لقاءات

بعد القصيدة ، لا أنت انتهيت و لا الحب يكفي

الرباط - المغرب
محمد الصالحي

س / هب أنك نفيت إلى فلاة (أو جزيرة، ما شئت) وهب أنك خيرت بين ديوان السياب وديوان أدونيس، فأي الديوانين تختار. لماذا؟

* لماذا ينبغي علينا أن نأخذ موقف التفضيل في حضرة الشعر. وكيف يمكن الاعتقاد بأن ثمة شعر يمكن أن يغني عن شعر آخر. إن في هذا النظر قدر لا بأس به من القسر الذي لا يستقيم مع الإبداع. وعندما يتعلق الأمر بالسياب وأدونيس خصوصاً سأجد أنه من الضروري التنبيه إلى أنك تذهب إلى مقارنة غير مأمونة، بين تجربتين تمتلكان القوة على هزيمتك وهزيمتي في لحظة واحدة. فمن ينفيني عن العالم لن يمنحني نعمة الشعر، لأنه سوف ينفي نفيه لي عندما يتيح لي قصيدة واحدة. فالاتصال بالشعر ينقض النفي بالنسبة لي، أي شعر كان.

س / ألا تشعر بالخيبة بعد الانتهاء من كتابة قصيدة؟

* ليست خيبة، إنها لحظة ما بعد (الحب)، حيث تشعر بأن اللذة كانت طاغية إلى الحد الذي تجعلك أقل من الاكتفاء وأكثر قليلاً من الفقد. فلا أنت انتهيت ولا الحب يكفي. وليس أمامك سوى الصلاة من أجل لحظة (حب) أخرى، تعيش لها ومن أجلها. فكلما أنجز الشاعر قصيدته الجديدة، ظاناً أنه قال الكلمة، يكتشف أنه لم يفعل سوى الإشارة، مجرد الإشارة إلى الأفق، فيما يكون الأفق لا يزال بعيداً وغامضاً،ولابد من الذهاب الفاتن إليه أيضاً و أيضاً.

س / ما جدوى الشعر في عالم كهذا؟

* لا جدوى من البحث عن جدوى للشعر في العالم. و إلا فلن يكون أمامك ما يكفي من الأسباب لكي تواصل الحياة، إذا أنت رغبت في تحقيق الأساطير بواسطة الشعر. فالشعر هو الدلالة الوحيدة على أنه (مثل الحياة) موجود يسعف الروح. هل بإمكانك تفسير الروح ؟

س / هل تؤمن بهذه الأكذوبة " الشعر طفولة أبدية " ؟

* ليس من الأكاذيب أن يكون الشعر هو طفولة العالم الأبدية، فالطفولة هي أحد أسرار الشعر، وطاقته الغامضة على التعبير عن الإنسان. سوف يظل في الشاعر قدر من طفولته وطفولة أشياء الحياة فيه. فليس مثل الطفل طاقة قادرة على ملامسة أشياء الحياة بالبراءة والحرية ذاتها التي يتميز بها المطر عندما يهطل ويلامس التضاريس دون أن يمنعه شيء. علينا أن نصدق بأن الطفولة هي منقذتنا.

س / هذا التهافت على الإعلام المرئي، على المهرجانات، على الكاميرا، على الأضواء. هذا الاستسهال للمعاناة الإبداعية، هذه السقطات.. هل من انبعاث جديد لمجد الكلمة؟

* ذلك التهافت، الذي تشير إليه، لا يتصل بالشعر والإبداع من طرف. إنها أحد الطبائع البشرية التي يمكن مصادفتها في كل مكان. وهو سلوك لا يسوّق الشعر ولا يمنعه. والمبدع لا تعنيه مثل هذه الظواهر، ولا يذهب إليها، ولا تغريه، بل على العكس، ستجد دائماً المبدعين أكثر الناس توجساً وحذراً وغياباً عن تلك الشراك الإعلامية. الشعر شأنٌ لا يصرفه حب الضجيج الذي عن ذاته. ثم أن النظر إلى المشهد الشعري من خلال كل تلك الظواهر هو موقف يشوبه الخلل، يجب عدم الاستجابة له. ومجد الكلمة ينشأ من داخل المبدع وليس من خارجه. فذلك التهافت ذهاب إلى الخارج بلا هوادة.

س / الشعر لا يصنعه العروض، ليكن. الشعر يصنعه الإيقاع. ليكن، لكن ما الإيقاع؟

* الإيقاع هو الروح الغامض الذي يمنح الشعر طبيعته وخصوصيته وطاقة الحياة فيه. ولم يعد ممكناً الآن الكلام عن الإيقاع بالمعنى (التقني) في الكتابة الشعرية. فشعرية النص الآن باتت أكثر تعقيداً من ذلك التبسيط الساذج والمخل، الذي قصروه على العروض والأوزان والتفاعيل وموسيقى الداخل والخارج وقصيدة النثر والشعر، وما إلى ذلك من الأوهام.الإيقاع هو الشخص الذي يجلس هناك وراء الأبجدية الجديدة التي يعاد صياغتها في كل كتابة وكل نص. وعلينا أن لا نتوقف كثيرا أمام المفهوم القديم للإيقاع، وإلا فعلينا أن نقبل الكثير مما يكتب الآن باسم الشعر، بل إننا سنقع في الاستسهال نفسه الذي أشرت إليه قبل قليل.

س / ألا ترى أن محاولات التخلي عن الوزن قد فتح الباب أمام هذه التفاهة (الشعرية)السائدة؟ ألا ترى أنه لابد من قيود؟

* لتعذرني قليلاً. ليس من العدل إطلاق الأحكام هكذا، ولا أميل أبداً إلى القول بالتفاهة (الشعرية) التي تذهب إليها. خصوصاً و أنك بمجرد ما تقول (تفاهة) فإنك تنفي الشعرية من المشهد. فكيف يستقيم القول عن كل ذلك دفعة واحدة. ومن جهة ثانية، فإنني لا أميل أيضاً إلى (القيود) التي تدعو إليها. ليس من حق أحد أن يقول بالقيود في حضرة الشعر. يكفي قيوداً متناسلة في حياتنا. علينا فحسب أن نذهب إلى الإبداع، وإذا تعثر ذلك، فإن الخلل ليس في الحرية لكن في الموهبة. وهذا لا يدفعنا إلى مضاعفة السجون لإصلاح العالم.

س / كتب راينر ناريا ريلكه. (لأن الجمال لا شئ، سوى بداية الرعب) لو نعرّف الشعر بكونه رعباً ونستريح؟

* ليس رعباً. إنه الإحساس بالخطر، وهذا شيء يختلف عن الرعب، فعندما يشعر الإنسان بالخطر، فإنه (إذا كان مبدعاً) يتجاوز الرعب إلى قوة الذات لمواجهة العالم. ولعل ريلكه لا يعني ما فهمته. (أو أرجو ذلك). الجمال هو الخطر الجميل الذي يهدد قبح العالم. والذي يصاب بالرعب هم الآخرون، الذين يقعون في الفضيحة في حضرة الجمال. هكذا أحب أن أفهم ريلكه. إما إذا أردت أن تقول شيئاً (لتستريح)، فثمة وسائل أخرى غير إطلاق النار على الغابة بحجة الغموض الذي ينتابك أمامها.

س / ما الجسد الأدبي الأقرب إليك (بعد الشعر طبعاً) ؟ إذ في بعض الأعمال السردية العربية اشتغالاً شعرياً يفوق ما يدعيه كثيرٌ من (القصائد)؟

* صارت الكتابة بالنسبة لي جسداً واحداً فسيح الأرجاء مثل الأفق. فكل شعرية في الحياة هي جزء من كياني. النص هو العالم شعرياً. فعندما أكتب، لا تعود التخوم أمامي سوى مغريات بالذهاب إليها بعناصر الشعر. ليس ثمة بعد الشعر وقبله.

س / كل هذا الكلام الساقط حول قصيدة النثر، ثم لا شعر ولا نثر ولا نقد. شخوص غرائبية تقتات من صدف الآخرين؟

* ها أنت تعود إلى الشتيمة. (الساقط) تعبير لا يليق بالموقف على الإطلاق. فكأنك في مواجهة محكمة أخلاقية تريد أن تقول بلغتها عن حقل لا يتصل بها. لماذا لا تريد أن ترى غير الصورة القبيحة من المشهد. ففي المشهد من الجمالات ما يدعوك لتأمله. لعل ذلك أكثر (راحة)، وأكثر حرية في الذهاب إلى الإبداع. فنحن لسنا في صحراء مقفرة. وإذا أحببت أن تشير إلي قصورات وضعف هنا أو هناك، لابد لك أن تضع يدك على النص الذي تعنيه، و إلا فإنك ستأخذ موقف الجلاد الذي يرفع سيفه (بعينين معصوبتين) ويقتل.

الشعر ليس هذا أبداً. وأقترح أن نتفادى الحروب الصغيرة التي تأخذنا إليها المواقف المسبقة من الحريات الجميلة والموهوبة التي نحلم بها، ويحققها قدر لا بأس به من الإبداع العربي الراهن.

س / أشعر وكأن الشعر جسد تقاسمته الأجساد الأخرى. فاختنق ؟

* حسناً. أقترح عليك عند هذا السؤال، أن تتوقف قليلاً. تستعيد أنفاسك العميقة، تتفادى الاختناق المحدق بك، وتتناول كتاباً تحبه، وتشرع في القراءة. ففي هذا دواء ناجع لتجاوز الحالة التي تستحوذ عليك منذ السؤال الأول. فلكي تستمتع بالشعر يجب أن تحبه.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى