النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

المتنبي،
يشحذ الحجر الكريم على كبدٍ مفدوح

ثمة مستويات مختلفة لتجليات نص المتنبي في التجربة الشعرية العربية المعاصرة. هذه المستويات سوف تتصل دائماً بقدرة الشاعر المعاصر (بوصفه القارئ الخاص) على اختراق النص، ثم إعادة إختراقه. وهنا سأتكلم عن تجربتي الشخصية، لأنها ربما تكون نموذجاً قد يتكرر ولو بدرجات مختلفة الحساسية، لدى عرب معاصرين غيري.

ما اقترحته المناهج المدرسية الأولى هو بمثابة الطرد المبكر عن نص المتنبي، وحجبه أيضا، ليس لبلادة الاختيار التقليدي لنصوص مناهج الدرس وحسب، إنما لفجاجة الشرح والتفسير الباليين اللذين اعتمدهما ذلك المنهج أيضاً. وهذا ما جعلني بعيداً تماماً عن هذا النص، مثله مثل التعامل السائد مع النصوص التراثية.

وبعد أن بدأت تلمس حجارة الطريق الشعري الأولى، كنت غالباً ما أصادف المتنبي شاعراً يتقاطع مع كل التجارب الشعرية العربية في مختلف العصور، من غير أن أدرك المعنى الإبداعي لهذا التقاطع، على الأقل بسبب حماسة الشعرية الحديثة المفرطة التي كانت تضع متن التراث الشعري في مجمله في خانة التقليد، إلى جانب الترويج إلى ما يمكن وصفه بالشاعر المدّاح عند توصيف تجربة المتنبي، سياسياً وأخلاقياً، حتى أني كنت قرأت لأحد الشعراء الشباب في ما مضى تصريحاً يقترح فيه رمي ثلثي شعر المتنبي في زبالة التاريخ، فاستنفرتُ لنوع جديد من الفجاجة التي يتقمصها الجهل الأدبي المعاصر.

وأظن أن مثل هذه الإجتهادات ستظل أحد معطيات الحجاب السميك الذي أسسته النظرة المزدوجة الجاهلة (التقليدية والحديثة) التي لا ترى في نص المتنبي سوى المدائح المنظور إليها من خارج الرؤية إلى النص بوصفه إبداعاً وجودياً. لكن الأمر سيتوقف دائماً على التقدم في النضج والتجربة والمعرفة، وتالياً على موهبة القارئ التي لا أعتقد أنها تقل خطورة عن موهبة الكتابة.

ويمكن للقارئ، فيما يقترب من نص المتنبي، مدججاً بحريته، أن يكتشف الطبقات والمستويات الأكثر عمقاً فيه، ليس باعتباره نزوعاً تعبيرياً عن الروح الشامخ الذي يصدر عنه الشاعر، ولكن لأن مثل هذا النص الموصوف بالمبالغة في الذهاب إلى المديح في معظم تجلياته، هو في الجانب الخفي منه، شهوة متواصلة لحضور الشخص الإنساني بنوع من فعالية شعرية كانت تشحذ لغة التعبير بأكثر المنحنيات البشرية تعقيداً وأشدها مضاضة، خصوصاً إذا وضعنا في الإعتبار اقتراحاً مفاده أن المتنبي لم يكن يمدح، في العمق شخصاً غير ذاته العليا.

( واقفٌ تحت أخمصيّ قدر نفسي
واقفٌ تحت أخمصيّ الأنامُ)

هذا هو تحديداً ما يجعل نص المتنبي أكثر تعقيداً مما يبدو للقارئ المتعجل. أقول "مما يبدو" وأنا أستعيد غير مرحلة من المراحل التي كنت أعود فيها لقراءة المتنبي مخترقاً طبقة بعد أخرى، ومكتشفاً هذه الجماليات التي تشي بالسر الكامن في قدرة المتنبي على (صقل) اللغة الشعرية. وفعل (الصقل) هنا هو غير فعل التجديد الذي لم يكن حظ المتنبي منه يضاهي حظ شعراء غيره من أمثال أبي تمام وأبي نواس وابن الرومي. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن الشاعر من شأنه أن يجد ذاته الإبداعية في تجليات شتى، ربما ضاهت التجديد التقني ومسّتْ الجوهر البعيد في لحظة من اللحظات الإبداعية. لهذا أعتقد أن سر المتنبي كان في قدرته في السبر والتأمل من جهة وجسارة شهواته البشرية من جهة أخرى، على صقل جماليات البلاغة العربية تنظيفها من إرثها كثير الاستعمال ، كمن يشحذ الحجر الكريم على كبد مفدوح. كأنه مولع بإنشاء القواميس.

لكن، لكي لا يبقى المتنبي ذريعة يتمترس وراءها المداحون المعاصرون، سوف يستدعي الأمر، لمن يمدحون، موهبة شخصية استثنائية مثل المتنبي، قادرة على إقناعنا، دائماً، بأنها أكثر عبقرية من الممدوحين أمراء وملوك، وأكثر براعة من مجرد عرض الأحجار الفاسدة على قارعة الطريق، لئلا نرى في سلوكهم الفجّ كناية عن شخصٍ يَسْلحُ على ممدوحه.

لقد كان المتنبي يجعلني أشعر كلما عدتُ إلى نصوصه، كما لو أنني جمرة ملتهبة متأججة، لا تهدأ في مكان ولا تستقر، ولا يقدر شخص على الإمساك بها، وهذا هو تحديداً الدرس الذي يحضرني كلما تعلق الأمر بالمتنبي، شخصاً ونصاً.

وأظن أنه لكي يتسنى للأجيال الجديدة الإستمتاع والتلذذ بإنجازات المتنبي، لابد من تفادي الحجاب السميك الذي يحول دون اختراق النص، هذا الحجاب المتمثل في فرض النظر إلى شعر المتنبي بوصفه مديحاً، ففي هذه النظرة الكثير من القصور الفني والقلق الأخلاقي، لأنها تشي بتجريد النص من الشخصية الإنسانية المحتدمة للشاعر، أي شاعرٍ كان.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى