نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

درس الأرز

1

يقال إن الأرز ذهب الحقول وفضة المأدبة. وهو أنواع كثيرة، عليك أن تختار منها ذي الحبة الطويلة. وستكون محظوظاً إذا تسنى لك العثور على النوع الغني بقدرته على الاكتناز في القِدر ساعةَ النار. فالأرز نوعان، نوع بخيل، كثيره في الكيل قليلٌ في الأكل، تضع منه مقدار كيلة واحدة فلا يكاد يطعم شخصاً واحداً بعد الطبخ. والنوع الآخر غني، كريم، تزيده النار ازدهاراً. تضع منه الكيلة فيمنحك ما يكفي خمسة أشخاص لما فيه من طاقة العطاء الكامنة التي تتفجر طالما إطمأنَ لك وألفَ حبك وشعر بتقديرك لطيب منبته. وسوف يشعر بك منذ لمستك الأولى وأنت تجسّ حباته، فيما تدعكه بلطف كمن يداعب طفله في المهد يعلمه العوم لكي يبدأ السباحة في الماء الوفير. وإذا أنت لم تحسن عملية الغسل ببطء الحالم، سوف تقرر مسبقاً فشلك في الغليّ، وقد لا تحصل على الأرز الأبيض الشهيّ.

2

أن تغسل الأرز الأبيض بالماء النقي ليزداد بياضاً يعني أن تمنح الفضة فرصتَها لكي تجلو حبة اللؤلؤ بعد استخراجها من صدفتها القديمة. فالماء الوفير الدافق في البداية يجعل نتيجة الطبخ رائعة، حيث الأرز المغسول جيداً يجعلك تحصل على وجبة خفيفة الروح ذكية الرائحة. ولا ينبغي أن تكون عملية الغسل روتينية، فأنت لا تغسل قميصاً، إنه الحصاد الطيب الذي تعبتْ فيه الناس والحقول وصقلته الفصول. غسلُ الأرز طقسٌ مهيب يستدعي منك أن تكون في مزاجٍ رائقٍ ولديك من الوقت ما يكفي لسرد حكاية لطيفة لطفلك لكي ينام.

تسكب كيلة الأرز في الاناء فتسمعه ينهالُ في الصفحة مثل تدفق اللؤلؤ الناعم على قطيفة. تدسُّ أناملك بحنان بين الحبات فتشعر بها مثل بشرة الرضيع الذي ولد تواً. ترفع بالقبضة الرؤوفة حفنةً وتفرج كفّك لتدع الحبات تسيل بين أصابعك مثل حليب رائب. وترى بياضاً يفضح بضع شوائب صغيرة تقوم بإنتشالها في رشاقة الصائغ البارع لكي تخلّص الأرز من ذكرياته الأخيرة عن الحقل. تلقي نظرتك الوالهة على صفحة الأرز في الاناء الفسيح وتدفعه تحت الصنبور وتطلق الماء لكي يندفق فرحاً مثل أطفال يهرعون إلى ساعة المرح. وتبدأ بتقليب الأرز تحت إندفاع الماء المنتشي ليركض بين حبات ترتعش لفرط المباغتة الباهرة. فترى الماء يمور في الاناء، وحبات الأرز تتأوّد في غنجٍ والماء يتصاعد طالعاً إلى ظاهر الاناء، متعكراً مشوباً بما يشبه الرغوة الثقيلة، مفصحاً عن الكلام الأخير الذي لم يزل في ذاكرة الأرز من الحقل. تعيد تقليب الأرز براحة يدك، ثم تسكب حصيلة الغسل الأول برفعك الاناء مائلاً على طرف واحد. ثم تعيده ثانية تاركاً الماء يندفق ليملأ الاناء ويفيض عليه. عندها تدفع بيديك مطبقتين وتبدأ في الامساك بحفنات الأرز وهي في داخل الماء وتدعكها براحتين حنونتين متحسّساً الجني الطيب وهو ينساب كطيور متناهية الصغر تطير وتحلق مابين أناملك، هواؤها الماء. وأنت تواصل الدعك دون أن تغفل عيناك، فأنت منذ الآن ملكٌ وهذه الحبات رعيتك الجديرة بالحنو والحب. الأرز في الاناء الفسيح والماء عليه مثل الرحمة تَنصَبُّ بلا توقف. طقس الغسل هذا ضربٌ من فن مداعبة حبات الأرز براحة اليدين فيما الماء يجري ويفيض. تبدأ بالدعك بضغط خفيف يقسو ثم ينحو إلى اللطف حد المداعبة. يداك تقلب الأرز مغموستان في الاناء تحت الماء، والماء يفيض ويتغير ويصفو وتذهب عكورته، فيما تواصل الدعك بلطف يتيح لك الاحساس بحبات الأرز وهي تتخلص من المادة النشوية. لترى إلى الأرز يخلع أرديته المنشاة مثل فتاة تتخفّف من ملابس عرسها البيضاء لفرح وشيك، مما يمنحك شعوراً بتحول حبة الأرز من الخشونة إلى النعومة شيئاً فشيئاً، حتى ينصرف الماء المتعكر المحمل بشوائب الحقل والصوامع.

3

لا يتوقف الغسل حتى يصبح الماء في الاناء نقياً خالياً من شوائب المادة النشوية تماماً. فإذا بدأتَ ترى الحبات تتلألأ في الماء واضحة جلية، تكون قد أوشكتَ على منح الأرز ذاكرة جديدة تتيح له الحلم بمستقبل النار الرهيفة. فليس أن تغسل الأرز من الماضي، لكن أن تضعه على عتبة المستقبل في جاهزية الجسد النظيف للحفل. وفي هذا يكمن السر الذي سيجعل الأرز بعد النار ناصع البياض وينفح المسك، طويل الحبة، متألقاً بصورة تغني الوجبة. فالطبخ لا يقتصر فحسب على الخطوات التطبيقية اللاحقة، فإن فن الطبخ يبدأ منذ الخطوة الأولى لإختيارك نوع الأرز وبراعتك في غسله بأناة ورفق، فمن الحكمة أن ترفق بالرعية لكي تمنحك المحبة.

وبقدر ما يتسنى لك الشعور بأن عملية الغسل هذه ممتعة ولذيذة، تتوفر لك فرص أكبر للحصول على أرز غاية في اللذة. فالماء ليس ترفاً بالنسبة للأرز، على العكس فأنت قد تستغني عن الماء في بعض طرق إعداد الأرز، لكنك لن تستغني عنه في الغسل. فهنا تتأسس المتعة منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الأرز وتضع يدك عليه وهو في الماء الجاري. فإتصال حبات الأرز بتاريخ الحقل من الأصالة بحيث تظل المادة النشوية عالقة بالحبة قميصاً يحميها ويذكرها ببيتها الذهبي الأول. ويقال إن في كل حبة أرز من المادة النشوية ما يكفي للصق تسعة من طوابع البريد الصغيرة. و أعرف شخصاً ابتكر وضع حبة الأرز ذاتها بين تروس ساعة اليد المضطربة للتحكم في الخلل الذي يؤثر في إنتظام الوقت.

4

ثمة أسطورة تقول إن طول حبة الأرز أو قصرها يتصل بساعة الرَيّ ومصدر المياه التي تروى حقل الأرز. فإذا كان المزارع قد ذهب إلى حقل الأرز ليلاً وكان قد خرج تواً من سرير زوجته وصادف أن الوقت ليلاً والقمر في منتصف الشهر وكان ساطعاً ينعكس ضوءه في صفحة الماء وهو يغمر الحقل الهادر من أعالي الأنهار المنصبة من الثلوج، سيكون هذا جميعه طالعاً حسناً من شأنه أن يمنح المزارع طفلة جميلة وحصاداً وفيراً من الأرز بحبات طويلة وناصعة البياض. وسوف يعتقد المزارع في كل ذلك نذراً ناجزاً يتوجب عليه أن يؤديه في أول أيام الحصاد، حيث يمنح أول شخص يعبر الحقل مقدار تسع كيلات من الأرز تيمناً بحسن الطالع. ويقال إنه إذا صادفَ وكان أول العابرين إمرأة، سيكون على المزارع أن يختار أحد أمرين، إما أن يقتل المرأة أو يتزوجها وإلا فسد حصاده كاملاً في الليلة التالية. وثمة من قال إنه، مع تقادم العهد بهذه الأسطورة، لم يعد هناك فرق بين زواج المزارع من المرأة وبين قتلها، فبعضهم يزعم أن بعض الزواج ضرب من القتل. والمزارع في سبيل حصوله على حصاد من الأرز ذي الحبة الطويلة الناصعة البياض، سوف يفعل كل شيئ. فمادام الماء الوفير يغمر الحقل فكل شيئ في سبيل ذلك سيكون مباحاً، قتل إمرأة أو الزواج منها.

من هنا نرى كيف أن الماء الوفير سيكون ضرورياً وحاسماً في مراحل عديدة من رحلة الأرز، منذ ساعة البذار حتى لحظة النار، ثم على المرء، بعد ذلك، أن يجتهد لأن يتخلّص من نسبة الماء قدر الامكان في اللحظات الأخيرة من إعداد الأرز للأكل، فكلما كان الأرز معتدل الرطوبة، فيه من الماء ما يكفي فقط لأن يجعله ندياً لامعاً ببياضه زاهياً ومُزَهْزَهاً، كلما توفر لنا طعامٌ لذيذ، يشتهي الشخصُ معه أن يتذكر جيداً شعور ملامسة تلك الحبات الناعمة بين راحتيه وهو يغسله في الماء الجاري. ويبقي أن نستعد للحظة النار الرهيفة.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى