نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

طوبى لمن يرى البحر من بيته

1

أينما تقف سوف ترى البحرَ من بيتك، إن كنتَ تريد ذلك، لاشيئ يحول بينك وبين البحر.
فالبحر في الرؤية، في بؤرة الذاكرة خصوصاً. ونعمة أن يكون البحرُ قريباً منك إلى هذا الحد.، في جزيرة كالتي منحتها لنا الأسطورة. منذ الطفولة، لم ننم عن يوم من أيام عمرنا إلا ونكون قد رأينا البحرَ مرةً واحدةً على الأقل. من شتى جهات الجزيرة، وأنت ذاهب إلى المدرسة (أياً كان موقع بيتك) سيتحتم عليك أن ترى أفقاً من اللازورد يتأرجح بين خضرة الجسد وزرقة القميص. وما علينا إلا أن نستعيد ذاكرتنا لوهلة، لنرى البحر في الجهات. كما لو أن البحر كان لنا أكثر من اليابسة. والذي يفوته البحر صباحاً سوف يصادفه في هيامه المسائي، بعد أن نضع دفاتر المدرسة في الركن المعتم من الدار ونضيع بحثاً عن المتع الصغيرة. ونادراً ما كان يخلو لنا بيتٌ من شخصٍ ذهبَ البحر، ليدّخرَ حكاياته للأبناء والأحفاد، والكثيرُ الأغلبُ منا كان البحر جزءاً جميلاً في برنامج لهوه.

2

تقف في نافذة البيت فتراه. لابد لك أن تغتسل به، إما بالنظر أو بالجسد. إنه قدرك الأجمل، والذين أدمنوا هذه الزرقة، سوف يستنجدون بالذاكرة لكي ينقذوا أنفسهم من يابسةٍ تقتحم حياتهم. كأن لم يكن لنا في الحياة غير البحر. ربما لم نعد نراه بتلك الطفولة الواضحة، لكنه لم يزل الملجأ الفاتن الذي يمكن أن يذهب إليه المرءُ ليبوحَ له بما لا يقدر على البوح به لسواه. هل البحرُ حبيبنا السريّ. هل نعشق البحرَ لأنه أجمل من يحسن الاصغاء ولا يعرف الثرثرة وليس لأفقه تخوم. بحرٌ يمنحك لذة التذكر ومتعة النسيان في آن. أنت في النعمة أذا تسنى لك أن تجرّد البحر من سريره وترتدي قمصانه و تفتح له حرية الانتقال، ساعتها ستراه قرينك الخفيف في الوقت و المكان. وما عليك إلا أن تقفَ في أي ركنٍ في بيتك لتراه بين يديك أو حولك، إن لم يكن بالرؤية فبالرؤيا. حتى عندما تقف عند نافذة مواربة مستورة، بإمكانك أن تلمح وشاحه اللازوردي أو تسمع نشيجه الحميم يفّرك قطيفتَه المترفة بثيابك، لتشعر بملحه الحلو يتسرب إلى المسامّ، يوقظ الجراحَ لئلا تصابَ بالنوم، فالبحر يشعر بالوحدة أيضاً. للبحر طبيعة الناس غير الموجودين، وهذه إحدى جمالاته التي يدخرها لمثل هذا الوقت. وليس للبحر تفسيرٌ واحد. فلكل تفسيره الخاص، لكلٍ بحره. وعندما تضع رأسك في حرير الوسادة وتغمض عينيك، فإن البحر الذي يأتيك، لا يشبه بحراً آخر، إنه بحرك فحسب. وهذا ما يجعل الأمر متصلاً بالمخيلة أكثر من إتصاله بالجغرافيا.

3

ربما كنا مخلوقات بحرية بشكل من الأشكال. فنعمة للمرء أن يرى البحرَ موغلاً إلى هذا الحد، وإلا فعلينا ابتكار الوسائل لتحقيق ذلك.
كثيراً مارأيتُ سرباً من النوارس تدخل نافذة البيت وتنتقل، مثل كائنات الأحلام، لتحصي قطع الأثاث في الغرف والممرات والأروقة، وبعد جولة رشيقة في أنحاء البيت، ترفّ بأجنحتها وتتجه نحو مرآة البهو، تخترقها وتغيب، مخلّفة ريشات صغيرة بيضاء على طرف الطاولة السوداء. أحياناً يبللني موجٌ ناعمٌ ينثالُ بين المقاعد ويغسل الطاولات ويمسح غبار الزمن عن السجاد بألوانها الكابية، وكثيراً ما كنا نلمّ الطحالبَ الندية، فيما تصدر أصواتاً لذيذة تحت أصابعنا، ونزّين بها صور العائلة وتذكاراتها.
ذات ليلة سهرتْ معنا أنواع مختلفة من القواقع والأسماك، وتبرعتْ إحدى القواقع لقراءة مستقبلنا بطريقة فاتنة، فقد طلبتْ منا أن نغمضَ أعيننا ونحلم بأمنية خاصة، وكنا نسمع صفيراً رهيفاً يخترق أجسادنا ويترك بها رعشة غامضة، مثل أطفالٍ تمرح في غرفة مكتظة بالغيوم. بعد ذلك طلبت منا أن نفتح أعيننا، فإذا بأحضاننا تفيضُ بهدايا الأمنيات، وضجتْ القواقعُ والأسماك ضاحكةً من حولنا، دون أن نقدر على تقدير، ما إذا كان ذلك الحلم حلماً أم أن البحر كان يعبث بنا. بعضنا قال أنه ضربٌ من مضاعفات دوار البحر ينتابُ من يستنشق رائحة الطحالب البحرية الطازجة، ففيها رحيق من عناصر البنج. وعندما أوشكنا على تصديق ذلك، بدأت السفنُ والقواربُ تتقاطرُ علينا من الأبواب والنوافذ، بأشرعتها الشاهقة، تأخذنا في سفر لذيذ، نطل منه على صفحة بحرٍ يذهبُ بنا، لنرى صورة وجوهنا في الماء، مثلما ينظر الشخصُ في مرآة. ولم يكن البحر يقلد أحداً.

4

ربما طابَ لنا أن نرى البحر إمرأةً تعمل على تأثيث غرفة عرسها وتنتخبُ لها زوجاً على مهل. ولا نكاد نعرف، أينا سيكون هذا الشخص صاحب الحظ الساحر. وعندما نقف، كيفما اتفق، في البيت (أو في الحياة)، ونطل من النافذة (أو من الذاكرة)، فسوف يتسنى لنا أن نرى البحر كما يحلو. فالأمر لا يتصل بالبحر لكنه يتوقف علينا. فربما كان لنا في البحر أكثر مما لنا في اليابسة.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى