مالم ينشر في كتاب

نص على نص

تعالوا نغبط
علاء خالد

( 1 )

(الضوء موهوب لإنارة العلاقة بين اثنين)
و ما أن تبدأ بقراءة السطور الأولى من كتاب (وتهب طقس الجسد إلى الرمز) لعلاء خالد حتى يستحوذ عليك ذلك الشعور الحميم المكبوت، الذي طالما تفاديت البوح أو التصريح به لغير أعماقك. رغبة أن ترى جوهرك في شخصٍ آخر، شخص تشغف بأن يصير أكثر من قرين الروح، قرين الجسد الهيولي الشفاف.
علاء خالد حاول أن ينير علاقة بين أثنين لن تقدر أن تعرف التخوم بينهما، كما لو أنه أحسن غوايتنا.
تعالوا نغبط علاء خالد على شهوته و هو يذهب إلى الشعر.

( 2 )

من بين التجارب الشعرية الشابة في مصر يمكننا أن نرى في علاء خالد صوتاً ملفتاً و مختلفاً في آن، فهو، فيما يكتب قصيدته، لا يقلد نصاً سابقاً عليه، إنه يصوغ نصه على شاكلة كتابة غير مسبوقة في التجربة الشعرية المصرية، دون أن تقارب نصوصاً عربية إلا في التوق الغامض لصياغة على قياس الذات، ذات غامضة ليست قابلة للإدراك. و هو بهذا يقف على طرف آخر من المشهد الشعري لكتابة أقرانه من الشباب، أقرانٌ يلحقون بما بعد أمل دنقل و محمد عفيفي مطر من جهة، و يحاورون محمد سليمان وعبدالمنعم رمضان من جهة أخرى.
ويلك يا علاء خالد، لماذا تترك أقرانك مستوحشين في أقاليمهم الأليفة، للتتوغل وحيداً في سديم مجرة أخرى ؟
(انفصال معدني عن الأبوّة..)
هذا ما يجعل تجربة هذا الشاب مكتفية بذاتها و تحافظ على عزلتها الريؤية و المكانية. بعيد هو عن القاهرة بكافة المقاييس. في الإسكندرية المختلفة روحياً، ذات الشفافية التي تقابلها كثافة تضاعف ابتعاد الشاعر عن ذاته و دواخله الحميمة. ربما لأن الشاعر كذاتٍ عميقة يوشك على الضياع و التغييب في انهماكٍ عامٍ يطرح شروطه على حساسية مرشحة للهتك بفعل حركة الجموع اليومية، جموع بكل قيمها التي تجافي العزلة والانفراد بأشياء الداخل لمجابهة الخارج.
علاء خالد ينحاز إلى الداخل، الداخل الوحيد المسكوت عنه في كثير من الكتابة العربية الجديدة ذات الشعار المأخوذة بإثبات الحضور الجماعي في المشهد. لقد فعل الشاعر العربي هذا كثيراً و خسر الكثير أيضاً.

( 3 )

عند علاء خالد، بين الأخ و الأخت شيء غير الأخوة، شيء أكثر منها. وربما شيء يتجاوز عشق البيولوجيا. (قرابة الوحي) ربما (قرابة الذبح) ربما. و إلا (ما معنى أخت و أخ دون النظر في هوية الجسدين)
يجوز لنا أن نستحضر صورة ذبح الابن (حيث الكبش هابطاً من الدعاء النازف الأعلى)، و وأد البنت. فثمة سدٌّ (يهيل التراب على أخ يرى أخته رؤية صافية).
ثمة (زنا حبيس)، و نطفتين في الضحك و البكاء. نطفتان تقتسمان الأنوثة كلها، و الذكورة أيضاً. تصرخان في الأب : أبانا الذي في الصحراء، وغرفة النوم والحمام. أبانا الذي..
(فلتفتد بنا كبشين يرعيان في سمائك و دون سبب/ و لا ترانا في حلمك مذبوحين / و نستبدل أنا البراءة بأنا الدمع / و تهب الابن ضد دمه المراق في حلم أبيه / و تهب الأب ضد سكين أبوّته..)
منذ النطفتين الصارختين، الضارعتين حتى :
(جسدان يواجهان تاريخاً / أقل ما فيه الجسد / جسدان يواجهان تاريخاً غائباً ويصفعان الأب بعيونهما / يجردانه من القسوة و من السكين / ويستبدلان بهما النجاة)
حسناً، لكنهما أيضاً سوف يتبادلان فعل السجود مع الآلهة :
(أبٌ و سكين يتساويان عن الهزيمة / و في لا مبالاة المعدن البارد / انفصال معدني عن الأبوّة.. )
لن تعرف تماماً، ما إذا كان الأخ هو الأخ فقط، أم أنه الأخت في نفس الوقت. ليس ثمة حدود بين الأنوثة و بين الذكورة.
(ناديتك أن تنفضي الحيض، و تقطعيه على مخيلتي، إرباً إرباً، كي أعبد واحداً إلا أنت )
هذا شخص يؤثث بؤبؤ الشعر بفسيفساء الجسد، يكتب كأن لنفسه - أوشكت أن أقول لجسده - فقط.

( 4 )

(أخوّة مبرّأة من القرابة و القانون العائلي.)
يبدأآن - في موازاةٍ و مجاورةٍ مثل حوار التوأم : جسد أول / جسد آخر، وتتوالى بقية الأعضاء مثل العناقيد في غصن، في شجرة. عناصر تتراآى وتتوارى. فلا تكاد تتيقن، أيهما الجسد الأول و أيهما الجسد الثاني : صدر ووجه وقلب يتلاشى و يتحول أحلاماً إلى درجة الرمز : (طالبة للتحلل وللحماية، حتى تمر الأنوثة بسلام)
ثم، يلهب كلٌ منهما الآخر : الجسد و عناصره. يتبادلان الأدوار، يقتسمان الوهم (أو الحلم) المتاح.. المهيأ لجنس عارم. كل سرير يسبر الآخر : (عمق الآخر المثنى).
(أخ و أخت يقتسمان طفولة واحدة)/ (أتزوج أختي و أكتمل)/ (أنا أمك التي ولدتك من سرير يتسع لطفلين، و أنضجتك في هشاشة دامعة، ولطالما تمناها كل الأطفال المحرومين من الأخت)/ (أنا جسدك الثاني (...) كي أردَّ للذكر بعض ذكورته الغائبة، و أردَّ للأنثى مفتاح الأرض)
هذا لعب بالكائنات و العناصر والتراث الجسدي في الذاكرة و المخيلة العربيتين. أقول، هذا لعب يا علاء خالد، كيف تسنى لك أن تتمرغ في حريتك إلى هذا الحد ؟
ترى هل هي نهار و ليل، و بينهما التخوم ذائبة ؟!
ربما،
آه. هل (أخوة ترجو من الله مزيداً من القرابة) ترى أي نوع من القرابة يمكن أن تكون أكثر من الأخوّة. ينبغي أن نستسلم للغواية التي يأخذنا إليها علاء خالد. شخص يصوغ ميثولوجياه كما يروق له و يحلو. بمعزل عن كل شيء، بشهوة استبطان ما لم يستبطن إلا قليلاً في الكتابة العربية الجديدة : الحب و الجسد.
و عندما يستجوب - أعني يتضرع - لأشياء البيت (جوامده و سوائله وأثيره) سوف يتاح لنا أن نتعرف على ضرب من الفيزياء الشعرية، حيث (المصباح أضاء الكتلة و هو مطفأ)
(مصباح وحيد يشغل المضاء بالغرفة : السر، النافذة الضيقة، ارتباكين بالأصابع، صراخاً حول عمق الرمال الممتشق فيها الجسدان هبوطاً في دوامات تسلم بعضها رائحة الجسدين، وحول رائحة أعمق من التداعي، وتسلم للرائحة التي تليها، في طبقات الموت، انتقال الجسد من عنف عضوي إلى عنف التراب)
تشي شعرية علاء بصبرٍ كثيفٍ عن التنفس، كمن يختصر الهواء لرئةٍ هي أكثر شفافية و شغفاً من القلب.
الضوء في بيته لا علاقة له بفيزياء الطبيعة، إنه ضوء (موهوب لإنارة العلاقة بين اثنين) (فمن لم ير جوهره في الآخر، فإنه لن يغني النور، أو يرغب، عن عمد في إشباع روحه بالظلام)
كل شيء يصبح مكشوفاً لضوءٍ مثل هذا، مفضوحاً برشاقة (السوتيان الصغير كي لا تفرّ العصافير)
و(بانعكاس المرايا في الحصة الخامسة عندما تدخل الشمس بهو الذاكرة)

( 5 )

كيف طابَ لعلاء خالد أن يكتشف يوماً مدرسياً بهذه التفاصيل الفاتنة ؟!
فاليوم المدرسي سيبدو لنا أبعد من حصة الرسم (حيث البياض حلم شاغر )، و في حصة الدين (يقسّم الفصل بين المسلمين و المسيحيين. و تقسم الجنة و النار و الأعياد. و يختبئ كل دين في كهف عاداته، ويخفي كل دين عن الدين الآخر، حبه)، و درس عيد الأضحى حيث كل عام يمتحن الله ( إيمان المعادن). وفي الفسحة بين الحصص (يتبادلان سندويشات الجبنة بالبسطرمة : الجبنة له و البسطرمة لها)، وحصة الموسيقى حيث (كرنفال الهتاف : بلادي بلادي بلادي)، و حصة القلب حيث (جرس النهاية) يطيب الاستحمام في مياه الخروج عن الطاعة، خروج عارم عن الطاعات كلها.
علاء خالد، الجميل إلى هذا الحد، شكراً.*

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى