النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

محمد الماغوط،
يحرث بأطراف الكائن البشري

( 1 )

في ذروة مكتشفات شعراء مجلة (شعر) لمقترحات الحداثة الشعرية الأوروبية، وفي غمرة انهماك شعراء العربية المحدثين في مشروعهم التموزي المتألق في تفاؤله، وفي معزل عن ورشة الشعر المفعم بهواء الحلم الثقافي الصاعد (فكراً ورؤية ومبتكرات)، طلع محمد الماغوط، من الركن القصي للمشهد، مجترحاً حزنه ولمسته الجارحة للعتمة المسكوت عنها في سياق مشروع الحلم القومي الناهض، ليفجّر ضوءه الأسود في (غرفة بملايين الجدران) معلناً علينا حزناً صادقاً جريئاً يمسّ الشغاف : (الفرح ليس مهنتي).

( 2 )

الآن،
أريد أن أرى في تلك اللحظة المفصلية منعطفاً رؤيوياً، ليس على صعيد التعبير الشعري بكونه منفلتاً عن تخوم التفعيلة وأقفالها، إنما وخصوصاً، على صعيد الرؤية الشعرية المناقضة لمشروع التفاؤل العام الذي كاد يشمل مجمل المتن الشعري العربي في تلك اللحظة، بمن كان فيه مع تلك الأحلام (أيديولوجياً) أو بعيداً عنها (سياسياً). فقد كان الجيل العربي كله منهمكاً في ورشة ذلك الحلم، معتبراً مجرد الغفلة عنه بمثابة قصر في النظر إلى (المستقبل) وقصور في الفعل عنه. هكذا كان المشهد الذي صار التفاؤل الفظ عنوانه الأول والرئيسي والغالب.

وهنا نستطيع أن نكتشف قوة الصدمة وعمق الدلالات الإبداعية التي أحدثتها نصوص محمد الماغوط في تلك اللحظة. وأريد أن أقترح أنّ هذه الخاصية المتميزة في جرأة الرؤية الحزينة الجارحة والأبعد غوراً من التشاؤمية، هي العنصر الجوهري الذي منح تجربة الماغوط أهميتها الكونية في سياق حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر. وأظن أن خروجه عن التفعيلة لم يكن هو (فقط) ما ميز شعريته عن جيله (قبله قليلاً، وبعده كثيراً)، وخصوصاً إذا ما لاحظنا أن ثمة تجارب رافقت الشاعر بدر شاكر السياب أو ربما سبقته قليلاً في كتابة القصيدة الحرة، لكن دونما أن تخرج عن سكة التفاؤل التي تطلبها مشروع نهضة الحلم العربي في تلك اللحظة.

( 3 )

غير أن حزن الماغوط لم يكن حزن الرومانسيين المتثائبين على جسر التنهدات. لقد كان يضع أحداقه في الدم الفائر فيطفر حتى صدغيه. وهذا ما جعل كتابته تفتح أرضاً غير التي فتحتها مجلة (الآداب) أو التي ذهبت إليها مجلة (شعر). كان محمد الماغوط كائناً وحشياً (طافراً) من غابة تغرس جذورها في أجسادنا وأرواحنا، دون أن يعبأ أو يكترث بالكلام عن البدائل، أي دون أن يطرح خطابات الأحلام في شعره على غرار ما كان في شعر الآخرين، الأمر الذي لفت نظر الشعراء العرب ودفعهم إلى محاولة إيجاد نافذة جديدة في عالمه تطلّ على أفق مغاير.

وكنت عندما أجلس إلى كتاب (غرفة بملايين الجدران) أشعر برهبة غامضة لفرط المسافة التي كان يتوجب عليّ أن أقطعها بعد (أنشودة المطر)، أو (أحلام الفارس القديم) أو حتى (أغاني مهيار الدمشقي)، لكي أصل إلى الأرض التي يحرثها نص الماغوط بعظام أطراف كائنه البشري.
لم تكن المسألة تتصل بالشكل دائماً، وأخشى أنها لم تتوقف عنده أبداً. فالروح الجديدة عند الماغوط هي ما ميّزت شعره بقوة، ودفعة واحدة، عن رفاقه، وبها تكمن أهمية تجربته الشعرية.

( 4 )

لكن،
بعد ذلك كله، وبعد حوالي جيلين من الشعراء العرب، هل يمكننا الزعم بأن الأجيال الجديدة، وهي تطرح علينا الصوت عن الحداثة والتجديد في الكتابة الشعرية، منافحة عن حقها في التجديد، محتجة بمن سبقوها من الشعراء، ومن بينهم خصوصاً محمد الماغوط، أعني هل نستطيع القول، من دون قلق، أن الأجيال الجديدة قد قرأت حقاً تجربة الماغوط الشعرية بالشكل الذي يتوجب به على شاعر أن يكتشف تجربة شاعر آخر؟ أطرح هذا السؤال، ليس ترفاً، ولكن لأن قلقاً ينتابني وأنا أرقب العديد من الكتابات الشعرية الشابة وأعيد تأملها باحثاً عن ملامح تشي بأن ثمة وعياً لمجمل الإنجاز الشعري العربي الحديث، وأعني الإنجاز بالمعنى التقني والفيزيائي المباشر، بحيث يمكننا الشعور أن الشاعر الراهن، فيما يعمل على تجاوز النص السابق، قد أحسن القراءة والدرس قبل وبعد الكتابة.

هذا السؤال من بين أسئلة أخرى لابد لنا، لكي نحسن التعاطي مع راهن ومستقبل كتابتنا الشعرية العربية، أن نتوقف عنده برحابة الصدر وجمال الأحلام.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى