النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

صلاح عبدالصبور،
فتحنا هدياكَ بعد المغادرة

( 1 )

مثل شخص يزورك ليمنحك هدية لا تفتحها إلا بعد مغادرته، لتكتشف آنذاك الهدية النفيسة، النادرة وذات الدلالة، التي تركها لك، فيتفجر حبك له، وتشعر بفداحة خسارتك، لأنك لم تنل منه ما يكفي من العناقات والاحتضانات وتبادل الأنخاب، ولم ينل منكَ ما يكفي للتعبير له عن هذا الحب.

هكذا أشعر دوماً كلما تذكرت الشاعر صلاح عبد الصبور، كما لو أن هذا قد حدث لي شخصياً مع هذا الشاعر. حيث تتداخل تجربة الشاعر والإنسان.

بالنسبة إلي، فإن عبد الصبور هو أحد الشعراء الذين لم اشبع من التعرف إليهم بما يكفي على الصعيد الشخصي، فالمرة الوحيدة التي التقيته فيها عام 1970 في الملتقى الشعري الأول في بيروت، كان لقاء بمثابة البرق في حياتي. بالرغم من أن الأثر الشفيف الذي أحمله عن ذلك اللقاء، لا يزال يسعفني بحضور غامض، كلما بدأت في قراءة أحد نصوصه.

( 2 )

الآن، عندما نستعيد وقائع التجربة الشعرية الحديثة وتأثير عناصرها المكونة المبكرة، سوف يتأكد لنا التأثير الجوهري لتجربة عبد الصبور على النسيج الداخلي لنصوصنا الوسيطة. هذا التأثير الذي لم يكن يجري الانتباه له من طرفيْ العملية الشعرية: الشعراء والنقاد. والسبب في ذلك يعود إلى وهم القطيعة المزعوم الذي كان يتداوله شعراء شباب في عنفوان بكوريتهم من جهة، وإلى طبيعة الخطاب النقدي وذائقته المبرمجة التي كانت تخضع إلى أوهام الصوت الضاج في المشهد الشعري والصادر في معظمه عن فجاجة واقعية النص وشعاريته الصارخة. وهذا ما جعل الكثير من المراجعات النقدية في حينه، تغفل فيما تتأمل تجارب بعض شعرائنا الشباب، وفي الأجمل من نصوصهم، عن أن هذه النصوص في العمق إنما تتقاطع مع تجارب خفية مثل تجربة صلاح عبد الصبور.

أكثر من هذا، فإنني أستطيع الزعم بأن معظم تجارب الشعراء الشباب المصريين كانت تمتح لغتها، في أبرز نصوصها، من الورشة خفيضة الصوت، هادئة الآلة، التي سهر عليها صلاح عبد الصبور في زهرة حياته. والشباب الذين عُرفوا بتأثرهم بأدونيس، كانوا حقيقةً لا يخرجون في غالبيتهم عن الشبكة الشفيفة التي نسجتها تجربة عبد الصبور، بمن فيهم الذين تطرفوا في إعلان القطيعة مع تجارب الشعراء السابقين. وسيتيح لنا الدرس النقدي المتأني والرصين، كما سيكشف لنا اللاوعي الشعري (حيث لا نكون صادقين إلا هناك)، درجة الحميمية التي تحتفظ بها تجربة هؤلاء الشعراء تجاه تجربة عبد الصبور.

ومن المعروف عن شعراء مصر أنهم قراء شرهون (لئلا أقول شرسون)، فهم عندما كانوا يقرأون نصوص التجارب السابقة عليهم، كانوا يلتهمونها بكل المقاييس، وإذا أخذنا في اعتبارنا الإحتمال المنطقي في أن معظمهم إنما تفتّح على الشعر المصري قبل غيره، فالأرجح أن النص الذي كان أقرب إلى أحزانهم الجارحة هو نص صلاح عبد الصبور وليس غيره. أما تأثرهم الآخر فسوف يأتي لاحقاً، بعد أن تكون اللبنة الأساسية لبنيتهم الشعرية قد أنجزت بامتياز.

وعلينا أن لا نقلل من الضرورة النقدية التي تفرض علينا دائماً تجاوز إطلاق الأحكام المتسرعة والافتعال الصحافي الخفيف، من أجل أن ننتقل إلى النظر المباشر إلى النصوص. فمن خلال دراسة هذه النصوص ومقارنتها لابدّ أننا سنكتشف المزيد من العناصر الجوهرية التي تدلل على تقاطع تجاربنا مع الأصوات التي سبقتنا، ولا بدّ أن اعترافنا بمثل هذه الدروس، سيمنح تجاربنا المزيد من الشعور بالثقة في كل ما اجتهدنا به في عملنا الشعري.

( 3 )

كمثال، لابد لنا أن نتأكد من الدرس الشعري الذي أدركه الشاعر أمل دنقل في تجربة صلاح عبد الصبور، فرغم الاختلاف الظاهر بين أجواء تجربة الإثنين، فان دنقل هو من بين أكثر الشعراء المصريين الذين أدركوا كنه البنية الفنية ولعبة العلاقات اللغوية في الكتابة الشعرية التي تقوم عليها قصيدة عبد الصبور. ولعل من طبيعة موهبة أمل دنقل أنه حقق الإستفادة القصوى من تجربة عبد الصبور دون أن يبدو مقلداً لها أو معيداً لإنتاجها. وما علينا إلا أن نعيد قراءة قصائد مختلفة لدى عبد الصبور (أغنية للقاهرة، مثلاً) لنتعرف على بعض ملامح الحساسية الفنية التي صاغ بها أمل دنقل قصيدته دون أن يشبه أحداً سواه. ثمة رشاقة البناء الإيقاعي، وحميمية الروح الشعبي غير المبتذل، وتألق السخرية السوداء في الصورة الشعرية، وقبل هذا وذاك ثمة ذلك الحزن النبيل.

(4)

كل ذلك سوف يؤكد لنا الحضور العميق لتجربة صلاح عبد الصبور في لاوعي التجربة الشعرية المصرية الجديدة بشكل خاص. وهو حضور لم يسع إليه عبد الصبور بالمعنى المدرسي، لأنه كان نقيض للأكاديمية، ولم يتأت بفرض الأبوية عليهم، لأنه كان ضد هذا الدور ولم يحسنه.

ولعل رصانة الشخص في الحياة هي ما يمنح نصه الرصانة الفنية الجديرة بالثقة. فالخفة التي طالت جوانب عدة من مشهدنا الشعري العربي، ليست إلا انعكاساً مضجراً للخفة التي ينمّ عنها سلوك البعض في حياتهم لمضاعفة يأسنا.

لذلك أشعر بأن الصفات الإنسانية في شخصية عبد الصبور هي التي ستجعل الشباب يلمسون فيه الصوت العميق للروح الشعري في لحظة التحول التاريخي لتكوينهم الإنساني. بل إن نظرة عميقة في حساسيته الإيقاعية، من شأنها أن تكشف عن النزوع غير الضاج نحو تحرير النص من صناجاته الخارجية، الأمر الذي سيروق لشباب الكتابة الجديدة، حيث الأفق الرحب الذي أشارت إليه تلك التجربة. لقد كان عبد الصبور يشتغل على القصيدة بوصفها عملاً فنياً يستحق السهر ويستدعي التأمل.
بهذا المعنى أقترح أن نرى إلى علاقتنا بالتجارب التي سبقتنا. ولا أظن أن الشعراء المصريين اليوم، (فيما يستعيدون مفقوداتهم الغالية من تاريخ قريب يوشك على الذهاب) سوف يختلفون معي حول علاقتنا الحميمة بتجربة عبد الصبور، في كونه الشخص الذي ترك لنا هديته النفيسة التي فاتنا أن نفتحها في حضوره، والتي عندما فتحناها وجدنا أنه قد ترك لنا قلبه فيها.

( 5 )

أحب أن نقرأ صلاح عبد الصبور مجدداً، لكي نتأكد من صحة مواقع خطواتنا المترددة حتى هذه اللحظة، ولكي نأخذ درسه الهادئ همساً حنوناً لقلوبنا، وناره الخفية قنديلاً حميماً لطريقنا الشائكة.

وإذا صح لي أن أستحضر نصاً صغيراً مكتنز الدلالة، على الصعيد الإنساني، سوف أقترح هذا القول الذي يساعدنا على فهم جوانب شخصيته وتجربته في الحياة والنص:
"هل من الواجب أن يكون للعظمة بريق؟ أليست العظمة الحقيقية هي صدق الإنسان مع نفسه. ذلك الصدق الذي يجعله شريفاً ونبيلاً وجسوراً، ومضحياً بنفسه إلى أبعد الحدود. ولكن دون أن يتكلم. "

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى