النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

كلما جاءني طائر من صديق

(إلى الصديق صلاح أحمد عبدالعزيز،
طائر نادر في حديقة القلب)

أمين صالح،
أيقونة الأرشيف السماوي

( 1 )

ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح. هذا شعور سينتابك بعد أن تتعرف على أمين صالح، وهذا هو تحديداً الوصف الذي أحب أن أتمثل به كلما طلب أحدٌ مني وصف هذا الصديق.

مذ تعرفتُ إليه، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وهو الشقيق الأجمل لحياتي. تشاركنا في كل لحظة من لحظات هذه السنوات القاسية كما لو أنها النزهة الخرافية لكائنات لا تحسن النوم إلا في المستقبل، وهذا ما صاغ لنا عائلتنا الصغيرة، التي يشكل أمين صالح سماء رؤوفة لها. لقد نشأت علاقتنا من خلال الكتابة والحياة مثلما تنشأ الشجرة طالعة من كتاب لكي تصبح حديقة في بيت.

( 2 )

هذه شهادة شخصية خالصة، يجب الاعتراف بذلك منذ الوهلة الأولى، وخصوصاً منذ أن طُلب مني، أنا بالذات، الكلام عن أمين صالح. لأنهم يدركون جيداً أن شهادة (مجروحة) كالتي أقولها عن أمين صالح، هي بالضبط ما يريدون، فهي شهادة الصديق على الصديق، شهادة يمكن أن ابدأ بها نصاً لا ينتهي أبدا، لو يعلمون. فهي الشهادة التي لن يتاح لنا فيها معرفة الحدود بين التجربة المشتركة في الكتابة والعلاقة الحياتية الممتزجة بالأفق الإنساني المطلق.

لم أعرف: معنى أن يكون لي صديق، بالمعنى النهائي المطلق، إلا مع أمين صالح. حيث (المعنى النهائي المطلق) للصداقة عندي، هو أن تشعر باستحالة أن تجد في الأرشيف السماوي كائناً في مرتبة بين المرتبتين: الملاك والإنسان. أحب أن ازعم أن ذلك يمكن أن يحدث، وإلا كيف يمكننا الكلام عن اجتراح المعجزات.

هذا صديق لا يمكن تفاديه، وخصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن الكتابة، بالمعنى الأسطوري للإبداع، هي ضرب من عمل الآلهة، وهي خلق مضاعف للحياة سوف تزعمه المضاهاة الجسورة للفعل المقدس، والصداقة التي تنشأ في كينونة خلق من هذا النوع، هي أيضاً مرشحة (أو هي مطالبة بالضرورة) باجتراح المعجزات، التي أشعر بأننا (معاً) لم نتوقف عن اكتشافها كل يوم وكل نص.

مع أمين صالح أزعم أننا نذهب هذا المذهب في حقل الكتابة، إذا تفادينا الحدود التقليدية للتواضع المفتعل، ففي لحظة الحقيقة لا تتنازل الآلهة عن أوجها الشاهق.

( 3 )

بين مخلوقات الله ليس من المتوقع أن تصادف، بسهولة، شبيهاً لأمين صالح، شبيهاً بالمعنى الشعري الذي نتورط فيه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وصداقتي له هي واحدة من المكونات التي صاغت حياتي، لا الأدبية وحسب، إنما الإنسانية أيضاً وخصوصاً. فالدرس الحميم الذي أقرأ فيه الكون معه يتجاوز البعد الثقافي والأدبي، لأن في شخصية أمين من السحر ما يجعلك تشعر بأن ثمة ميزاناً رهيفاً يقدر على أن يسعفك لحظة تحتاج ذلك. لذلك فإننا لم نكن نكتب الكتب معاً، بل نصقل المرايا التي تستعصي على الوصف.

( 4 )

منذ اللحظة الأولى في عالم الكتابة كان أمين صالح قد قطع (علينا) الطريق نحو الشعر، ‘ني أنه سبقنا إليه وصار لنا الطريق والطريقة. فبالرغم من شهرته في كتابة القصة، إلا أن طاقته الشعرية في التعبير وضعته في الجوهر الجميل من الكتابة الشعرية، حتى أن أحد النقاد وصفه مبكرا بأنه شاعر ضل الطريق، وفات هذا الناقد أن أمين صالح كان يعرف ماذا يفعل، سيما وأنه سوف يصوغ لنا النزوع المبكر إلى الخروج على النوع الأدبي الموروث، حتى أنني رأيت في روايته الأولى (أغنية ألف صاد) واحدة من الإقتراحات المبكرة الواضحة نحو النص المفتوح.

لقد كان شاعراً، بالمعنى العميق للكلمة، وربما كان هو أكثرنا شعرية. والشعرية التي أقصدها سوف تتجاوز هنا النص المكتوب لتطال الطبيعة الإنسانية للشخص، حيث سيبدو أمين صالح، حسب معرفتي به، كائناً شعرياً بامتياز في سلوكه اليومي. فهو من الرهافة والشفافية والحميمية، بحيث تستطيع أن تكتشف الطفل المتحكم في طبيعته منذ اللحظة الأولى لتعرفك إليه. وبهذا المعنى، فإنه، حين يكتب، لم يكن يخرج عن حدود طبيعته، حتى أنك سوف تواجه صعوبة في معرفة الحدود بين أمين الشخص وأمين النص. وهذه طبيعة يندر أن نصادفها في حياتنا الأدبية. لكن أمين صالح استطاع أن يقترح علينا طوال هذه السنوات إمكانية أن يحافظ الكاتب على حقيقة التماهي في نصه إلى الدرجة التي تجعله طاقة هائلة من الحب الذي سيفيض دائماً على من حوله، فيقع في حبه كل من يتعرف إليه.

( 5 )

دقيق في تفاصيل حياته تماماً مثل دقته في صوغ كلامه واختيار كلماته، والكتابة عنده هي المبرر الوحيد كيما يرى الحياة ممكنة. يسهر على جملة واحدة أياماً وليال، ولا يقبل النص بسهولة. تؤرقه الكلمة بينما يكتبها، وتعطبه كلمة أخرى يسمعها أيضاً. معه تتأكد بحق من القول الذي يشير إلى أن الحياة ضرب من كلمات يُعاد صياغتها بين وقت وآخر.

( 6 )

الحوار العميق الذي دار بيننا في الكتابة والعمل الأدبي، هو بمعنى ما، انعكاس شفيف للحوار الإنساني المشترك الذي صهرنا طوال السنوات. فعندما كتبنا (الجواشن)، لا اذكر أننا احتجنا إلى نقاش للاتفاق على الفكرة والمشروع وطريقة الكتابة. كان كل شيء يحدث بسلاسة وفي معزل عن التحكم العقلاني أو الذهني، ربما لأننا كنا نمشي في حلم.

وأعتقد أن الأمر برمته كان ضرباً من المغامرة التي تبدأ بدعابة ثم سرعان ما تأخذ شكل الدرس والاستحواذ والمتعة والتحرر من الحدود التي أرهقتنا بها الحياة. في الكتابة، نشأ بيننا ما يمكن وصفه بمضاهاة الحلم. تدربت مع أمين صالح على رؤية الواقع من شرفة الحلم، وهي الطريقة الفاتنة في جعل النص نقيضاً مستمراً للواقع وليس انعكاساً له، كما ظل الآخرون يحاولون إقناعنا. عندنا، النص هو نقيض الواقع، بالمعنى الجمالي العميق للإنسانية. فأنت لكي تصوغ ذاتك في مواجهة ضراوة العالم وبشاعته، لابد لك من التحصّن ضده بطاقة مخيلتك الحرة التي لا تكون فاعلة ونشيطة وصادقة إلا بالحلم، ذلك الحلم الذي أحسن أمين صالح وضعه في المكان الشاهق من سعيه الإبداعي وهو يصوغ تجربته الأدبية.

لقد تعلمت مع أمين صالح أنه كلما صارت الكتابة متعة حقيقية للكاتب، كلما تسنى لها أن تكون كذلك للقارئ. ومضاهاة الحلم، إذاً، هي الظهير القوي لتجربتنا في الكتابة. وبسبب هذه المضاهاة الفاتنة، أصبحت الكتابة لنا فعل الاستمرار في الحياة من أجل وضعها في مهب المستقبل الأجمل، ولا أظن أن ثمة أسمى من أن تكون الكتابة متمثلة في هذا التوق الإنساني النبيل.

لقد منحني أمين صالح، فيما كنت أخرج من تجاربي الدامية الكثيفة الألم، قدرة الصمود أمام كافة أنواع السلطات التي أرهقتني روحاً وجسداً، ومقاومة شتى أشكال الكبح الفكري والسياسي التي رافقت تجربة انهماكي المبكر في العمل الحزبي، وهو عملٌ أستطيع الزعم أنني كنت أقوى منه بما لا يقاس منذ اللحظة التي تعرفت فيها على أمين صالح، حيث أصبحت الكتابة قوتنا ضد كافة السلطات؛ الكتابة بوصفها حرية الكائن وجنته.

منذ تلك اللحظة بدأت فكرة الجمال الفني تأخذ بعداً أكثر عمقاً ومسؤولية ومتعة. وعندما تجد صديقاً مثل أمين صالح، سوف تدرك معنى تبادل أنخاب الكتابة، بما يشبه المضاهاة المشتركة نحو النص، كما لو أننا كنا نكتب لإثارة إعجاب بعضنا البعض، ومن هنا كان يبدأ نجاح النص أو فشله بالنسبة إلينا. لأن تحقق ذلك الإعجاب لم يكن سهلاً لأحدنا، كأننا كنا نطلب النص المستحيل، النص غير المكتوب على قياس نص سابق.

( 7 )

في سياق التجربة الأدبية في هذه المنطقة من العالم، شكلت تجربة أمين صالح طاقة تأثير حميمة لكتابات عربية كثيرة، لا تزال ترى فيه المحرض الصادق على كتابة مختلفة، في بنية النص، شعراً ونثراً. وهي مسألة يعترف بها شباب كثيرون، ويرون في مقترحات نصوصه الأفق الذي تطمح إليه كتاباتهم منذ البدايات. فهو من بين أهم التجارب العربية التي ساهمت في تأسيس حساسية جديدة في الكتابة العربية منذ بداية سبعينات القرن الماضي، بصمت خفر لكن بثقة رصينة الانجاز.

( 8 )

نزوعه الشعري يجعله يعبّر عن حسده للشعراء، حتى أن اهتمامه بالشعر يبدو مثيراً ولا يستقيم مع شخص عرف عنه أنه كاتب قصة وروائي. غير أن هذا هو الطبيعي منذ أن عرفته. فالشعر عنده لم يكن مقتصراً على القصائد، وهذا هو البعد الذي أشرت إليه قبل قليل، عن عمق حساسية أمين صالح الشعرية، فهو منذ البدء كان يرى الشعر في كل تفاصيل حياته وخصوصاً في كتاباته. فبالإضافة إلى ولعه الجنوني بفن السينما منذ بدايته الثقافية، كان قانون الشعر وقيمته هما اللذان حكما علاقته بالمكونات الأساسية لمعرفته الأدبية والفنية. فهو أحب الشعراء في كل فنون التعبير التي انهمك في التعرف إليها والتقاطع معها.

وقد أحب تاركوفسكي وبيرغمان في السينما، وماغريت وميرو في الرسم، وجورج شحادة في المسرح، وديستوفسكي وكافكا وكونديرا في الرواية، وبارت في النقد، وسان جون بيرس ولوتريامون وأدونيس وسليم بركات في الشعر. وهذا ما جعل علاقتنا اشتباكاً شعرياً متواصلاً ساهم في صقل وتأجيج متعتنا المشتركة في الكتابة، وساهم بالضرورة في الاحتكام الصارم للذائقة المشتركة تجاه ما نكتب، وسوف نتبادل صراحة القراءة لكل ما نكتب.

( 9 )

إن تفاهمنا في الحياة منقطع النظير، حتى أننا في مواقف كثيرة لم نكن في حاجة إلى الكلام لنقرّر أو نتفق أو نذهب أو نعود أو نفعل الأشياء. يكفي أن نتبادل النظرات لنعرف ما نريد. ثمة حوار روحي عميق من شأنه أن يفتك بنا إذا ما تعرض أحدنا لأي مكروه.

لا أحد يحسن العودة من السفر مثلما يفعل أمين صالح.
فهو بعد أن يقيم ورشة الإستعداد لسفر إلى مكان ما، مستغرقاً أياماً في ذلك، وبعد ان نغادر ونصل إلى ذلك البلد، سرعان ما يقف في اقرب شرفة في الفندق، لكي يلتفت ناحيتي، وقبل أسمع سؤاله قائلاً: (ما رأيك؟). سوف أدرك لحظتها أنه يفكر جدياً في العودة إلى البحرين. والمشكلة أنني أجد في هذا السؤال جواباً يمسّ شغافي، فبالنسبة إلي، العودة إلى البيت (من أي مكان في العالم) هي نعمة تضاهي الجنة. وبالنسبة إلى أمين صالح، البيت هو المكان الآمن الوحيد في الكون. وأذكر أن أمين صالح هو الذي اكتشف لي جملة (كافكا) المذهلة التي تقول: "إن مجرد عبور عتبة البيت مغامرة غير مأمونة العواقب". وهكذا نجد أنفسنا بعد قليل في مقعد الطائرة عائدين الى البحرين مثل أطفال يهرعون خارجين من أسوار المدرسة ناحية الدار.

لا أحد مثل أمين صالح يحسن العودة من التجربة أيضاً.
فما من مرة عدنا من تجربة إلا وكنا مفعمين بالحكمة والحب والمعرفة والكتابة التي نعشق. وأحب هنا الإشارة إلى ضرورة تجاوز المفهوم الحرفي للمشاركة المتواصلة في ورشة الكتابة بيني وبين أمين، فالأمر لم يكن مقتصراً على النصوص التي أنجزناها مطبوعة معاً، مثل (الجواشن) و(موت الكورس) و(الدم الهاطل)، فما أعنيه في الواقع تلك الروح الغامرة التي لم نتوقف طوال هذه السنوات عن الإستغراق في مباهجها الفنية.

ثمة تداخل غامض يمكن رصده والحديث عنه في العديد من نصوصنا التي نشرت لنا في كتب منفصلة، حيث أجواء الحوار العميق بين تجاربنا اليومية، سوف تجعل كلاً منا قريباً من تجربة الآخر ومساهماً فيها بشكل من الأشكال. وهناك مثلاً ملاحظات قيّمة على نصوص لي طرحها أمين بعد الكتابة أفادت الصورة النهائية للنص، كما أن هناك اقتراحات متبادلة لبعض عناوين النصوص، وأشكالا غير قابلة للرصد نقبلها من بعضنا في المراجعات الأخيرة للنص.
بهذا المعنى أستطيع الزعم أن مثل هذه التجربة هي بمثابة الدرس الفاتن للمفاهيم الفنية التي نسعى دائماً إلى اكتشافها وبلورتها ومغادرتها، على عدة أصعدة: الكتابة المشتركة، والنص المفتوح على مختلف الآفاق، وتجاوز أنواع التعبير، وخصوصاً على الصعيد الأشمل وهو مفهوم النص غير النهائي، حيث الحلم الباذخ الذي يشكل بالنسبة إلينا وضع الكتابة في مهب المخيلة الحرّة.

( 10 )

لكن هذا لا يعني أننا متشابهان في طبيعة الظاهر، على العكس، فطبيعتي الانفعالية سوف تحتاج دائماً لطبيعته المتبصرة التي تقارب الحكمة. ونحن مختلفان في بعض التفاصيل التي لم تكن مدعاة لأي اختلاف، فهو مثلاً قد أعلن ذات مقالة عن ضجره من المسرح الذي (كنت) أحبه، وهو أشار إلى خلودي إلى النوم في قاعات السينما التي يعشقها حد الجنون.

دائماً، ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح. أقول ذلك، لأن صديقاً لم يضمد جراح حياتي مثل أمين صالح، ولم أعرف أحداً يصعّد مفهوم الصداقة الإنسانية بالمعنى الأمين والصالح.. مثله،
وما عليكم إلا أن تبحثوا عن هذه الأيقونة في الأرشيف السماوي،
فلن تعثروا عليها في مكان آخر.

(*) شهادة كتبت لملف عن أمين صالح في جريدة (الرأي) الأردنية- 31 أغسطس 2001

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى