لقاءات

حدود التعبير الفني ، بوصفها آفاقا و ليست تخوما

س / تتحدث عن التمرد على الأشكال، ولكن ماذا نفعل بازاء حاجتنا إلى الأسماء.. نريد أن نسمّي؟

* لا أستخدم تعبير (تمرد)، أحب أن أقول بحرية الشكل. ربما لأن ثمة العمق والجمالية في النزوع إلى الحرية بسبب ديمومة وشمولية هذا التوق المرتبط، خصوصاً، بالحق الأزلي للتعبير الإنساني بشتى أشكاله. لكن لماذا تشغلنا مسألة التسمية إلى هذا الحد. لماذا نحن نشترط التسمية لأشكال حياتنا، كما لو أن أشياء حياتنا لا تأخذ مشروعيتها إلا بعد تسميتها وتصنيفها وتوصيفها، وبالتالي تقنين كينونتها وسرعان وتصبح قانوناً. هل نحن ضحية شهوة القانون لكي تأخذ حياتنا طبيعتها الوجودية ؟ وهذا ما يفسر الانشغال المضجر الذي يتكرس منذ سنوات طويلة إزاء التجربة الشعرية الجديدة، منذ قصيدة النثر.. إلى آخره.

أليست الكتابة هي الأهم ؟

إن حرية الشكل لا تتطلب سوى تشغيل المخيلة على الجانبين : الكاتب والقارئ. وما ينتج عن ذلك فإنه يأتي فيما بعد. وعندما يتمكن الكاتب من إقناع القارئ بأنه إزاء نص قادر على النفاذ إلى النفس، فهذا جدير بالاهتمام. وخلال هذه العملية، سيكون علينا الاستعداد لإعادة النظر في كافة التسميات والمصطلحات المتداولة في التعامل مع الأشكال الفنية المتاحة. فماذا يعني أن نقول قصيدة أو مسرحية أو قصة أو رواية. هل يمكننا الجزم، الآن، بأن مصطلحاً مثل (قصيدة) قادر على حمل الدلالة الفنية (والتقنية خصوصاً) على الخضوع للتوصيف الأول للقصيدة في الثقافة العربية التقليدية، هل هو مصطلح جامع مانع لذلك التوصيف ؟

ونفس الأمر بالنسبة للقصة والمسرح. ألا يمكننا العثور على انزياحات تعبيرية لأشكال أخرى مثل الشعر والسرد في العمل المسرحي، ألا نجد أيضاً أن سرداً رائعا في العديد من النصوص الشعرية، أليس في القصة التي تكتب الآن نصوص شعرية ومواقف درامية و تألق ملحمي؟ ما الذي يمنعنا من الاستمتاع بكثير من هذه التجارب بمعزل عن الانشغال بتوصيفها (تقنياً)؟

إذن، أليس من حق المبدع أن يطرح الأسئلة الإبداعية على الآخرين، ومن بينهم النقاد؟ ألا يأتي الإبداع أولاً ويأتي النقد فيما بعد ؟ المبدعون هم المكتشفون للآفاق في مقدمة الآخرين، ومن بينهم النقاد. و إذا طاب للبعض أن يسمي فهذا حسبه، وهو حر فيما يريد، لكن من المؤكد أنني لست معني بوضع أنفاسي في قوالب، أو منح أحلامي ومعطيات مخيلتي في أطر. إن الكاتب يذهب، فيما يكتب، نحو أشكال لا تتوضح إلا بعد اجتياز التخوم. وهنا يتوجب الإيمان بأن الحدود الموروثة لأشكال التعبير ستكون أكثر جدوى وفعالية وجمالاً إذا نحن نظرنا إليها بوصفها آفاقاً وليست تخوماً، وعندها تصبح لحرياتنا (وهي الحريات المتبقية للإنسان العربي) معنى.

س / هل يعني هذا انتهاء النوع لصالح نص واحد، فإذا نحن نقاوم أنواع أربعة ستفضي إلى التضييق؟

ليس ثمة نهاية لهذا الأفق. فما إن تبدأ في تأمل الأفق حتى لا يكون لمخيلتك حدود تمنعها من ابتكار الأشكال لحظة الكتابة. إن في الأفق اللانهائي للحياة الإنسانية ما لا يقاس من الأشكال، على عكس ما يعتقد السؤال. نحن لا نقاوم أشكال أربعة (وهي أكثر من ذلك على ما أعتقد)، لكننا نفتح هذه الأشكال المستقرة على سبل ورحابة لا تقبل الاستقرار. تماماً مثل الإيقاع الحيوي لحياتنا الجديدة. والتوهم بأن الأشكال الجديدة من شأنها أن تلغي الأشكال المعروفة خلط ينبغي تفاديه. إنني لا أميل إلى هذا الاعتقاد. ففي الحياة متسع لكافة الأشكال، مادامت قادرة على التعبير عن التجربة الإنسانية. وسوف نجد في مستقبل الكتابة العربية العديد من الإبداعات التي تقترح علينا دائماً أشكالاً تعبيرية جديدة ومدهشة وجميلة. خصوصاً ونحن في سياق حضاري يجعل من وسائل الاتصال الفنية الحديثة عناصر غاية في التنوع لخدمة المخيلة النشيطة للفنان والكاتب في شتى الحقول التعبيرية. إنني لا أجزم بما يمكن أن تقترحه علينا الحياة غداً. إنني فقط أمعن في التحديق بمتعة في هذه الآفاق الباهرة التي تتصل بالتجربة الإنسانية. وأظن أن كل شيء في الحياة رهن الموهبة والمعرفة التي يتوجب أن تتوفر لدي المبدع في هذا العصر.

س / مثلاً، ماذا نسمي ما فعلته في (أخبار مجنون ليلى) ؟

قبل ذلك، أقترح أن نطرح سؤالاً مختلفاً.
هل تمكنت هذه التجربة من اقتراح متعة تلامس العمق الإنساني لدي القارئ ؟ والمتعة هنا ليست ترفاً زائداً، إنها الاتصال بالنفس البشرية التي تجد في الحب عنصراً من عناصر وجودها المشروع، وطبيعتها الحرة في الحياة. المتعة هي ثقافة أيضاً يحتاجها الإنسان.

إذن، إذا تمكنت تجربة (أخبار مجنون ليلى) من الاتصال بالقارئ في أعماقه ومشاغله الجوهرية، فإن السؤال عن التسمية لا يعود، بالنسبة لي على الأقل، مهماً. إنني لا أعرف تماماً ماذا ينبغي أن نسمي هذا النص. لكن من المؤكد أنني حاولت أن أكون صادقاً مع ذاتي من جهة، ومن جهة أخرى اشتغلت بكل العناصر والأدوات والأشكال والخبرات الفنية والشعرية والإنسانية التي اكتسبتها فيما عرفت، من الحياة ومن الكتابة في لحظة واحدة. وأظن أنني لو كنت ترددت إزاء الشكل الذي ستأخذني إليه التجربة لما تيسر لي تحقيق ذاتي كما أحب.

س / تقول النص هو جنة الشاعر وجحيمه في ذات الوقت. نعرف صورة الجنة، فماذا عن جحيم النص معك.. كيف تكتب ؟

لا أعرف بالضبط جواباً لمثل هذا السؤال. وكما إننا نتخيل دائماً شكل الجنة وشكل الجحيم، فإن الكتابة واحدة من أجمل الوسائل لتفادي فقد الذات في البرزخ بين الشكلين المتخيلين. لكن من المحتمل أنني أكتب مثلما يبني الشخص جنته على شكل حصن، يصوغه حجراً حجراً ويواصل العمل، بمعزل عن كافة السلطات من حوله. وكلما تمكنت، في هذه التجربة أو تلك، من استدراج الآخرين لهذه الجنة كغزاة أليفين وكعشاق و أرواح شاردة، تيسر لي بعض الاطمئنان بأن في الحياة متسع من الوقت للاتصال بمن يبحث عن ذاته في ذوات أخرى، عبر نصوص لا تشبه أحداً ولا شيئاً معروفاً. الجنة والجحيم يكمنان إذن في طبيعة ما ينجح الكاتب في تحقيقه من فتح الروح على الأرواح الأخرى، وجميعنا نتوفر على قدر من الجحيم والجنة بمقدار لا بأس به من الخيال و الخبرة. وكلما استطعت من مغايرة تجربتي السابقة، تيسر لي الشعور بقليل من الثقة، لكي أذهب نحو تجربة جديدة. أعتقد بأن الكتابة، بالنسبة للمبدع، هي مثل الأنفاس ودفق الدم في القلب والأوردة، لا يمكن أن تتشابه أو تتكرر. لا يضجرني شيئاً مثل التشابه.

س / باستثنائك، وسيف الرحبي وعدد قليل، ألا تلاحظ تقوقع مثقفي الخليج على ذواتهم بشكل خاص في السنوات القليلة الماضية، هل ملاحظتي صحيحة، ولماذا برأيك ؟

أميل إلى الظن بأن الملاحظة ليست دقيقة تماماً، فهناك عدد كبير من المثقفين والكتاب والشعراء صاروا معروفين في الساحة الثقافية والأدبية العربية في السنوات العشر الأخيرة خصوصاً، ولكي لا أذكر إلا حقل الشعر، فإن الذين صاروا يطبعون دواوينهم في البلاد العربية أسماء كثيرة يمكن التعرف عليهم بسهولة أكثر من السابق. وهم معروفون في الأوساط الثقافية العربية بدرجة أو أخرى. لكنني أخشى أن طبيعة التعاطي الإعلامي (خصوصاً) مع الأسماء الجديدة لا يزال يقع في بعض التعثرات، على الصعيد الرسمي على الأقل. وإن كنت شخصياً لا أهتم بالجانب الإعلامي ولا أعول عليه، إلا أن سؤالك سيتصل بهذا الجانب تقريباً.*

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى