النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

نجيب محفوظ،
حجر يتعثر به الشباب ويبنون

يبقى أن نرى إلى تجربة نجيب محفوظ، قبل كل شيء، بوصفها النص الذي يكتمل بين أيدينا. يكتمل يوماً بعد يوم، فيما هو يكفّ عن كونه مستقبلاً.

بهذا المعنى أحب أن أرجع إلى نص نجيب محفوظ الذي تدربنا في شرفته على النظر إلى مستقبل مجتمع الشرق بطريقتنا، حيث السرد العربي في نص محفوظ، يتأهب لإنجاز الانعطاف النوعي في السرد العربي منذ الجاحظ ورفاقه الأجلاء. مما يفيد الآن في وضوح الرؤية لمن يريد أن يعتبر نص محفوظ تحولاً يختتم طريقة واحدة للسرد، ليس من المنتظر (تاريخياً وإبداعياً) أن تستمر في السرد اللاحق بشروطها نفسها التي وصلت الذروة كمشروع (يكتمل قبل حين).

منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كتب الناقد المصري عبد الرحمن أبوعوف كتاباً نقدياً عن نجيب محفوظ وطرح فيه سؤالاً جوهرياً فاتحاً الأفق للجواب عليه. كان يسأل ما إذا كانت تجربة نجيب محفوظ الروائية قد شكّلت حجر عثرة في طريق العديد من الروائيين المصريين، بسبب الهيمنة الفنية التي حققتها هذه التجربة، أيضاً ما إذا كانت هذه التجربة قد تحولت بسبب رحابتها وتغلغلها في البنية الذهنية والفنية والاجتماعية للمجتمع المصري والثقافة المصرية، إلى حكم قيمة مسبق على كل المحاولات الروائية التي جاءت بعد محفوظ، خصوصاً وأنه الروائي الذي تمكنت أعماله، بدرجات متفاوتة، من حجب أسماء وروايات مهمة عاصرته منذ الخمسينيات حتى السبعينيات، وهي أسماء سيحتاج المرء بعض الجهد لتذكرها واستعادتها لفرط الهيمنة المحفوظية على مشهد الرواية المصرية.

أتساءل، هل سيشكل محفوظ، (استطراداً لسؤال عبد الرحمن أبو عوف) حجباً إضافياً مستمراً لبعض التجارب الروائية اللاحقة منذ جيل الستينيات حتى اليوم، لسبب يختلف في النوع دون أن يختلف في الدرجة، عن لحظة الجيل السابق؟

لقد اشتغلَ النقد الأدبي في حقل الرواية، وخصوصاً في مصر، على تكريس قيمة نقدية جعلت من تجربة محفوظ مقياساً لها وحدوداً تشبه حدود النفي والإثبات. الأمر الذي رشّح العديد من تجارب الجيل الجديد من الروائيين (في مصر وغيرها) لأن تتهيأ للإخفاق في تحقيق أي إنجاز نوعي في حقل السرد الروائي.

وبحكم العادة (التي هي كالعبادة كما يقول المثل العربي) تقمّص معظم جيل الروائيين بعد محفوظ، شهوةً في الإضافة إلى المشهد الروائي العربي، صوراً (جديدة) من تجربة نجيب محفوظ، خاضعين للوهم الذي عممته وكرسته الفعاليات النقدية على امتداد الثقافة العربية في هذا الحقل، والذي مفاده: إذا أردتَ الذهاب إلى الرواية فإنه يتحتم عليك عبور هذه البوابة الكبيرة التي إسمها نجيب محفوظ.

ورغم أننا لا نقلل من أهمية تجربة نجيب محفوظ، فإننا نشعر أن كل ذلك التكريس النقدي الذي صدر معظمه عن التقدير الجليل الذي تستحقه تجربته، قد أدى، من حيث لا يريد الكثيرون، إلى تحويل نص محفوظ إلى قانون الثبات، بدل أن يكون أفقاً لانطلاق السرد الجديد في سياق الكتابة العربية. وسوف تأتي جائزة نوبل لتضع أمام الجميع حقيقة أن ما كنا نقوله عن هذه البوابة قد تأكد لكم الآن. فالرواية هي أن تمر من هنا.

ولا يتأخر الكثيرون عن مجابهة سؤال عبد الرحمن عوف القديم، (نقضاً أو تقمصاً) وخصوصاً في السرد المصري الراهن، خضوعاً للوهم ذاته، في المشهد الروائي على الجانبين:
مدرسة نجيب محفوظ والمعجبين والمتفقين مع أسلوبه، ومدرسة التحديث الروائي وتجديد السرد المختلفين مع أسلوبه.

أخشى أن كلا الاتجاهين قد تعثر بتجربة محفوظ بشكل أو بآخر، مما فوّت عليهما العديد من الفرص الإبداعية التي كان ممكناً حدوثها فيما لو تمت الرؤية إلى تجربة محفوظ بوصفها درساً نوعياً تسعف المواهب الجديدة (فيما هي تحقق نصوصها الجديدة) مضيفة تجربتها الخاصة إلى متن السرد العربي.

إن الأساتذة والرواد لا يصبحون كذلك، إلا إذا أتيحت لتجاربهم حرية التحقق والتجلي في أساليب وأشكال تجارب جديدة ومختلفة وحرة ومغايرة، بحيث لا يكون الدرس السابق حاضراً إلا بوصفه ذاكرة ترفد الأجيال اللاحقة، وليس بتكريسه حكم قيمة وحدود لازمة للتجارب الجديدة. بهذا المعنى، سوف نقترح، (فيما نؤكد دائماً على الفعل والدور التأسيسيين لتجربة محفوظ وهي تنجز أول أهم التحولات النوعية للسرد العربي منذ قرون النثر العربي الأولى)، أن السرد العربي بعد نجيب محفوظ، لابد له أن يختلف رؤيوياً وفنياً بشكل جذري حاسم وصارم، متمتعاً بوعي ومعرفة عميقين بأن تكريم البناء الشاهق الذي شيده نجيب محفوظ لابد أن يتمثل في تأسيس جديد لبناء سردي مختلف، لا يضاهي السرد السابق فحسب، وإنما يتجاوزه بالثقة والإبداعية الجديرتين برؤية كونية يستحقها المبدع العربي وهو يصقل تراث مستقبله بالأحجار الكريمة التي يكتنز بها تراث تاريخه الأدبي الكثيف فناً وفكراً.

وظني أن درس السرد الذي اقترحه نجيب محفوظ علينا سوف يبدأ في التجلي، فيما تتمكن الرواية العربية من الإنتقال الحاسم من الخضوع لوهم الواقعية الطويل، إلى حلم المخيلة النشيطة.

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى