نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

غادة / كنفاني،

شكراً

يقول غسان كنفاني، في إحدى رسائله، لغادة السمان "أعرفُ أن شيئاً واحداً أستطيع أن أقوله وأنا واثقٌ من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يخيل إليّ الآن أنها كانت شيئاً محتوماً، وستظل كالأقدار التي صعقتنا : أنني أحبك".
.. وعندما آن أوان الاحتفال بذكرى غسان كنفاني، صارَ لكلٍ أن يحتفلَ على طريقته. غادة السمان فعلتْ ذلك على طريقتها هي الأخرى، فقد نشرتْ رسائلَ حبٍ كتبها لها غسان في أجمل لحظات عمره. كان ذلك من حقه، و آن لأن يكون.. من حقها.
هل هدأتْ العاصفةُ التي أثارها نشر كتاب الرسائل ؟
للوهلة الأولى كان علينا أن لا نستغربَ ردود الفعل تلك، ربما بسبب طبيعة المجتمع (الظريف) الذي نعيشُ في كنفه. ولكن ماذا نفعل إذا بدتْ الأمورُ على غير ما نتمنى. كانت ردود الفعل متفاوتة. من بينها ثمة إستنكار مزدوج : تشكيك في صحة أمرالعلاقة والرسائل أصلاً، ثم إستهجان نشرها. وذهب البعض إلى الاستعداء من أجل مقاضاة غادة السمان، والتلميح إلى مؤآمرة (تتصل بالنظام العالمي الجديد، حسب الياس العطروني؟) تستهدف الاساءة والتشويه لصورة وتاريخ غسان كنفاني الأدبي والنضالي. ولعل التفاوت الطريف في ردود الفعل هذه، ذلك الذي يشير إلى الاختلاف العميق في تعاملنا مع الحب في حياتنا. ففي حين إعتبرَ الياس خوري أن (غسان كنفاني اليوم يسطع كما لم يسطع من قبل) فإن الياس العطروني رأى في نشر الرسائل أمراً "يمكن وصفه بالعورات". بالنسبة لمقال العطروني الذي نشره في جريدة (السفير 92/8/1) لم يكن مهتماً ببحث أمر علاقة الحب كواقعٍ وقع. هذا ليس مهماً. الأمر عنده مستبعد، أو ينبغي أن يُُستبعد ويُغفل ويُسكتْ عنه، فالحب لا يليق بغسان المناضل. كما لو أن النضال فعالية نقيضة لعاطفة الحب. في حالة أديب مثل غسان كنفاني، ثمة من سيعتبر العشق فضيحة. لكن طاقة العشق المكبوتة سوف تفضح الفضيحة. الأمر الخطير أن هناك من أبدى إعتراضه على مسألة كشف عورة الحب. لكنه من حيث المبدأ لم يعترض على الفكرة أصلاً. وفي هذا السلوك يكمنُ خلل تعاملنا مع أشياء الواقع وحقائقه من حولنا. إذن لماذا الاعتراض على حقيقة حدثت وصارت تاريخاً؟. لماذا التوهم بأن نقاء الانسان ومصداقيته سيصابان بالعطب، إذا ما عاش المرءُ حالةَ حبٍ في مثل ملابسات وظروف غسان كنفاني؟ أليس الحب مجداً للعاشقين؟ هل كان غسان كنفاني "من خلال مناطق ومساحات كاملة من الرسائل شخصاً في حالة إنعدام الوزن" كما عبّرَ نوري الجراح؟. ليس في هذا التعبير هجاء. فما إن يقع الرجل الشرقي في حالات العشق والتضرع والتدله (التي تفيض بها رسائل غسان لغادة) حتى يبدو شخصاً لا وزن له. وسوف يكون خفيفاً وطائشاً ومتهوراً ومراهقاً، ولا يحسب لرزانة العمر حساباً. غسان كنفاني، حسب هذا المنظور، كان عديم الوزن والطعم والرائحة.

عصام محفوظ (في جريدة النهار) قدمَ لنا نموذجاً آخر في النظر. فهو لم يجد في الرسائل "ما يستحق الاستنكار والاستهجان (...) و ليس في التذلل في حب امرأة ما يلغي صورة المناضل التي لغسان كنفاني لدي الجميع". ويعلق عصام محفوظ متسائلاً "كيف يستطيع أحد النضال دون حب؟ يقول غيفارا أن النضال هو أسلوب حب". لكن ما يدعونا إلى الاستغراب من موقف عصام محفوظ، أنه إعتبر توقيتَ نشر الرسائل هو ما يدعو للإستهجان أو الاستنكار، فيرى "أن استعداد ات كبرى كانت تجري منذ عام للإحتفال بذكرى غسان كنفاني بعد عشرين عاماً من إغتياله، وأن نشر الرسائل في هذا الوقت بالذات فخٌّ نصبه الذين كانوا يريدون أن يشوّهوا صورة نضال غسان، وفي إعتقادهم أن إبراز ضعفه تجاه امرأة يلقي ظلاً سيئاً على نضاله. فتشجعتْ (غادة) دون وعي بالفخ على نشر الرسائل". ليس واضحاً لدينا ما إذا كان عصام محفوظ يعتبر الأمر برمته طبيعياً ومشروعاً، أم لا. فهو، من جهة، لا يرى في واقعة العلاقة والرسائل ما يدعو للإستهجان والاستنكار، وإنه ليس في حب رجل وتذلله لإمرأة ما يخدش صورة المناضل، وأن النضال هو أسلوب حب، حسب غيفارا. لكنه من جهة أخرى، يعترض (فحسب) على توقيت النشر. ترى كيف يستقيم الأمران. فالذي لا ينطوي على إساءة لشخصية غسان ونضاله، لا يعود مهماً متى يقال وأين يطرح، على العكس، إن مناسبة الاحتفال بذكرى غسان توقيتٌ جدير بالتعرف على التعدد الجميل في تجربته الانسانية والابداعية. ما الذي يضير في أن نعرفَ بأن غسان كنفاني تدلّه في حب امرأة إلى هذا الحد، ونعرف، خصوصاً، بأن هذه المرأة هي غادة السمان. ترى ألا يزيد حبٌ على هذه الشاكلة غساناً مجداً على مجد، ويضاعف حبنا وتقديرنا للبعد الذاتي في تجربته؟ ففي هذا الاختراق دليلٌ إضافيّ على مخيلة المبدع التي تمارس فعل الحرية بمعزل عن المواصفات والاعتبارات القائمة، وهو فعل إبداع في حد ذاته. إن المفارقة التي يقترحها علينا عصام محفوظ نموذج لأحد أشكال الازدواج في ذهنيتنا العربية، وتوزعها بين مكبوت مسكوت عنه، هو توقٌ عفويّ للحب، وبين شعار معلن خاضع للمواصفات الأخلاقية القائمة على شروط لا إنسانية ولا تستقيم مع طبيعة أشياء الانسان وحقه في الحرية. المذهل في مجمل الذين استنفروا دفاعاً متوهماً عن غسان / الرجل، أنهم (وياللغرابة) غفلوا عن غادة / المرأة. فالطريف في تلك الهبَّة أنها، للمرة الأولى، بدأ العربُ ينافحون عن سمعة رجل إرتكبَ (خطيئة) الحب، دون أن يتوقفوا، للحظة واحدة، أمام (سمعة) المرأة التي أعلنتْ هذا الحب وباهَتْ به. لماذا يكون في الحب ما يسيئ إلى غسان، دون أن يلتفتوا إلى المرأة التي أحبَها وتعلقَ بها وتَولّه ؟! لقد بالغَ بعضُهم في دفاعه عن غسان، ومحاولة تبرئته، كما لو أنه وقعَ في حب من يستوجب رجمها (حسب قانونهم). نخشى أن هؤلاء قد بالغوا، إلى حد إهانة المرأة التي أحبَّها غسان كنفاني، ليقعوا نهاية أمرهم في الاساءة إلى من تصدّوا للدفاع عنه ؟!. لا نرى مهماً في الواقع ما إذا كانت غادة تبادل غساناً نفس الدرجة من الحب، فإن فعل الحب في حد ذاته يكفي لكي نتعرف على طبيعة الانسان المتوارية والمسكوت عنها. كم من العشاق أحبوا من طرف واحد. وقعوا في العشق فقط. إن أشهر العشاق قد قضوا دون أن ينالوا من الحب سوى حلم الحب ولذته المتوهمة. بالنسبة للعشاق، فعل الحب هو المهم. إما نحن (فيما بعدهم) فليس لنا سوى المديح والهجاء.

شكراً غسان. (أعني شكراً غادة). تضعان (أحدكما من موته والأخرى في حياتها) ناراً جديدة في هيكل يكابر(لا يزال) وهو يتداعى وينهار. وما إن تكون هذه النار من الحب، حتى يصبح الأمرُ ضرباً من الفضيحةالمبجَّلة. هذا شرقنا، الحب عنده هو العار الذي.."لا يسلم الشرف الرفيع..". ولكن المشهد يبدو الآن أكثر تفسّخاً. فثقافتنا العربية، في جانبها الثوري، وإعلانها التقدمي خصوصاً، لا تزال ميالةً لإعتبار الحب عاطفةً برجوازية من شأنها أن تخدشَ نقاء المناضل. وإن الثوريّ لا يصير صادقاً إلا إذا كان مخْصِياً في عاطفته. فالأديب المناضل محظورٌ عليه أن يقولَ عن الحب. لا أعرف بالضبط من أين اجترح علينا ثوريو العرب الأشاوس هذا الشرط النضالي، ونحن أبناء تراثٍ كثيفٍ من العشق والعشاق، تراث يصل أحياناً إلى حد التبذل. تراث موغل في العواطف الجياشة، تراث هو أقدم من الدين ذاته. وكثافة هذا التراث جعلته قادراً على الاختراق، بحيث لم يستطع الدين أن يشغل أدباء العربية (آنذاك) عن الاستغراق في أحوال الحب. وبالرغم من تدهور موقف المجتمع العربي من مسألة الحب، وتحفظه حسب أعراف العقد المتزمت رسمياً، إلا أن الحب كان موجوداً هناك، في المكان الحميم من الأدب، بل أن أجمل نصوص الابداع العربي هي تلك التي اتصلت بالحب والعشق بطرف. ولعل البعد التقدمي في تراثنا العربي يكمن في الانحياز المكبوت للعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، وهي تجربة جميلة غيّبها الحدُّ التقليديّ في البحث الأدبي السابق، وظلت مسكوتاً عنها، وبعيدة عن جرأة البحوث الأدبية الجديدة، التي تكلمتْ عن تقدمية كل شيئ في تراثنا فيما عدا الحب. وكان الأجدر بتقدمييّ الثقافة العربية وثورييها أن يتصلوا بذلك الجذر الثقافي، ويعملوا على بلورته في سلوك حضاريّ جديد. لكن الذي حدثَ هو العكس تماماً، فقد إتخذ هؤلاء، إزاء الحب، موقفاً طهرانياً يضاهي موقف المحافظين من أصحاب التقليد الاجتماعي. الأمر الذي جعل عاطفة الحب نقيضاً لأي مشروع نضالي أو سلوك ثوريّ. ويجوزلنا أن نتساءل عن مصدر هذا السلوك في تجربة الثقافة العربية المناضلة (التقدمية خصوصاً) هل هو خليطٌ من تربية دينية شرقية مشوّهة من جهة، ومن جهة أخرى تزمتٌ أيديولوجيّ، تمثلتْ نماذجه الفادحة في الدوغمائية السوفيتية التي مارست قمعاً مشهوراً لتجارب أدبية معروفة، ونستطيع بجردة سريعة للأدب العربي الحديث أن نكتشفَ أشكال التوظيف الأيديولوجي لرمز المرأة، متجلياً بإتصالها بالأرض والأم والوطن والثورة والزوجة. ولكن من النادر أن نصادفَ إمرأةً خارج حدود البعد النضاليّ الساذج، والعرف الاجتماعي التقليدي. ولن نصادف رجلاً يتمتع بحياته العاطفية بحرية كاملة، دون يكون (برجوازياً خائناً). وبلاشك سوف يكون هذا انعكاساً ميكانيكياً في سلوك المناضل العربي. وبالتالي ستتعرض مشاعر الحب لكبتٍ مضاعفٍ، وتظل مؤجلة وسرية في الأغلب. ذلك لأن السلوك المعلن ينبغي أن يظلَ على تلك الدرجة من الطهرانية، وكلما كان المناضل زاهداً أكثر في الحب، صار نموذجاً جيداً يحتذى بمصداقيته. وإذا أعلن المناضل إنه قرر أن يتزوج الثورة، فستكون هذه ذروة التضحية التي يتطلبها العمل الثوريّ. ذلك المشهد لم يكن يعني أن الحقيقة هي في السلوك المعلن، فثمة سلوك يتفشى هنا وهناك، بين وقت وآخر. ويعرف الكثيرون أن حياة خاصة مسكوت عنها، سوف يلجأ إليها للتنفيس وتفريغ الكبت الثوريّ. وتتفاوت طبيعة هذه الحياة بين العلاقات العاطفية الحميمة والصادقة خارج المؤسسة الحزبية وشروطها الطهرانية، وبين اللهو والتبذل. كل ذلك سوف يحدث دون إعلانه أو الاعتراف به، لأنه يخدش صورة المناضل ومصداقيته. إلى هذه الدرجة يستطيع المفهوم المشوّه للنضال والثورة مسخ البناء العاطفي للإنسان. وعندما نلتفت إلى تجلي هذا في الصعيد الأدبي، سنرى النقائضَ على آخرها. وسنرى ركاماً هائلاً من الأعمال الأدبية (خصوصاً تلك التي كتبها أدباءُ رموزٌ في حركة النضال العربي)، تكاد تكون خالية من نضارة الحياة وعفويتها، فيما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة، لأن موضوع الحب والزواج في هذه الأعمال، سوف يقتصر على وظيفته النضالية، والسلوك العاطفي لا يبدو صادقاً، ولا يقارب حالات العشق التي لا تكاد تخلو أية حياة حقيقية من جنونه ونزواته في شتى مراحل حياة الانسان. لكن، هل أصبح هذا السلوك، الآن. جزءاً من مرحلة تغادرنا بكافة ملامحها؟ ليس هذا مؤكداً، فثمة من يتشبث بذات العقلية ويحاول أن يدافع عن ذلك السلوك الطهراني، بالرغم من كثافة حجم المتغيرات الجوهرية في بنية المفاهيم والأفكار التي أثبتتْ التجربة ضرورة إعادة النظر جذرياً حولها، إذا لم يكن أوان تجاوزها قد أزف. ونحن ندرك أن التخلص من آثار التربية السابقة ليس سهلاً، ولن يحدث سريعاً. ولعل في ردود الفعل المباشرة التي أثارها نشر رسائل غسان كنفاني لغادة السمان تعطينا الدليل على أن الماضي.. لا يزال معاصراً. لذلك يتوجبُ توجيه الشكر العميق لغادة السمان (وغسان كنفاني خصوصاً) لأنهما فعلا شيئاً خارقاً. غسان اخترق العائلة والحزب معاً، وغادة اخترقت حاجز الوهم الاجتماعي الذي يتوشح به سدنة الأخلاق... غير الأخلاقيين.*


 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى