لقاءات

هذا ليس سؤالا ، إنه حكم ناجز

جريدة عكاظ السعودية

س : يقول الشاعر الفرنسي بول ايلوار (أن تحرير اللغة شكل من أشكال إمكانيات تغيير نمط الحياة). وكان يرى ضرورة تحويل اللغة من أجل إيجاد لغة جديدة تلائم علاقات إنسانية جديدة. فهل يمكن أن تصبح اللغة حياة تنهض على أنقاض واقع هو نقيض الحياة ؟!

* ليس ثمة ما يمكن تسميته واقع (نقيض) الحياة، إلا إذا لجأنا إلى تغييب الواقع، وبالتالي نفيه. أنت لا تستطيع نفي الواقع لأنه حي موجود. قد لا يروق لك، قد يتناقض مع أحلامنا إلى حد كبير، وربما يحاول بدوره أن ينفينا، وهذا هو مظهر من مظاهر حياتنا العربية تجاه الثقافة و المثقف. لكن من المؤكد أنك لا تستطيع اعتباره نقيضاً لك حياتياً.

أما عن اللغة بوصفها حياة، فإننا هنا سنكون في أقاليم المجاز الأدبي والشعري خصوصاً. فاللغة كائن حي بالفعل لكنه ليس حياة كالتي نتحرك فيها ونعايشها ونستبدل عناصرها وربما نسأم منها كما فعل شاعر قديم. فالدور الحيوي الذي تنهض به اللغة بالكاد يمكننا ملامسته، أو ملامسة أشياء حياتنا به. مرة قال مايكوفسكي أنه لا يحمل أية أوهام ببناء أي شيء بواسطة اللغة. وهذا ما أعتقد أن علينا التوقف عنده واستيعابه لئلا نقع في الكثير من الأوهام. اللغة (وبالتالي الأدب) ليس بمقدورها أن تحقق شيئاً لا يتحرك الإنسان (كطاقة اجتماعية شاملة) لتحقيقه بوسائل أخرى كثيرة متاحة لمن يتطوع لذلك، كل في مجاله. يكفى تشبثاً بأوهام تغيير الحياة باللغة أو بالشعر أو بالأدب، وأكاد أقول بالثقافة قاطبة، خصوصاً في أقاليمنا العربية حيث الثقافة ما تزال خارج المشهد وفي هامش الهامش.

س : كيف لنا الارتهان لواقع فني يبتعد قليلاً أو كثيراً عن الواقع المعاش ؟

* لا أفهم معنى أن يكون (الواقع الفني) بعيداً عن الواقع المعاش. إن هذا عدم دقة في التعبير، أخشى أن تكون صادرة عن تشوش في رؤية الأشياء الأدبية في سياقها الإنساني. لا أرى في أية لحظة من لحظات الفنان و الأديب أن يكون (بعيداً) عن (الواقع)، فهذا لا يتحقق إلا في اللحظة التي يكون فيها الشخص بعيداً عن (الحياة)، أي أن يكون ميتاً.

إنكم تذهبون في المبالغات إلى حد تداول مصطلحات لا تدركون دلالاتها الحقيقية، و إلا كيف يصادف أن يكون الأديب حياً و بعيداً عن الواقع المعاش في نفس الوقت. هذا خلط لا يجوز الاستمرار في ترويجه في حياتنا الثقافية، الأديب هو شخص يعيش الحياة مثله مثل أي إنسان آخر في المجتمع، وهو بالتالي يعبر عن حياة و واقع يعيشهما ويعاني فيهما مثل غيره.

و إذا كانت طريقة تعبيره لا تروق لك أو لي فإن هذا لا يعني أنه بعيد عن الواقع، فالواقع ليس هو بالضبط ما أراه من وجهة نظري. الواقع هو أكثر عناصر الحياة شمولاً و اتساعاً وقبولاً لمالا يقاس من الاحتمالات، وبالتالي الاجتهادات الرؤيوية. فأنت تستطيع القول بأن هذا النص لا يعجبني لأسباب، لكنك لا تستطيع القول بأن هذا النص غير واقعي لأنه منفصل عن الواقع. هذه استهانة بحرية المبدع و مصادرته مسبقاً إلى حد الجحود. من أنت (أعني من أنا) حتى تطلق حكماً على شخص يرى الواقع بطريقة لا تتفق مع طريقتك، وربما مع مئات وآلاف من القراء غيرك. إن هذا شأن المبدع عندما يكتب، إما أنت (أعني أنا) فيتوجب عليك أن تبحث عما يروق لك عندما (تعتقد) بأن هذا النوع من الكتابة لا تعجبك. أخشى إن يكون سؤالك صادراً من نفس المنظور الذي يروج في السنوات الأخيرة لنفي ذاتية الأديب. و نموذج لهذا التفكير (الذي لا أتفق معه)، ما حدث في أمسية لحسن السبع و علي الدميني أقيمت في الدمام في الأيام القليلة الماضية، قرأت عنها في الصحافة، حيث (اعترض أحد الحضور على انفصال الشعر عن الواقع المعاصر، ونزوعه للتأثيرات الذاتية للشاعر، بل وجنوحه للمؤثرات القديمة كالناقة والصحراء والليل وغيرها، وكان من الطبيعي - حسب تعبير المعترض- أن يهتم الشاعر بقضايا معاصرة كمأساة البوسنة والهرسك مثلاً، و غلاء المهور..). هل هذا هو الواقع الذي تريدون من الشعر أن يتوقف عنده ويعرضه بالشكل الذي نصادفه في الجرائد ووسائل الإعلام الأخرى؟

إن هذا يدعو للرثاء حقاً. لكن أعود و أقول أن ثمة من الشعراء من يكتب في مثل هذه الأشياء الواقعية، وما عليكم إلا أن تبحثوا عنها هناك، حيث الكتابة التي لا تعجبنا، ونتمنى عليها أن تعجبكم. فإذا كان هذا هو الواقع الذي تقصدون فنحن حقاً لا نعبأ به كمشكلية إبداعية أو هاجس فني. الأدب و الفن ليس كذلك.. في اعتقادنا.

س : يرى البعض أنك مهووس بالتجريب فعماذا تبحث؟

* لا أبحث عن شيء، أنني أجد. أما عن كوني مهووساً، فهذا صحيح، ولكن ليس بالتجريب إنما بالحب. لأن التجريب ليس قراراً، إنه يحدث عندما تتحقق الكتابة، خصوصاً تلك الكتابة التي تأخذني إلي اللذة المتناهية كأنها الحب. هل جربت مرة أن تتبادل الحب مع الكتابة ؟ هذا هو السر الذي جعل البعض يعتقد أن التجريب هو الهدف والغاية، لكن أن يكون الشخص مهووسا، يا إلهي، كيف تسنى لك أن تعتقد بأنني أشتغل في جنة الكتابة كما لو أنني في مصحة عقلية؟!

س : ما هي الأسباب وراء تأخر المثقف العربي في التكهن بالمتغير قبل حدوثه؟

* هذا ليس سؤالاً، إنه حكم ناجز، لا أدري كيف تيسر لك أن تعتقد به واثقاً إلى هذا الحد. يا عزيزي، إنني لا أميل إلى إطلاق التعميمات بالشكل الذي تقترح. المثقف العربي ليس واحداً، ولو كانت للثقافة والمثقفين الاحترام والتقدير الذين يستحقانهما في حياتنا العربية لما عشنا كل هذه الكوارث بالشكل التي تحدث لنا. ولما وقع بعضنا في تبرئة السياسيين والأنظمة بتحميل المثقفين مسؤولية كوارثنا. فأنت لا تستطيع (مثلا) أن تمنع المثقف من ممارسة حقوقه وحرياته ثم تأتي لتحاسبه على واجباته. هذا الأسلوب لا يليق بمن يزعم أنه في النهاية الأخيرة من القرن العشرين. لابد أن تتريثوا ألف مرة قبل أن تطلقوا النار على شخص مكبل بالأصفاد، أحداقه نافرة بالرؤية الجهنمية، وظهره للحائط، ثم تزعم أنه لم (يتكهن) بالمستقبل الذي نذهب إليه كما لو أنه الهاوية. وأتمنى على العاملين في الصحافة الثقافية أن لا يواصلوا تطوعهم من أجل تبرئة ساحة المسؤولين الحقيقيين عن مصائبنا.. قبل إخلاء الجرحى.***

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى