النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

المسافة الجهنمية

عندما أراد (هرمان هسه) إيجاز مشوار حياته، قال:
"عندما أسمع كلمة "يجب عليك"، ينفر كل عضو في جسدي وأغدو عنيداً".
وسوف نرى بعد ذلك كيف تجلى هذا الموقف في مجمل حياة هسه. حيث طبيعة المبدع سوف تكون دوماً نقيضة كل أشكال الإمتثال، في الحياة كما في الفن.
ففي الإمتثال سوف يفقد المبدع طبيعته النقدية. وهو لن يتمكن من تحقيق ذاته المتميزة ما لم يكن نقيضاً للخضوع. ولعل العذابات المتواصلة التي واجهها هسه في علاقته مع أشياء الحياة (العائلة/الدراسة/المجتمع/الثقافة/ السياسة/الفن) هي نموذج يمكن مصادفته في حياة العديد من المبدعين.

ويبدو لي أنه كلما تقدم المبدع في طريق الحياة والفن، سوف يشعر بخطورة الخضوع الذي تهدده به سلطات كثيرة. ويجد نفسه مضطراً، يوماً بعد يوم، لأن يحافظ على انسجامه مع ذاته، متفادياً ذلك الإمتثال المتماهي في أشكال لا تحصى. وكلما توغل في التجربة، أصبح انسجامه مع نفسه يتطلب المزيد من المجابهات.

هذا ما سيدفع (هرمان هسه) إلى القول بأن "علاقتي بالسلطة، أية سلطة، مشوّهة ومملوءة بالمرارة". وبدرجات متفاوتة لابد أن يصادف المبدع هذه المرارة، ولا يكون أمامه غير أن يختار، وبوضوح تام مع نفسه، بين أن يكون منسجماً مع ذاته، مخلصاً لتجربته، أو منسجماً مع الواقع وممتثلاً له. هذا الواقع الذي هو (آخر ما يهم المرء)، حسب تعبير هسه، ربما لأن الذات الإبداعية، بالقياس إلى تجربة الإنسان، أكثر أهمية بما لا يقاس، من الواقع، وخصوصاً إذا ما أدركنا أن الواقع هو شيء يختلف كثيراً عن الحقيقة التي غالباً ما يصدر عنها المبدع في جوهر فعاليته الحيوية. فليس في الواقع حين نتأمله بعدسة الفن، ما يسعف الروح الخلاقة. (هذا الواقع البالي المجدب والمخيّب للآمال، لا يمكن تغييره، إلا بإنكارنا له، والإثبات عملياً أننا أقوى منه).

ولكي يثق المبدع بأنه أقوى من الواقع، عليه أن يأخذ الدرس الإنساني مأخذ الجد، واعياً حقيقة أن الشاعر هو الذي يلقّن الواقع درس الحياة وليس العكس. وعندما يتميز الشاعر بابتكار أسلوبه في مجابهة أساليب الواقع، يتيسر له الخروج بالفن على نواميس وقوالب جاهزة وتابوهات لا يكفّ الواقع عن محاولة فرضها عليه ودفعه إلى الإمتثال لها. وهذا ما سيدفع رولان بارت ليقول ذات مرة "أن الأسلوب يتخذ له موضعاً خارج الفن، أي خارج الميثاق الذي يربط الكاتب بالمجتمع". فالمبدع، فيما يخرج بالفن على المجتمع، إنما هو يعبّر عن رفضه الخضوع لمتعاليات الواقع ومسلماته، التي لا ترى في الشاعر غير موظف يقوم بوظيفته لدى سلطات الواقع.. وليس على الشاعر إلا أن يحسن صقل أدواته وتشغيل وسائله بالموهبة والمعرفة والجمال، في نقض إبداعي للواقع.

وظني أنه كلما تقدم المبدع طاعناً في السن والتجربة، صارت ثقته أكبر بقدرته على الخروج على الواقع وسلطاته، باذلاً التضحيات في سبيل الإحتفاظ بجوهره، حيث الموقف النقدي هو طبيعته الوحيدة التي ما إن يفقدها حتى يفقد طاقته الإبداعية. وليس في التضحيات التي يتطلبها ذلك الموقف شيء من البطولة، بل على العكس، إنها الشرط الذي يمنح الإنسان جذوة لا تخبو من العطاء الجميل. فالجمال الإبداعي سوف يكمن دائماً في مقدرة الشخص على تفادي الوقوع في ممارسة ما لا يحب. وفي هذا ضرب من جمال يمنح الفن صدقه مع الذات وثقة الآخرين برؤيته وكتابته.

يقول هسه: "غالباً ما يفتقد الناس في كتابتي الإحترام العادي للواقع". إذاً، ثمة احترام غير عادي للواقع، هو الإحترام المتصل بالجوهر الحقيقي للواقع، وهو جوهر كثيراً ما يكون محجوباً عن الإنسان العادي، ومسؤولية المبدع أن يكشفه كإبداع من جهة وفضيحة من جهة أخرى. تُرى كيف يتسنى للمبدع أن يكون، واضحاً مع ذاته، فيما يكون نقيضاً متواصلاً للواقع الخارجي للذات؟ بهذا الشكل يمكننا أن نلمس الطاقة الإبداعية في تجربة الإنسان عندما يكون مبدعاً.

"إنهم يفضّلون أن يبقى المرء كما هو، ولا يريدون لوجه المرء أن يتغير، لكنّ وجهي لن يمتثل لهم، فأنا أصرّ على استمرار التغير، تلك حاجة ضرورية". ولن يتوقف (هسه) عن التغير إزاء أشياء الواقع طوال حياته وفنه.

في السياق الحميم للتجربة، سوف أجد نفسي في مجابهة هذه الحقيقة كل يوم. فليس في الواقع ما يدعو للثقة بأن الآخرين يدركون الطبيعة المختلفة للمبدع، وعليَّ أن أتشبث بقدرتي على الإحتفاظ بالمسافة الجهنمية بيني وبين أشياء الواقع، وخصوصاً تلك الأشياء المتجليّة في سلطات مركبة، تتفاقم وتتعقد في مثل ظروفنا المتداعية والمتهالكة. سلطات تعتقد بأن الفن والثقافة هما هدف أول للإكتساح والعسف من خلال توظيفهما بإمتهان فادح في مشاريع واقعٍ ليس فوق الشبهات.

إن الهواء القليل النادر الذي تعمل هذه السلطات على مصادرته، سوف يترك أجسادنا تزرقّ لفرط الإختناق. منذ سنوات، كتب لي شاعر صديق رسالة، قال فيها في معرض تعبيره عن معاناته:
"لم يعد العالم يسعني،
أكاد أختنق،
أين الهواء؟!".

يومها شعرت أننا نوشك على فقد الحيّز الضيّق الذي يُتيحه لنا هامش الكتابة. واستنفرت أعضائي كاملة للمزيد من المجابهات، فقد وضع ذلك الصديق أصابعه الجهنمية على الجراح ذاتها، التي كنت أسكتُ عنها طوال الوقت، معتقداً بأنهم سوف يتركوننا في الهامش وكفى. كنت قانعاً بذلك الهامش، وأباهي به على الآخرين. لكن سرعان ما رأيتهم يستديرون إلينا، وهم يشحذون آلاتهم القديمة بلغة مستحدثة، وكأنهم استكثروا علينا ذلك الهامش.

وفيما صوت القلب يقدر دوماً على أخذنا إلى الأفق، وحيدين، مستوحدين، وفي وحشة حنونة، سيظل علينا الثقة بأن العزاء هو في الغامض من أرواحنا، بعيداً عن شهوة الإمتثال التي تقود سلطات الواقع، وتغري البعض بوضع الأدوات على قارعة الطريق لمواصلة الحياة.
ماضياً وأبداً، الحق مع (هرمان هسه). ليس لأحد أو جهة القول للمبدع: "يجب عليك"، وإلا فإنها ستفقد القدرة على إدراك الطبيعة النارية التي لا تخبو في جذوة قلبه. فالإنسان لا يستطيع أن يكون ممتثلاً ومبدعاً في الوقت عينه.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى