لقاءات

أضع الشعر في مكانه

جريدة الحياة - لندن
عبده وازن

س / أدخلت "شعرك" إلى الإنترنت وأسست موقعا للشعر العربي فيه أيضاً وحمل عنوان (جهة الشعر) و أعتقد أن تجربتك هذه هي الأولى عربياً. كيف خطرت لك الفكرة ؟ وكيف نفذتها؟

* ثمة ولع غامض شدني لجهاز الكمبيوتر منذ منتصف الثمانينات، حيث فتح لي أفقاً إضافيا لم يكن متاحاً لي حتى تلك اللحظة. وحين تعرفت على الإنترنت شعرت بما يشبه المسافة الضوئية تخترقني معرفياً و روحياً، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار الدور الجوهري للمخيلة في فكرة الإنترنت ومن قبلها الكمبيوتر، فكل شيء في هذا الحقل ينشأ من طاقة الإنسان على التخيل والتعامل مع الأمر كما لو أنه عالم من الافتراض اللامحدود. والأطرف من هذا أن مادة هذا العالم الافتراضي الناتج عن طاقة المخيلة هو في الأساس معطى علمي خالص يتكون من نسيج وعلاقات رقيمة وحسابية غاية في التركيب والتعقيد، ليس من الضروري أن يدرك الشاعر كنهها لكي يكتشف علاقتها العميقة بما يتصل بالشعر كطاقة تقوم هي الأخرى على نشاط المخيلة و جمالياتها. ماذا يريد الشاعر أكثر من ذلك؟

لقد اقترحت عليّ تجربة الإنترنت (عمقياً) آفاقاً مضاعفة من الحرية والجمال يفضحان جلافة الواقع ومصادراته. فيما أعمل، أحب أكون حراً، فهذا شرط يتيح لي التمتع بالفعل الذي أمارسه. وكلما اتسعت فسحة الحرية الذاتية شعرت بالحياة تقترب من شفافيتها، ربما لأنني أعتقد بأن كل ما يصنعه الشاعر ينبغي أن يكون شعراً أو شعرياً أو محرضاً على ذلك.

من هنا أرى في فكرة الإنترنت ضرباً من الشعر (حرية وجمالاً) بوصفها فكرة تتصل بمستقبل لا يمكن تفاديه، خصوصاً إذا جاز لنا الاعتراف بأن الشعر هو ذهاب للمستقبل أكثر منه مراوحة في الواقع وحنيناً سطحياً للماضي.

حين بدأت وضع الشعر العربي (بمساعدة وحماس الأصدقاء في مؤسسة النديم لتقنية المعلومات) شعرت بأنني أضع الشعر في مكانه، أضعه في تلك المسافة الغامضة التي يتقاطع فيها النص والضوء والصوت والصورة، وبدأت أتأمل ما يحدث مثل شخص يرقب حركة أحلامه في سديم شفيف من المخيلة. ومثل هذا التقاطع اللامتناهي والفاتن بين الأشكال هو من صميم نزوعي لتجاوز التخوم التقليدية لأشكال التعبير، فثمة ما يتوجب الانتباه له وهو يحدث، مثل امرأة آن لها أن تصوغ شكل وطبيعة جنينها منذ بداية الحلم حتى رائحة الوردة.

إنني أعمل كل هذا (حتى الآن) وحدي، في غرفة صغيرة مكتظة بالمكتبة وكائناتها، بين ما لا يحصى من مخلوقات المخيلة البشرية التي ظلت طوال الوقت معرضة لسبات مستمر لا ينتهي. فإذا بي أنظر إلى تلك الكائنات والمخلوقات تستيقظ، نشيطة وتنتقل وتتصل بأبعد إنسان في أقاصي الفضاء الكوني، لتخلق نوعاً من الحوار الحميم، بهدوء فائق الخصوصية، وبلا ضجيج وبقدر لا محدود من الحرية التي لا تطالها سلطات العالم، وبدرجة من سرعة تشبه رفة هدب العين وهي تطلق شرارة الحب في القلب. وإذا بالأصدقاء يتقاطرون مثل مطر ناعم في ليل كثيف من الأحلام. كل تلك الطاقات الإبداعية التي يكتبها الشعراء العرب تبدأ الآن في الذهاب إلى العالم بصورة جديدة وجميلة في التجربة العربية، طريقة لم يحلم بها النص ولا الشخص العربيين. حتى أنني عندما وضعت بعض مختارات المتنبي في المرحلة التجريبية الأولى، صادفت بيتاً له يقول :

(أحلماً نرى أم زماناً جديدا          أم الخلق في شخص حيّ أعيدا)

لقد كنت أشعر بأن ثمة كهرباء حانية تنهر النص الشعري لكي يبدأ الحياة الأبدية هذه المرة. أقول أنني لا زلت أعمل كل ذلك وحدي، ويسرني أن أستقبل الزائرين على العنوان التالي :

www.jehat.com
qassim@qhaddad.com

س / ماذا في (جهة الشعر) : شعر قديم أم حديث ؟

* متصلاً بنزوع تجربتي الشعرية (ولأسباب ثقافية أخرى) أردت لجهة الشعر أن تعني بالشعر الحديث، (القرن العشرين)، خصوصاً بعد أن رأيت جهوداً أخرى تعمل في وضع الشعر العربي القديم على الإنترنت بصورة محترفة تليق بالتراث الشعري العربي، من بين أهمها "الموسوعة الشعرية" التي يعمل المجمع الثقافي في أبوظبي على الانتهاء منها قريباً. بالنسبة لجهة الشعر ستكون التجربة الحديثة هي الاهتمام الرئيسي بشتى اجتهاداتها الإبداعية. وهذه ليست مهمة سهلة ولا هو عمل يمكن أن يقوم به شخص واحد. ماذا أفعل إذن؟

في (جهة الشعر) أقسام ثلاثة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية (الملف الثالث قيد الإنجاز)، أطمح في من يتعاون معي من المختصين أدبيا في هاتين اللغتين. حيث على الزائر أن يختار منذ الوهلة الأولي اللغة التي يرغب في يقرأ بها المادة المتوفرة، خصوصاً وإن الشرط المعرفي للإنترنت، كفكرة ثقافية، هو توفر النصوص بلغات تستجيب لمختلف الأجناس. وتقدم أكبر قدر من المعلومات وعدم الاقتصار على الأدب بوصفه نصوصاً خالية من التحليل والمعلومات والبعد المعرفي. أعتمد التعريف بشاعر واحد، يستمر حضوره لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر بصورة شاملة وباللغات الثلاث. جاري العمل حالياً على إدخال معلومات أساسية عن الشعراء العرب المعاصرين من شتى البلاد العربية وبمختلف اجتهاداتهم الإبداعية، مع نماذج من أشعارهم، نصوصاً وسيراً شخصية مصحوبة بالصور، وحوارات و دراسات نقدية عن تجربة كل شاعر، وأفكاره النقدية ومقالات عنه وقراءات عن كتبه، إضافة إلى نصوص مترجمه للشعراء العرب في الإنجليزية والفرنسية، مع توفير عنوان الاتصال بالشاعر لمن يرغب من زوار موقع (جهة الشعر). وهناك باب خاص للدراسات النقدية، وباب للحوار وملف خاص يضم معلومات أساسية عن كل المجلات والدوريات الأدبية والشعرية، الصادرة حالياً والمتوقفة وعناوينها (في البلاد العربية والمهاجر) بأمل استكمال نشر فهارس هذه المجلات مثل مجلة (شعر) و (مواقف) و (كلمات) أم أنها لا تزال تصدر مثل (الكرمل) و(نزوى) وفي الملف مجلات ودوريات ربما لم تكن في متناول القارئ العادي لأسباب كثيرة. وهناك أيضاً متابعات للكتب والدواوين الجديدة واللقاءات والندوات الشعرية الأخرى. ويجري العمل على تحقيق اتصال بين (جهة الشعر) وأهم الملاحق الثقافية الأسبوعية لبعض الجرائد العربية، وكذلك تحقيق اتصال الجهة بمراكز البحث والدراسات العربية والأجنبية والجامعات المعنية بالأدب والثقافة العربية. وثمة اهتمام رئيسي في (جهة الشعر) بالفنون التشكيلية حيث يوجد ملف بعنوان (كليم اللون) نستضيف فيه بين وقت وآخر فنانا عربياً يجري التعريف بتجربته باللغات الثلاث مع حوار عن تجربته ومعارضه ومقتنياته ونماذج عديدة من أعماله الفنية وتوفير عنوان الاتصال به لمن يحب من أي منطقة من العالم. كما سيكون في الثلاث أشهر القادمة معلومات عن عدد كبير من التشكيليين العرب مع نماذج من أعمالهم الفنية. وأفكر جدياً في إنشاء ملف جديد عن الموسيقى العربية. بهذا المعنى، يمكن القول أنني لا أصنع مزحة ثقافية، ولكنني أضع الدعوة مفتوحة أمام من يرغب في الاستعداد للمستقبل ويستطيع أن يسهم في ذلك، فلابد لنا أن ندرك بأن ثمة عمل ممتع ومبدع ومفيد متاح لكي نجعل من الإبداع العربي نافذة جديدة على مستقبل العالم.

س / هل تعتقد أن قارئ الشعر العربي سيعود إلى الإنترنت ليقرأ من يشاء في حين الشعر متوافر في الكتب؟

* الفلسفة التي تقوم عليها فكرة الإنترنت تختلف جذرياً عن فكرة الكتاب. ومن يذهب إلى الإنترنت مقتصراً على آلية تصفح الكتاب فقط سوف يخسر كثيرا. فما تقترحه علينا برامج النشر الإلكتروني وشكل بناء وحجم المعرفة ووسائل الاتصال التي تستجد يومياً هي مقترحات فائقة الاختلاف، وتستدعي أن نكون مستعدين لتغيير مفاهيمنا وقناعاتنا بأشياء الحياة والثقافة. فإلى جانب عنصر سرعة الوصول إلى المعلومة، ثمة برامج يجري تداولها حالياً من شأنها أن تجعل الشخص يتعامل مع النص الشعري بأسلوب يتجاوز مفهوم القراءة إلى التحليل والكشف والنقد أيضاً، لفرط ما يمكن أن تحققه بعض البرامج، سهلة الاستخدام، من آليات وأدوات بحث يمكنها تحويل النص من مادة أولية خام ومحايدة أحياناً إلى ضرب من الأسئلة الحية. حاول مثلاً أن تبحث عن نص لقصيدة لأي شاعر في الموسوعة الشعرية، أو تتعامل مع لسان العرب، لتكتشف المعنى الذي أتحدث عنه، نكهة جديدة تكتسبها الثقافة الآن.

وأظن أن طرق البحث التي تتيحها الوسائل الإلكترونية من شأنها أن تتيح لنا مضاعفة معرفتنا (مثلاً) بما فعله أصحاب التدوين المسلمون بنصوص الشعر القادم من قبل الإسلام. وأخشى أن ما يشبه الفضيحة كامنة، على من يقدر على استخدام الوسائل الدراسة النقدية بشجاعة أن يذهب إلى إعلانها. فربما تأكد لنا أن طه حسين (مثلاً) قد رأى بجوهرته السوداء ما لم يعترف به المبصرون.

وما علينا إلا أن نمنح أنفسنا فقط متعة اكتشاف حقل المعرفة الجديد، ونتخلى عن التردد، ونبدأ في الإيمان بأن صعوبة التقنية وتناقضها من الثقافة والإبداع ليس إلا وهم يتوجب تجاوزه. وفي تقديري أن الإنترنت، بوصفها وسيلة اتصال جديدة، إذا لم يتعود عليها القارئ المعاصر، فان الإنترنت لن تخسر شيئا بل نحن الخاسرون. لأن ثمة قارئ جديد يتشكل حالياً وبسرعة غير منظورة وبحتمية تفرضها طبيعة الأشياء، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أننا لا نتكلم عن القارئ في حدود الجغرافيا الفيزيائية التي نعرفها. نحن نتكلم الآن عن قارئ يتجاوز حدود الوقت والمكان والطبيعة المحدودة التي تحبس الكتاب ( شخصاً ونصاً ) في ما يشبه الوهم.

س / في زمن يجري الكلام بشدة عن موت الشعر وموت قارئه وانحسار خارطته، تبدأ أنت بمشروع نشره على الإنترنت! هل تعتقد أن الأمر مجرد مغامرة فردية؟ ألا تلاحظ كيف أن الشعر يصبح صنيعاً فردياً وكيف أن الشاعر يتجه إلى عزلته؟

* طوال الوقت كان الشعر صنيعاً فردياً، ودائماً كنت أعتقد بأن الشعر (بوصفه إبداعاً) هو أحد معطيات عزلة الشاعر الذهبية. ولم أكن أقول بغير ذلك. وإذا نحن قد تورطنا أحياناً بمقولات جماهيرية الشعر وعمومية الكتابة، فان هذا لا يعني شيئاً بالنسبة للحقيقة.

وهذا كله لم يدفعني أبداً إلى الخضوع للأوهام التي راجت في السنوات الأخيرة وكرستها اجتهادات ثقافية تصدر عن مصدرين هما تجربة غير واضحة الملامح تأتي من لا مكان، من الصحافة الثقافية التي تقصر عن قراءة مادتي الحياة : النص و الحياة.

إنني لا أفهم معنى أن يقال بموت الشعر أو موت القارئ، لا أفهم ذلك خصوصاً إذا صدر من الشعراء أنفسهم. كيف يمكن أن يحدث ذلك والإنسان لا يزال موجوداً بكثافة في التجربة غير مسبوقة في التاريخ البشري. هل تقاس الأمور بمفهوم رواج المادة الاستهلاكي مثلاً؟ هل لمجرد أن القنوات الفضائية العربية تخلو من برنامج متحضر عن الشعر العربي؟ هل لأن الروح النقدي الذي يصدر منه الشعر والأفق الحر الذي يذهب إليه لا تطيق الأنظمة والسلطات العربية أن تجعله كائناً متاحاً للجميع كما تفعل مع أكثر أنواع الأغاني انحطاطاً؟ هل لأن فكرة التنوع وتعدد الأذواق لا تزال تضيق بمن يعمل على الكتابة الشعرية بالصورة التي لم تخطر على بال الخليل بن أحمد هناك ومسؤولي الثقافة العرب ضيقي الأفق هنا؟

هل لأنني كشاعر لا أقبل الخضوع لشرط وسائل الإعلام مفضلاً البقاء (مع كثيرين مثلي) في حرية الهامش طوال السنوات حتى لو كان هذا على حساب وصول نصي إلى أقرب قارئ يسكن في الدار المجاورة؟

لا أستطيع أن أقبل مثل هذه مصطلحات (الموت) هذه. أنا يائس من اليأس السائد، لكن نظرية الموت هذه لا تتصل بما أرى و أعمل، لأنها في نهاية التحليل تحقق هدفاً يسعى إليه الآخرون الذي لا يحبون لا الشعر ولا الشعراء، والذين يرغبون حقاً في (موت) الحياة من حولنا. كيف يمكنني الحديث عن موت الشعر وموت الفن والإبداع في حضرة أولادي المنشغلين هم أيضاً بكل هذه المكونات الإنسانية، كيف يمكننا تصور أولادنا في مواجهة أوهام مخيفة مثل هذه.

نعم أعمل على مغامرة، وأعتقد أنني كنت أفعل ذلك طوال الوقت وأحرض عليه في الكتابة. أليست أجمل الأشياء في حياتنا قد بدأت بمغامرة فردية؟ وبالمناسبة، فإنني أصدر من تجربة حياتية تمثل فيها النزوع العفوي للمغامرة على أكثر من صعيد، فكري أو شعري، وأظن أنني أجد نفسي دائماً منسجماً في هذا السياق، والتشبث بعدم الامتثال للقانون المستقر النهائي. ولعل في تجربة الإنترنت ما يغري بمواصلة هذه المغامرة الإنسانية الجميلة التي تجعل للحياة معنى. بالطبع دون أن نغفل تجارب أخرى مثيلة هي الآن قيد التحقق في مناطق مختلفة من البلاد العربية، سوف أكون سعيداً لو أنها اتصلت بي لكي نثبت أن ثمة الشعر الذي لا يموت وثمة القارئ الذي لم يكن في الحسبان.

س / آخر كتبك "قبر قاسم" مرفقاً بكتابين آخرين، واللافت أن الشعر في الكتب الثلاثة يستحيل إلى فضاء لغوي والى كتابة غير مأسورة بنوع ما أو حدود : كتابة حرّة، يمتزج فيها الشعر بالنثر، القصيدة واللاقصيدة. ماذا تحدثنا عن فضاء اللغة هذا؟ عن النص الذي تسميه "شهوة اللغة"؟

* دائماً كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. فما يميز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، قدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الخلق في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك.، حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكة تعشقه هو بالذات وأنه حرّ في هذه الحضرة لكي يمارس حريته معها بلا حدود. بهذا المعنى كنت أدخل في مغامرات اقتحام الحدود بين أنواع التعبير من جهة، ومن جهة أخرى أشعر بأن اللغة (إضافة إلى إحساسي بمسؤولية حق الحرية) هي ثروتي الشخصية التي لا تمنعني عنها سلطة ولا يشاركني فيها أحد، إلا القارئ الذي لا أعرفه. من هنا أعتقد أن المتعة التي كانت تمنحني إياها تلك "الشهوة" إذا صح التعبير، تضاعف طاقة المخيلة لحظة الكتابة، بحيث لا أكاد أرى في تخوم أشكال التعبير إلا آفاقاً مفتوحة وليست حدوداً.

الآن، لم تعد مسألة النثر والشعر تشغلني، وليست هي ما يتوقف أمامه النص عندما يبدأ في التخلق، بالنسبة لي هذا الأمر يطرح أسئلة أكثر عمقاً وجدة. لذلك فإنني أشعر بالقلق دائما عندما أصادف شاعراً يشي بعدم الاهتمام، واللامبالاة، باللغة فيما يكتب. فيبدو مثل شخص يجتهد في تثبيت أعمدة الكهرباء ومد الأسلاك وتركيب الكثير من زجاج القناديل، ولكنه لا يكترث بطبيعة التيار الكهربائي الذي يمنح الضوء لكل هذا البناء. اللغة هي الأهم في النص كما في الحياة. إنها أجمل الثروات و أخطرها كما قال شاعر لا يحضرني اسمه الآن. الشاعر لا يستطيع أن يتأكد (ويؤكد للآخرين) من قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة. أرجو الانتباه: فليس في كل ما قلت اقتراح بحكم قيمة على كتابتي، إنني أفشل كثيراً لأنني أعيش حياتي أضعاف ما أكتب.

س / ثمة مأخذ على بعض النصوص الشعرية ذات الهاجس التجريبي اللغوي وهو وقوعها في ما يسمى "توالداً" لفظياً وعبره يفيض المعنى لغوياً ليصبح هذراً متدفقاً ! أليست "اللفظية" سمة من السمات السلبية في بعض الشعر الراهن؟

* "الهذر" مجرداً، هو فعل غير شعري. ولكن بوسع الشاعر الموهوب، وهو يمتلك المعرفة والخبرة، أن يجعل من صنيعه الشعري الأكثر تبلوراً من الهذر، مادة يحقق فيها درجة الهذيان الإبداعي الذي يأخذ النص إلى لحظة الشعر. لا نستطيع أن نطلق أحكاماً عامة صدوراً عن محاولات تفشل هنا وتتعثر هناك وتنجح أحياناً. كل ما في الحياة يمكن أن يكون شعرياً إذا تناولته موهبة تعي ما تفعل. وهاجس التجريب ليس جديداً في حقل الإبداع، انه حق مشروع وجميل كلما تيسرت له الـشروط الشعرية. حتى الهذيان (لكي أميزه عن الهذر) يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الذهاب إلى الشعر. ألم يقل السابقون عن المهلهل أنه بالغ في الهذيان حتى قال شعراً.

في ظني أن الشعر لا يتطور ولا تتبلور رؤاه ونصوصه إلا بحرية التجريب وإدراك جماليات اللغة وملامسة طاقاتها اللامحدودة في التعبير. نحن كائنات لغوية لا تتحقق إلا بما تنتجه من الألفاظ. هذه الألفاظ التي قد تصبح سلبية ليست في الشعر الراهن فحسب، ولكن في أي شعر على الإطلاق، إذا هي كفّت عن صدورها من حساسية شعرية واعية. اللغة هي خبرة الإنسانية كاملة ممتزجة بشخص محدد في لحظة محددة هي النص الآن. من حق الشاعر أن يصنع ما يحلو له إذا تميز بالموهبة والمعرفة في آن واحد. وعلينا دائما أن نتحدث عن الظاهرة المحددة في النص المحدد، ونتفادى الاطلاقات التي قد تظلم أطراف كثيرة.

س / في "أخبار مجنون ليلى" الكتاب الشعري -التشكيلي الذي أنجزته مع ضياء العزاوي تستعيد أسطورة المجنون في صوغ شعري يعتمد "التناص" كمنطلق أول : كيف صغت أسطورة المجنون من خلال أسطورتك الشخصية؟ ماذا أخذت من "المجنون" وماذا أعطيته؟

* رأيت إلى أسطورة مجنون ليلى بحريات الشاعر وشغف العاشق معاً. تحريض الصديق ضياء العزاوي كان محفزاً لأن أكتب أسطورتي الشخصية، أن أصوغ الميثولوجيا الذاتية لشاعر يرى إلى الحب الآن. قبل أن أبدأ الكتابة عدت إلى الجزء الخاص بمجنون ليلى في "الأغاني"، فوجدت كم كنت قد وضعت الهوامش على روايات الأصفهاني منذ سنوات، كما لو أنني أطرح الأسئلة مبكراً على ذلك النص. كان الأصفهاني أحد أهم الذين بالغوا في وضع سيرة المجنون في مهب الشكوك التي تجعل من الحكاية ضرباً من الأسطورة. وهذا ما ضاعف حريتي في التعامل مع الموضوع. لم تعد تعنيني تلك الروايات التي تتناسل وهي تروي الأخبار عن المجنون، أذكر أنني شعرت بأن كل راوية كان يحكي قصته الخاصة عن قيس وليلى، فقد تحول قيس وليلى إلى سبب للبوح عبر العصور. بهذا المعنى يجوز لي كشاعر أن لا أصدق تلك الروايات، بل أحكي الحكاية التي أعتقد بأنها تعبر عني الآن وهنا. وأعطاني "المجنون" أن أرى إلى التجربة بوصفها موضوعاً قابلاً للتأويل. فرأيت إلى التجربة من خلال ثلاثة أسئلة تتصل بحقيقتي الإنسانية كشاعر، وهي جوهر الإبداع دائماً : الشعر والحب والجنون. ولا يخلو من دلالة كون هذه العناصر الثلاثة هي من مكونات تجربة السرياليين الأوائل. (والحق أنني أنتبهت لهذه المصادفة الموضوعية- حسب التعبير السريالي أيضاً- فيما بعد).

يقوم النص (أخبار مجنون ليلى) على رؤية مختلفة لطبيعة العلاقة بين قيس وليلى، ويقوم على مسائلة معنى الجنون، هل هو جنون القلب أم جنون العقل، ويقوم خصوصاً على حقيقة النص الشعري الذي يجري تداوله منذ بداية الأسطورة، هل ثمة شخص محدد اسمه قيس كتب هذا الشعر، أم أن العاشق عبر العصور هو الذي يقترح نصاً هنا ونصاً هناك؟ ولعل في التفاوت الفني في النصوص المنسوبة لقيس يشي بأن أجواء لغوية تعبر عصوراً أدبية واضحة الملامح قد وصلت إلينا، مما يغري بأن يضيف الشاعر الجديد (دائماً) نصه الخاص.

وإذا جاز لي الزعم بأنني أعطيت "المجنون" شيئاً، فربما يتصل هذا بأنني خلعت عنه هالة العذرية الفجّـة و وضعته (معنا) على أرض الحب الطبيعي ومنحت ليلى حرية المباهاة بحبيبها حتى في حضرة زوجها. ففي تقديري أن أحداً لا يقول هذا الشعر الجميل إلا إذا كان قد (استذوق قندة الحب) في الواقع وليس في التخيل. و هذا هو من حق الإنسان دائماً.

س / من الملاحظ أن في الخليج العربي خروجاً على سلطة آباء الحداثة وتمرداً على الإرث اللغوي وعلى البلاغة واللفظية. وثمة أصوات كثيرة تخطت سلطة الكتابة نفسها وسلطة الشعر متجهة عن المعادلات الشعرية اليومية، نحو قصيدة التفاصيل، القصيدة الواقعية... كيف نرى إلى هذه الظواهر الشعرية الراهنة؟

* تعبير "آباء الحداثة" يشي بنظرة قداسة لأشياء الحياة، وهو يجعلنا، خصوصاً، أمام بنية من الكهنوت والبطاركة التي يتوجب على المرء أن يخضع لأوهامها، لكي يشار فيما إلى خروجه عن هذه السلطة أو خضوعه لها. إنني لا أرى الأمر بهذا الشكل. إن حركة الحياة تستدعي النظر إلى كافة التحولات باعتبارها الحيوية المتوقعة دائماً. لا أحد يزعم (برغم كل وسائل التكريس الإعلامي) أن ثمة تجربة قادرة على تثبيت اللحظة الشعرية في العالم. للجميع حرية الاجتهاد مادام شرط الإبداع والمعرفة متوفرا. ولست مع وهم أن تجربة أو اجتهادا ينفي الاجتهاد أو التجربة الأخرى. في الحياة متسع للجميع، بل أن الحياة تتطلب هذا التنوع اللانهائي في طرائق التعبير وأشكال الكتابة.، قصيدة التفاصيل، القصيدة الواقعية، النص المفتوح..الخ.

وهذا بالطبع أمر يختلف عن مسألة الاعتراف بتجارب المبدعين السابقين في هذا الحقل أو ذاك. وأشعر أن من أخلاقية المبدع أن يعترف بمعلميه وأساتذته وآبائه خصوصاً، وله أن يبجلهم أيضاً، انه سلوك حضاري حين لا يتحول إلى تقديس النص. إنها أجمل الصفات التي يتميز بها المبدع، حتى أن المتصوفة كانوا يضعون هذه الخصلة شرطاً أمام التلاميذ لكي يكتسبوا طبيعة الخالق. أقول هذا استطراداً لكي أشير إلى ظاهرة تستوقفني في السنوات الأخيرة في الوسط الثقافي العربي، وخصوصاً في مجال الشعر. فقد لاحظت أن ثمة مبالغة في التنكر للجيل الأسبق ومحاولة نفيه، ظاهرة تتفشى في أوساط الأجيال الجديدة، إلى درجة لا تليق بطبيعة المعرفة وأخلاقيات المبدع. ويخالجني أحيانا شعور بأننا سنكون آخر الأجيال الشعرية العربية التي تعترف بأساتذتها وبالتجارب المهمة التي سبقتها. وهذا الاعتراف لا ينفي حريتي في طرح اختلافي مع تلك التجارب ومحاورتها ومحاولة تجاوزها على الصعيد الفني أيضاً. بهذا المعنى ينبغي أن نحسن التعاطي مع مفهوم التمرد الذي لا ينبغي أن يتوقف عند المبدع. وعندما يتحول الإرث اللغوي والفني إلى حاجب يمنع رؤيتي الخاصة وبالتالي منع القارئ من التعرف إلى ما تشير إليه تجربتي المختلفة عن تجربة الجيل السابق ورؤاه، عندها لابد لي من وضع ذلك الإرث وتلك البلاغة في المكان الذي يليق بها (تاريخياً)، وخلع القداسة عنها، والالتفات الجاد نحو ما يستجيب مع حساسيتي الجديدة. وما يحدث في الشعر المكتوب في الخليج هو ذاته ما يحدث في الشعر العربي عموماً. المشهد يكون مكتملاً و أكثر وضوحاً عندما نرى إليه في الأفق العربي.

س / هل في إمكان الشاعر اليوم أن يكون شاعراً فقط في زمن المادة والاستهلاك والعولمة؟ ماذا يعني لك الشعر؟

* الشاعر في كل مرحلة، هو كائن في لحظته التاريخية. بمعنى أنه إنسان يتصل بكل المعطيات المعرفية والسياسية والاجتماعية. يمكن أن تتفاوت درجة اتصال هذا الشاعر أو ذاك بهذه المعطيات، لكنه، حتى بغير وعي كامل منه، سيكون نتاجاً لهذه المعطيات ومتأثراً بها. الشاعر لا يتخلى عن شعريته فيما يتقاطع مع أشياء الحياة. انه يمنح شعريته هذه الأشياء، ويرتفع بها إلى مرتبة أكثر سموا وأعمق رؤية ويحافظ أثناء ذلك كله بالمعنى النقدي الجميل الذي يمثله الشاعر في الحياة الإنسانية، حيث الجنة هي في المكان الآخر الذي يتوجب أن تذهب إليه الإنسانية. والظواهر المستجدة مثل المجتمع الاستهلاكي أو مسألة العولمة لا ينبغي أن تخيف الشاعر أو ترهبه، على العكس الشاعر لا يخاف من أية سلطة، فلديه شروطه التي لا يتخلى عنها.

و بالنسبة لي، الشعر هو المبرر الأخير في حياتي، ربما لأن الشعر هو ما يجعل الحياة جديرة بالعيش ومحتملة.***

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى