النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

أمجد ناصر،
يكتب كمن يصقل المرايا

( 1 )

أن تكون اللغة أوجُكُ الذي تشمخ به لكي تحسن اكتشاف الجمالات التي يتيحها لك شعر أمجد ناصر.
هذا ليس شرطاً، انه رجاء.
هذه المرة، هنا بالذات، الآن، أكتشف السبب الغامض الذي يجعلني أحب نص أمجد، وأشعر بضرب من الاطمئنان فيما اقرأ قصيدته.
إنها اللغة.

غير مرة كنتُ أقول أنه، في ما أقرأ القصيدة العربية الجديدة، لابد لها أن تقنعني بأنها مكتوبة باللغة العربية. فكيف ينبغي لي الشعور بالروح العربي إذا لم تتمكن القصيدة من اقتراح لغتها العربية الخاصة على سليقة القارئ؟

اللغة العربية ليست حروفَ أبجديةٍ أو كلماتٍ منظومة ومصفوفة ومرتبة وحتى مموسقة أو موزونة فحسب. اللغة العربية هي الروح الشعري الغامض الذي يستعصي على الوصف المباشر العقلاني القائم على منطق قياس المادة وفيزياء الدلالات الملموسة. اللغة هي أن تشعر بأن النص قد ولد تواً من عبقريات الجمال الرهيف الذي صقلته تجربة الكتابة العربية وأثثته الروح العربية الطرية منذ الأزل. اللغة هي تلك العلاقات اللامرئية والمتوهجة بفعل تجربة العشق الكثيفة التي لا يطول كنهها إلا الشاعر وهو يصوغ بها تدفقات بوح روحه، فيما يمزجها بلحظته الذاتية المتناهية العمق والطفولة في آن.

هذا هو تحديداً ما أزعم أنه السبب الغامض الذي يجعلني أحب شعر أمجد ناصر. وبالطبع ليس ثمة حياد في مثل هذه التجربة. فمن بين ما لا يحصى من أقران أمجد ناصر من الشعراء الشباب، لا يوجد من يمكن مقارنة لغته بلغة أمجد بسهولة. لأن سواه سوف يتعرض غالباً، إلى ما أسميه إشكالية لغة الحياد في النص. وأعني بالحياد هنا هو ذلك التذبذب بين الروح العربي في اللغة والتفريط المبالغ فيه في جماليات اللغة العربية بوصفها طريقة تعبير وذائقة للشاعرية في النص. وهما شرطان أرى إليهما في كونهما من الملامح التي تمنح الكتابة الشعرية العربية الجديدة طبيعتها الخاصة في مشهد الكتابة الشعرية في العالم.

ولست ممن يميلون إلى التفريط في مثل هذه الملامح، لأنني أشعر بأننا سنتعرض لخسارة فادحة عندما نتنازل عن هذه الجماليات الفاتنة التي تتيحها لنا اللغة العربية، في جذرها العبقري، وتمنحها لنا الطبيعة الإنسانية لهذه اللغة بوصفها من بين أبرز الخصوصيات التي تتجاوز حدود مفاهيم الهوية الضيقة، لتشكل العمق الكوني لما يسعى له الشعر في المطلق عبر حواره مع العالم.

وليس من الحكمة أن نكتب نصنا الشعري الجديد من غير أن نكترث بهذا التراث الكثيف من التجربة الجمالية التي اكتنزت بها اللغة العربية عبر المنعطفات الكبرى في معطيات الكتابة الأدبية العربية، وخصوصاً عندما نتأمل المعنى لهذه الثروة الغنية التي تمثلها لغة عمرها أكثر من أربعة آلاف سنة، لم تضعف أو تندثر أو تنصهر في غيرها، وعليه فهي حسب التاريخ الثقافي، أقدم لغة حية على الإطلاق.

( 2 )

الآن وهنا تحديداً، يجوز لي القول أنّ هذا التداعي هو ما يفسّر علاقتي الحميمة بكتابة أمجد ناصر. وأظن أن أهمية التجربة الشعرية تكمن في قدرتها على جعلنا ندرك العمق الإبداعي والمعرفي الذي تقترحه علينا، بوصفها القضية الأبعد من النص والقصيدة، والأكثر تغلغلاً في البنية الروحية لحياتنا.

ولكي لا نفلت من سطوة هذا التداعي، أتذكر أنني، غير مرة، كنت أقول، إزاء النص الشعري الجديد، أن أكثر ما يقلقني هو إحساسي بأنني في حضرة نص مترجم عن لغة غير عربية ومكتوبٍ بالعربية. وهذا هو الأمر الذي لم يكن يكترث به الكثيرون من الشعراء فيما يصوغون لغتهم لحظة الكتابة وبعدها. بل إن النقد الجديد لم يتوقف أمام هذه الظاهرة بالصراحة والجرأة الضروريتين، لئلا نبالغ في الزعم بأننا نكتب شعراً عربياً فيما نفرط في الماء السري لجماليات اللغة العربية. بل إن ما كان يصدمني حقاً أنني حضرت غير موقف سمعت فيه ما يشي بالزعم الواعي لعدم الاكتراث باللغة العربية وتجلياتها الخاصة وجمالياتها المائزة، لأن في ذلك الاكتراث حسب زعم الزاعمين، صنيعاً تقليدياً يصدر عن حساسية تراثية ويخضع لها. أكثر من هذا، سوف يزعق أحدهم ذات جلسة مصرحاً أنه لم يعد يحترم شروط اللغة العربية إلى درجة أنه (يدوس) بقدمه اللغة عندما يكتب. وقتئذ تأكد لي بأن ثمة مشكلة وشيكة الحدوث علينا الإنتباه لها، إذ بأي شيء يمكنك أن تحسن التعبير في النص الأدبي إذا لم تكن تحترم لغتك وتحبها وتعشقها أيضاً؟

( 3 )

الآن وهنا، أستطيع التيقن من أن ما وضعني في مهب تجربة أمجد ناصر إلى درجة الهيام، هو هذا الأمر الذي استطاع هذا الشاعر أن يحققه لي لحظة قراءة شعره. ليس في وصفي قارئاً فقط، إنما باعتباري عاشقاً للغة العربية وشاعراً أيضاً وخصوصاً. فالشاعر الذي يحتفي بلغته ويفتح لها الآفاق الرحبة من جماليات مخيلته الشعرية من شأنه أن يمنحني أنا الشاعر المتضرع للغة كيما تسعف نصي، الثقة في النفس والتأكد بأن ثمة من يصقل لنا المرايا لكي نحسن الرؤية ونباهي بأننا ممن يفتحون أبواب الرؤيا للآخرين، مسلحين بقدر كبير من جذوة اللغة ولهبها الأصيل واللامتناهي.

هنا تكمن اللحظة السحرية في تجربة أمجد ناصر الشعرية. فأنت لا تقرأ نصاً مترجماً، ولا يذكرك شعره بلغة من خارج النص. ومن بين أقرانه سوف تلاحظ (إذا كنت قد أفلت من سطوة مقاربات لغة النص المترجم) جمال أن يكون الشعر الجديد مكتوباً بلغة عربية خالصة، دون أن يكون في هذا نزوع إلى تقليد يستلزم القدح، فليس نقيصة أن يكون الشاعر العربي محتفياً بلغته العربية، وإلا كيف لنا أن نميّز شعرنا عن شعر الآخرين، إذا ما تمّ التفريط في أهم خاصية من خواصه التعبيرية والبنيوية في حين أنها أداة تعبيره الأساسية؟ ثمة جماليات سيكون وبالاً علينا إذا نحن تفادينا حضورها البهي في كتابتنا الأدبية.

لكنّ أمجد ناصر، من غير أن يطرح علينا خطاب المباهاة اللغوية أو التنظيرية، وبسبب إخلاصه العفوي لتراثه الشخصي والجمعي الذي سوف يشكل جوهرة المراصد في مجمل تجربته، استطاع أن يجعلني أشعر بالاطمئنان بأن ثمة كائنات شعرية لا تزال قادرة على منحي لحظة الثقة بأن بوصلتي لم تخطئ. وهذا هو الأهم في التجربة الشعرية؛ أن تقدر على علاج المسافات الكونية بين التجارب الأدبية والتجارب الإنسانية. ففي المشهد الكوني، لن يكترث بنا الآخرون إن كنا نكتب مثلهم، ولن يفعلوا إلا إذا اكتشفوا أنّ لنا طريقة خاصة ومميزة لا تشبههم ولا تشبه أحداً سوانا، وخصوصاً إذا تعلق الأمر باللغة.

( 4 )

الآن،
تستطيع أن تفتح كتاب (سُر من رآك) و(مرتقى الأنفاس) أو (وردة الدانتيلا السوداء)، لتكتشف ما أردت الإشارة إليه، وتلاحظ أن بنية الجملة الشعرية عنده لا يمكن أن تكون صادرة إلا عن سليقة اللغة العربية أصلاً. كذلك، من شرفة الصورة الشعرية، فإنك ستلاحظ أن المخيلة الشعرية في النص لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة باللغة العربية وجمالياتها. إذ ليس من غير دلالة الربط بين أداة التعبير وأسلوب الاشتغال المخيالي في الكتابة الشعرية، وإنْ كنا في حاجة دائماً إلى نقاد مختصين يضيئون لنا مثل هذه الجوانب المحورية في تجربة الكتابة الشعرية العربية الجديدة.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى