النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

وضع الجوهر في الجيب

( 1 )

لا تتكرر لحظة انبثاق القصيدة بالشكل نفسه في كل مرة، فأنت لا تعرف كيف يأتيك الحب. القصيدة مثل الحب. غير أن الشعر لا ينحصر في لحظة الكتابة. الشعر طريقة حياة يعيشها الشاعر بشكل دائم. والكتابة هي واحدة من الذروات الساحرة التي يأتي إليها الشاعر ليكتب نصه، كما لو أنه يصغي إلى صوت غامض يملي عليه الكلمات، بينما يسجلها بشغف كمن يصغي إلى وصية شخص يحتضر،
(ثمة من يزعم أن المحتضر هو الشاعر نفسه كل مرة).

( 2 )

قلتُ مرة أن المعاناة لا تكون أثناء كتابة القصيدة، بل قبل ذلك، في خضّم الحياة. الكتابة هي أجمل اللحظات على الإطلاق. فالشاعر لا يكون سعيداً ومتألقاً ونشيطاً مثلما هو إبان الكتابة. العذاب يكون قبل النص وبعده، أما لحظة الكتابة فما أبعدها عن العذاب، إنها برهة النشوة القصيرة والنادرة والخاطفة، التي تؤكد كم شبيه هو الشعر بالحب.
(قلت أيضاً أنني سأعجز عن الشعر عندما أعجز عن الحب).

طوال الوقت يظلّ الشعر مهيمناً على كياني، فأرى أشياء الحياة من حولي غيماً شفيفاً يمتزج بروحي، مؤججاً الحالة الشعرية التي بها أحيا. يمكنني القول أنه لولا هذه الحالة الغامضة لما تسنى لي احتمال هذا الواقع. التعامل مع أشياء الحياة بهذه الشعرية، يعني أن الشعر لا يقتصر على الكتابة فقط، فكل ما يقع تحت ناظري ويلامس كياني هو ضرب من الشعر.

النص لا يبدأ هنا وينتهي هناك، الشعر موج مستمر متلاحق ومتلاطم من لذة لا توصف. من هنا أزعم دائماً أن الشعر هو ما يمكن اعتباره حياة الشاعر بينما هو يفعل أشياء أخرى،
(مما يجعله يفعل تلك الأشياء بشكل جميل دائماً).

( 3 )

تنثال القصيدة في الداخل مثل شظايا بلور متناهية في الصغر، وتتراكم شيئاً فشيئاً، لتصبح بركاناً جميلاً يمنح الروح طاقة الامتلاك الغامض العميق للعالم، شعور من يضع الجوهر في جيبه. يتصاعد هذا الشعور ليبدو في لحظة ما، حالة عشق تستعصي على الوصف. عشق ساحر لا يكفّ عن الاندلاع والتصاعد مثل بركان؛ بركان لا ألذّ ولا أطيب ولا أجمل.

تظل هذه الحالة تشحذ الإستعداد الكامن للكتابة بلا هوادة، وتصقل الروح لتصادف تلك اللحظة الفاتنة التي تنبثق فيها الكلمة الأولى، أو الصورة الأولى، أو الإيقاع الأول. فيبدو الأمر كما لو أن الشاعر عرضة لأية ملامسة يشغف بها القلب، فيقع الشخص في الحب، فلا تنقذه إلا القصيدة. عندها يبدأ في كتابة ما هيأته الأساطير في الداخل. ولا أحد يقدر على تحديد السبب المباشر الذي سوف يفجّر ذلك البركان الحميم، حيث يبدأ حفل الألعاب النارية في ليل الحياة.

( 4 )

ما أتذكره دوماً في مثل هذه الحالات، هو أن ثمة صمتاً غريباً وغامضاً في روحي يسبق لحظة الكتابة، صمتاً كثيفاً حيث لا أقوى على الكلام مع من حولي. بل إنني أحياناً أكاد، لفرط توغلي في الصمت، لا أحسن فهم كلام الآخرين، فأبدو مرتبكاً، مضطرباً، متعثر الكلام، تهرب مني لغة التفاهم مع العالم.

أبدو مثل طفل يتلعثم أمام التفاصيل اليومية كأنه يصادفها للمرة الأولى، مما يجعلني متورطاً في حالة من الحرج بسبب عدم قدرتي أو استعدادي أو رغبتي في الكلام مع أحد. وأجدني كائناً وحشياً لا يحسن شيئاً مما يتصل بالبشر، وآنئذ لا يفهمني سوى الأقربون فيكفّون، مدركين حاجتي الماسة للعزلة بعيداً عن الجميع. عندها فقط، سأحتاج لأن أسلّم نفسي للكتابة كي تستفرد بي كما يحلو لها.
(سميت ذلك ذات نص: عزلة الملكات).

كثيراً ما تكون العزلة الشديدة هي منقذي من هذه الحالة، وهي عزلة عن الخارج للذهاب بحرية أكثر إلى الداخل. ففي تلك الحالة يكون الإحساس الغامر بأن ثمة انهماكاً وشيكاً يتوجب عدم تفاديه قدر الإمكان. إنه الانفجار الرحيم. مثل الحب، تأتي القصيدة لتنقل الروح من عذاباتها إلى الفردوس، حيث الفسحة النادرة من اللذة والجمال، والأفق اللانهائي الذي يتبدى كما حلم متاح ومستحيل.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى