوع الحرية .
ترى ألم تكن كل أحلامنا وأوهامهم، طوال أكثر من جيل، عرضة لهدرٍ وغدرٍ لا هوادة فيهما، فيما بيروت تتماسك وتعبر حروبها، فيما يوغل بعضنا في الأحلام حتى يصل إلى حدود أوهامهم ؟

بيروت وحيدة، محاصرة بين عرب يهربون وعرب يغربون.
لكنها الخارجة بالعنفوان.. لا تزال.
ليست عاصمة عابرة، إنها التجربة العابرة للأجيال.
ففي كل وقت، إذا لم تذهب إلى بيروت،
كأنك لم تذهب إلى مكان. *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى