نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

العبء

1

أسنَـدتُـه على جذع النخلة. أعددتُ له قليلاً من التمر واللبن. قلتُُ له. وجلستُ أتأمله وهو يتصل بالطعام. جسدٌ واهنٌ ونحيف، مَـدَّ أصابع معروقة ترتعش كأن البرد / تناول حبة التمر وغمسها في قصعة اللبن. وبدا عليه تعبٌ كأن السنين / لم يتمكن من تناول أكثرَ من ثلاث حبات. وحين حاول رفع القصعة ليشربَ، اهتزتْ يداهُ فاندلقَ، وصارَ الثوبُ لبناً.
حملتُـه على كاهلي ومشيت نحو المدينة. إنه عبئي. خفيف مثل يقظة النسر، لكنه منهك كمن يختزل تعبَ الناس، متعبٌ مثل صخرة تحمل الجبل. وعندما تفاجئه نوبات سعاله ينثر كبده في مزيجٍ يجعل الطريق قانياً. يكاد يتلاشى بين يديّ لكنه يتمالك. يقف بي في منعطفٍ ويحاول رسمَ كلماته في وجهي : هذا وحل الطريق / هذه رائحة البحر / كل ذلك نقيض / أو.... / و يدفع للمجابهات.
أركضُ به في طرقات المدينة. تفتح المخافرُ منافذَها في انتظاره. أجلسه على حافة الطريق ليشرب. فيمد يده في حركة الشحاذين، يتراكض المارةُ ليضعوا قطعاً صغيرة في الكف المعروقة. الكف المثقوبة، فتسقط القطعُ على الأرض. ينظر إلى ذلك ويضحك. يستوقف شحاذين كثيرين، يقول لهم، وهو يشير إلى الأرض :
إنها لكم
يلتفت ناحيتي، فأفهم. أحمله. إنه عبئي. كيف لهذا الجسد أن يحتمل. يطاردونه في أزقة المدينة. ألهثُ به لكي لا يقع، لكنه يقع. دائماً يقع. فيستلمه المدربون. يتنابون عليه. وأنا جالس أنظر إليه، وأرثي لهم. يمعنون في تعذيب الجسد النحيل النافر. في نهاية النهار يتعبون. وهو متهالك هناك. يؤلمني عذابه. لكنه يرمقني بغضب (لا تعبأ بهم)، فلا أعبأ.
لا يوحي بأنه يقدر على شيئ. فأرفعه بحذر لئلا تتناثر أشلاؤه بين يدي. أحياناً أنسى شلواً منه على الأرض، فيلفتني لكي أتدارك بقاياه.
أحمله. هذا العبء. أسرع به إلى ضفة النهر خارج المدينة. أضعه. أرخيه على الرمل الرطب، فينتفض في هيئة عصفور. أغسل جراحه وأرمم ما أصابه من العطب. وأمسح بمرهم الملح خدوشاً أدمتْ أطرافه. وبقليل من التمر واللبن، تحت النخلة ذاتها، ينتعش الجسدُ ويقدر. تضيق بنا الوسيعة. جسد استوطنه الوجع وتناوشته الأحلام. لا تتوقف جراحه عن النحيب ويبدو كأنه يغني وعزفه النزيف الراعف. أطوفُ به المشافي والمصحّات. يعبر غرفَ البنج التي لا تنتهي. تصل إليه مباضع الأطباء. تميته تحييه. تميته تحييه، ثلاثاً.. تسعاً. يتوزع دمه في القناني الكثيرة. وأنا أسحبه من سريرٍ لأدخله في سرير. وحين يصحو من غيمة الألم يضيق بي وبإنتظاري عند فراشه. يُطلُ من سريره المتهالك. يصرخ في الحارس : (إذهبْ من هنا لئلا يقتدي بك الممرضون ويمعنون في سلخ الجلد. إذهبْ). يصدّ جرعة الدواء ويتماثل مثل طفل يتفلّت من القماط ويخرج. يستعد للمجابهات وعتمة المخافر وتناوب المدربين. ليصل إلى النهر والنخلة وحبات التمر وقصعة اللبن. لينتعش. لأحمله. لأثق إنه عبئي. فأثق.

2

بَـرانِـي وشَحَـذَ عظمةَ قلبي بنحيبه الليلي. يأخذني إلى المهالك وهو يشدّ من عزيمتي لئلا أنكسر وأخذل أحلامَـه. أحلامُه أبعدَ من الليل والنهار. ينالني التعبُُ قبله، فأضعه على قارعة الطريق، أباهي به الناس، فتأخذه الغفوةُ لفرط التجربة. يطلع من جسده دخانٌ و رائحةٌ كأن النار تشتعل في عظامه، فيأتي الناسُ يسألون عن المسك الذي يتصاعد من أعضائه، فيضحك ويبتسم ويتهلل وجهه كأنه أوشكَ على إحكام خديعته. وسرعان ما يتفجّر وجعه. يضع كفيه في الصدغين كمن يمنع رأسه عن الانفجار. ويقول لي أن شيئاً يشبه الجحيم يمورُ في رأسه، وكلما وضعتُ له الثلجةَ فوق جبهته زاحَها واستدارَ يدفنُ وجهه في أسمالٍ زاهيةٍ يصدُّ بها هواء الطريق عن جراحه. وعندما يصدر نحيبه في شهيقٍ شفيفٍ ترتجف روحي معه دون أن يكون لي حول ولا قوة. يأخذه نومٌ طارئ فينتابه الحلم، عندها لا تعود تبدو لي حدود حياته من موته. شيئ يتصاعد في بخارٍ يملأ المكان، شيئ يتلاشى في رمادٍ تكتسي به المنعطفات، شيئ يتوزع في ملابس المارة يعتبره بعضهم وعثاء السفر، وبعضهم يناله كأوسمةٍ للزّهو والتباهي، بعضهم يتمسَّحُ بالدّكة التي ابتكرها لشدة مكوثه الطويل في الطريق، يتمرّغُ في صخرةٍ ناتئة كمن يأخذ بركته من ضريح. وهو مثل العبء المقيم لا يَـتَخَـفَّـفُ من تراثه ولا يمتثل لخطوته التالية. وأكاد أجهش بالبكاء فيما أنظرُ إليه ينتفض ويرتعش ويرتجف ويصيبه التحول، فلا يعرفُ أحدٌ أين حدود الشخص من حدود المكان من حقيقة الوقت. عبءٌ يمتدُ بي ويتصل و لا يكترث ولا يعبأ بوطأته علىّ. عبءٌ مثل هذا ليس لي طاقة على احتماله، فقد تعبتُ.. تعبتُ، وآنَ له أن يعتقَ روحي ويأخذ من الجسد ما تبقى. فيأخذ. *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى