النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

مقدمة

أمين صالح

أمس كأنه اليوم.
أراه يحرث الأرض بخطواته الواسعة، وظله الطويل يركض خلفه لاهثاً، ومن صدره المشرّع تخرج طرائد حلمه لتسرد على الأمكنة، التي يمر أمامها، جحيمه العذب.

في العام 1970 قال لي صديق مشترك: تعال معنا هذا المساء لتتعرف على قاسم حداد.. سيعجبك كثيراً .
لكنه لم يعجبني كثيراً.
في الواقع، لم يحب أحدنا الآخر.

كنت كاتباً مبتدئاً .. خجولاً، متردداً، ولا يحسن التصرف (كما أنا الآن). وكان هو معروفاً في الوسط الثقافي. كان يعطي ذلك الانطباع بالغرور، بالخشونة، بالصرامة. لكن وحدهم، أصدقاءه المقربين، كانوا يعرفون خطأ هذا الانطباع.
ذات ليلة، كنا جمعاً من الأصدقاء نسهر في بيته، الفقير إلا من رائحة الريحان وأنفاس ٍ صديقةٍ.

وفي غمرة الضحك والأحاديث الجانبية، أجهش قاسم في البكاء فجأة.

صمتنا احتراماً وحيرة، وكل منا يكبح سؤالاً يختلج في داخله. لم أحاول أبداً أن أعرف لماذا بكى تلك الليلة. لم استفسر. لم يدفعني الفضول، حتى هذه اللحظة، لأن أعرف.
آنذاك فقط شعرت نحوه بالحب. فقد رأيت العذوبة والرهافة خلف مظهره الصارم، ومع بكائه الحلو انكسر السور.
كنت أحتاج إلى وقت لاختراق قناعه، وكان يحتاج إلى وقت لاختراق قناعي. ولم ننتظر طويلاً لكي تغطينا الصداقة بوميضها وبراعمها، لكي تقترن الروح بالروح، لكي يصير أحدنا للآخر ذاتاً أخرى.

***

أمس كأنه اليوم.
أراه يموّج الصور مستعيناً بمخيلة سخية، ويطحن اللغة لينثرها كالندى. يسرد لهاث القلب وهذيان اليأس الذي لا يأس فيه، ثم يرمي كل هذا أمامي مثلما يرمي المدى جهاته غير المفتوحة، قائلاً :
هذه جواشني، فماذا لديك؟

هكذا كان كل منا يحرّض الآخر، يغويه، ويهيب به أن يفتح باباً للغامض الدليل.
وكلما عبرنا معاً إقليم الكتابة، أضرمنا المرايا، وتبادلنا الحبر والرغيف. وعندما انتهينا من (الجواشن) مسّنا الالتباس ولم نعد نعرف من منا كتب هذا أو ذاك، من منا نصب الفخاخ لجذور المساء أو صاغ لكائنات الغيب لغتها ومآزقها ومصائرها ..كأن ذاتاً واحدة كتبتْ ذلك النص.

***

الحياة خذلته كثيراً، و ما كان يطلب إلا القليل.
ومَنْ تقاسم معهم الخبز والبوح، انفضوا من حوله بعد أن شبعوا من خبزه وضجروا من بوحه.
في عينيه تترقرق الطعنات التي تأتيه من كل حدب، غير أنه يذرفها مع كل حلم، ومع كل قصيدة.
يمتشق الدعابة وقت اشتداد المحن، جذرها الألم وملحها الخيبة.
وبالسخرية اللاذعة يخيط خلواتنا أو سهراتنا. وعندما ترفو الغبطة قلبه، يدغدغ المساءات بدعاباته التي لا تنضب. وتحت مظلة المرح يحنو على أوجاعنا.
كم مرة جاء إليه صديق جريح ليضمد بأهدابه الشفيفة جرحه.
وما من مرة ضمّد أحدٌ جراحه.
ربما لأنه كتوم.
ربما لأن اليأس يحصّن روحه الرهيفة كي يستفرد به في كل هبوب.

***

لن يمسّ الحنان روحك ما لم تمسّ أصابعه صدغك.
من يعرف قاسم يعرف أنه يمضي كل ضحى إلى المياه، ويعطي ظهره إلى المدينة الشائخة، راضياً أن ترميه بالاغتياب والنميمة، فيضم يديه على حفيف المدّ، ثم يرنو إلى ثلاث أرجوحات تتدلى من الأفق.
أخطاؤه؟ لا تحصى . شوائبه ؟ أيضا لا تحصى.
لكنه أبدا لا يخطئ في الحب.
حسبه أن يكون نديم الكتابة، ودليل الحرف إلى جهة الشعر.

***

اليوم، يميل أحدنا نحو الآخر، قليلاً، نتهامس، ثم نطلق ضحكة صاخبة يستعصي على الآخرين تأويلها.

***

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى