نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

سماء عيسى


"جاءت أقدامٌ تهرول بعيداً، داستْ علينا ونحن نيام، أقدام تهرول حاملة رماحاً مسمومة إلى الداخل، كلما إتجهت إلى
داخل الوطن إتجهت السمومُ الى أعماقنا. لكن أعماقنا خاوية إلا من البرسيم، فمن إذن يحمل إليك المشعل، أيها النهر الدموي، أيتها الجثة، أيتها الحياة"

1

من هناك يأتي سماء عيسى منذراً بفجيعةٍ ما.
معه نمشي في خرابٍ طاغٍ يسود الكون والعناصر. إنه قادم من حروب خاسرة، ذاهب إلى منفى الأعماق والدواخل. وكان سماء عيسى قد جاء، قبل كل هذه الفجيعة، التي نتمرّغ فيها الآن. يكتب الشعر منذ سنوات، دون أن يعبأ بما لا يحدث أو بمن لا يكترث بما يحدث. يكتب حيناً ويكبت أكثر الأحيان. في عُـمان، ظل في الجزء الخفي الهادئ من المشهد، عادة العمانيين الذين يمارسون جديتهم في الضوء الرزين. سماء عيسى ظَلَّ في الظِلِ الذي تكون درجة الحرارة فيه أكبر من الشمس. لم تسعفهم الظروف مبكراً أن يحضروا في هيلمان الأعلام الأدبي المعاصر، وكان هذا حسناً بالنسبة لقسم مهم من الكتابة الشعرية الجديدة. ولم يزل قسم كبير من الصوت الأدبي الجديد، هناك يتحرك بتردد النار الهادئة. ولعله القسم الذي سيغني الكتابة في مستقبل الأيام. والذي يجري التعرف عليه تدريجياً.
ذات صيف، عندما كان العام 1987 يغري الكثيرين بوهدةٍ ما، أصدر سماء عيسى كتاباً شعرياً إنتخبَ له عنواناً ينقضُ وهم الوهدة : "نذير بفجيعة ما". وربما لم ير الشاعر في العام سوى الدواخل التي لا تخطئ كثيراً. جاءَ الكتاب في نسخ محدودة طبعت في أبعد منطقة عن الأرض العربية يمكن أن يتخيلها المرء، في نيويورك. للوهلة الأولى، لن تجد مبرراً (موضوعياً) يجعل شاعراً يعيش في عُمان يطبع شعراً في أمريكا، سوى رغبة الاختراق المكبوتة (أعني شهوة العزلة الضارية) في طبيعة الشاعر. فهو ليس شاعراً مغترباً، وليس في كتابته ما ينم عن ذلك (جغرافياً)، وإن كانت لا تخلو من مشاعر الوحشة. فهذه طبيعة الانسان في هذا الكوكب.

2

سماء عيسى، قادم من الفجيعة بإمتياز، ومبشرٌ بها في آن واحد. ومن يعرف الشاعر، وجيله، وتجربته، يدرك أن الأمر لا ينطوي على مبالغةٍ ما. ففي العمق، تجسد كتابة الشباب العماني الجديدة الخلاصةَ الصافية لقطاع كبير من تجربة شباب هذه المنطقة، متميزة بطاقة الرؤية الفجائعية. ولعل طبيعة الهدوء الظاهري في تأمل أشياء العالم، ستجعل الصورة الشعرية أكثر نفاذاً لمعطيات هذه التجربة.
"الخراب يسكن العمق البشري الآفل"
"الريح عندما تهب من الشرق حاملة غبار أسود
كمعاطف النهار كانت تحمل أيضاً رائحة الموت"
"لم يكن في البهجة إلا نذير ما، كان ينذر بفاجعة دماء تتراكم متفجرة كشلال" ليس في الصور إلا الواقع. فالشاعر لا يفتعل. الخرابُ الروحيّ الذي يتعرض له هذا الجيل، ليس إلا تركة شاملة عليه أن يتجرّعها ببسالة القتلى. الجملة الشعرية عند سماء عيسى تصدر عن حسٍ مأساويّ تكفلتْ به التجربةُ المعيوشة (جسدياً ونفسياً)، والتي كما يبدو لن تنته بقرار، مثلما لم تبدأ بقرار. المرء لا يحدد درجةَ إتصاله بالعذاب والخلق، إلا بناء على درجة حضوره في الوجود أو العدم. الجملة في نص سماء عيسى تتبادلُ الهجومَ تلو الهجوم مع إحتمال واقع سوف يقع مثل يقين الرزنامة. لا تعلن حرباً إلا بكونها رؤية إختراق لماضي التجربة الذي لا يكف عن الحضور :
"كنت مستغرقاً في وجدٍ قلّـما يأتي
في ضـوءٍ قلْما ينير عتمات الروح"
و رؤية مفعمة باليأس من مستقبل ٍ، ما دام :
"يصنع لنهاره نهاية ً.."
الجملة الصغيرة، المكتنزة، المترفة بصريخ الروح، تعتمد صناعة المشهد، إنها صور تنهض من بلاغة المشهد الشعري، فالشاعر لا يعبأ بالتفاصيل إلا نادراً. لغته ليست جزئية، إنها في كلية المشهد، من "إربط دموعك بنار بعيدة" حتى نهاية المقطع : "مراث ٍ كأجراس خَبَتْ في دمار الغروب" إلى خاتمة التدفق، حيث : "قناديلٌ لعصافير الموت"
يتسنى لك أن ترى (أعني أن تعرف) مشهداً مكتملاً، أو أنه يكتمل بإكتشافك - كقارئ - حتي "النار" البعيدة التي يذهب إليها في بداية المشهد. متصلة (بقناديل) لعصافير الموت في نهاية المشهد، وفيما بين هذين الضوئين يتكشّف لنا جانبٌ من تجربةٍ تتعرى في الأم المغتسلة بالكآبة وجمجمة العشيق الميت. والمراثي، ووصايا الجد، ورسائل العناصر، والأفول والذهاب النهاريّ الى الحتف، حتى العودة الخائبة، وولع الخروج لمنح الماء زرقتَه. كل ذلك يقدر سماء عيسى على اجتراحه من عصب الواقع، وتحويله إلى سياق أسطوري، فيما هو نسغ الواقع ولحمته.

3

ستصاب بالخيبة - أيها القارئ النبيل - إذا حاولتَ أن تبحث عن شعار الأمل لتصد به هجوم الفجيعة الماثلة. لا يعبأ الشاعر بذلك. ربما لم يكن هذا من شأن الشاعر. فالأمل ليس في أن تهبنا إياه القصيدة، الأمل في درجة اليأس الذي تدفعنا إليه.
كأن كل شيئ ينذر بفجيعة ما. خراب الواقع، إندثار الوقت، خيانة الأحبة، أم تفترس الاسفلت. إندثار الروح، لم يعد ثمة ندامى، النار إنطفأتْ، كآبة طفل بقر بطن أمه، عربة تجر قافلة من القتلى، شجر يسلم ما لديه للنار، ورقة تحمل صورة صديق مات وأخرى لصديق يموت بعدي، إنحلال الجسد.
إنه إختزال خارق لتجربة لم تزل ماثلة للحواس كلها. ماثلة في أشلاء لا خلاص لها من شهوة الذاكرة. كل صورة عند الشاعر مكتنزة برائحة التاريخ ومراوغة الفيزياء، وضراوة الفعل السياسي. ولكل من يرغب في المزيد من إنفجارات الرؤية مع هذا النص أن يتميز بموهبة إجتياز تخوم الذات والموضوع في كتابة سماء عيسى. فبغير هذه الطريقة لا يتسنى لنا أن نقرأ النصَ مطلقاً في هواء اللغة، أو نتعامل معه كفعل فـنٍ عارٍ من الحياة. والشاعر هنا لا ينذر بما سيحدث، لكنه ينذر بما حدث، لأن ما حدث هو الذي يمنح الواقع والمستقبل طبيعتَهما.
ها هو يطلق الأسئلة :
"إلى أين أوصلتك الدروب دونما مأوى، دونما عشاق"
"تحمل الريح من وطن إلى وطن
من زمن إلى زمن "
ويجوز له أن يتبادل مع رفقته الشعرية في عُمان (وبلاد أخرى) إحتمالات الفاجعة :
"علّ وطناً يستيقظ من أنقاض تراكمنا"
ليستْ صدفة أن نلمسَ عند سماء عيسى كل هذا الخراب، ليس في هذا النص فقط، بل في مجمل كتابته (ما سبقت وما لحقت). تلك التي تصدر عن هذا البعد المكنون. عند معظم الأصوات الأدبية من جيله، في عُمان خاصة، يصدرون عن الفجيعة ذاتها، ليحققوا فعل الصدفة الموضوعية التي تليق بجيل عربي لا بد له أن يتصل بكتابة جديدة يمارسها الشباب في عُمان. فالفجيعة عند هؤلاء ليست مزحة، ولا هي فعل مبالغة شعرية. جديد كتابتهم متصلُ بجوهر تجربة قلما عرفتها التجاربُ الشعرية العربية المعاصرة. وما علينا إلا أن نصغي لهذا الصوت، نصغي إليه قادماً من " نار إنطفأتْ "ومن "رمادٌ يخبئ أسرارَ الخليفة في أرحام الأمهات".

4

بعد ذلك، بحوالي خمس سنوات، سوف يصدر لسماء عيسى كتابٌ جديد بعنوان (مناحة على أرواح عابدات الفرفارة)، ليقول فيه أن:
"الرماد يغسل الخطيئة في صمت بعد أن تنطفئ النار"
و يلـذّ لنا أن نلتفتَ إلى تلك النار التي تنطفئ دوماً عند سماء عيسى. يلذّ لنا أن نثير أجوبة لا تقنع الأسئلة.

5

قبل ذلك بسنوات، كان سماء عيسى قد أصدر كتيبه الأول بعنوان (ماء لجسد الخرافة). إفتتحه بإستهلالةٍ صغيرة من سان جون بيرس، يقول فيها :
"أنذركم بأزمنة حرارة كبيرة
و بالأرامل الصارخات
على تشتت الموتى"
ولذلك فإن إنحيازنا لتتبع شهوة الاختراق التي تتلبس سماء عيسى، لا تتصل بالشكل الفني الذي يستحوذ على غيره فحسب، ولكن ذلك الاختراق المتصل بخرابٍ مهيمن على الروح والجسد معاً. فمنذ لحظته الأولى، رأينا كيف يتأثث مشهدُ سماء عيسى الشعريّ بخرائب تبدأ ولا تنتهي. فهو لا يصدر عن تجربة الروح والجسد، إلا بالقدر نفسه الذي يصدر فيها من تجربة الواقع الضارب في لحمنا حتى العظم. ففي كتيبه الأول نصادف نصاً بعنوان (خرائب)، يبدأ،
"وهدة كدثار الفجيعة
تضرم في شفتي جحافل"

وعندما يتوقف المتأملُ في نص سماء عيسى عليه أن يلتفت ملياً إلى هذه المسافة الزمنية التي تفصل بين كتابه الأول (ماء لجسد الرغبة) وبين كتابه الأخير (نذير بفجيعة ما)، لكي لا يتوهم في لحظة أن حسَّ الفجيعة والخراب عند سماء عيسى محض نزوة شعرية طارئة. وربما بهذا الملمح نستطيع أن نقترح تميزاً يَسِمُ تجربةَ هذا الشاعر. هذا الشاعر الذي طابَ له أن يتقنَّعَ بالسماء، كمن يريد أن يقول لنا أنه يرى إلينا.. إلى واقعنا من هناك، من الأعالي، دون أن يزعم ذلك أو يدعيه.

إلهي، لماذا نذرت الشعراءَ برسالة طيور الغابة المحترقة ؟ *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى