لقاءات
دلمون القصيدة بمعطف القرن الحادي والعشرين

حاوره: نعيم عبد مهلهل

تستيقظ دلمون في كل صباح ليقابلها ضوء زمنين تتداخل فيهما رؤى مشتركة لآلهة صنعتها الرغبات وأحلام قصائد العشاق. ضوء أور السومرية وضوء البحرين دانة الشاطئ الخليجي وبين البقعتين تخطط الأساطير مشاريع الوصول إلى ظل التأريخ بأقل عذاب ممكن، وتلك المهمة لا يتحمل مشقتها سوى الشعراء وربما يكون الشاعر قاسم حداد من أولئك بفضل تراث شعري مكنه ليكون في مقدمة نساجي معطف دلمون الذي ارتداه في القرن العشرين وسط تداخلات البدء للعولمة والحروب والاحتلالات وقفزت معه إلى القرن الحادي والعشرين . وهو شاعر الجملة الواعية التي كانت ثوريتها مميزة بحدة الصوت وكثافة الصورة ، وهو أيضاً من الذين افترضوا في الشعر كينونتهم الوطنية وجعلوه شكلاً من أشكال المقاومة الحضارية والثقافية ، والذي يقرأ قاسم حداد يكتشف مراحل لاتحصى من نضوج الحلم الدلموني وتحولاته الفكرية التي ولدت من مخاضات لاتحصى في معركة أثبات الوجود ، وهو شاعر يضج بمعجميات الأمكنة وتأريخها فيما تمثل دراما وعي القصيدة عنده رائية لاكتشاف أكثر من هاجس ويصعب جداً أن ترى في شعر قاسم حداد تلاقيات هشة أو مديح لمن لايستحق المديح حتى لو كان نسراً على جبل .
هذا شاعر تتوضح خطاه في قيمة ماينتج ، وتراثه عبارة عن أهرامات من قصائد أزمنته هو بكل ماملكت من قساوة وعسر ومرح ولقد شكل مع مجايليه وعياً جديداً وحداثوياً للحركة الشعرية في مملكة البحرين بل وجعلوا هذا الحركة علامة فارقة في تطور الجملة الشعرية وقوتها في زمن كانت شواطئ الخليج تبحث عن ذاكرة الوجود وسط جنون تدفق ناقلات النفط وهموم البحث عن السيادة والتخلص من هيمنة الشركات الكبرى .
في المنامة حيث ركن قاسم حداد مع روحة الرائية لظلال الأشياء اللامعة حتى ببعد سنوات ضوئية ، هدأت الرجل وركنت إلى صوفية حاذقة وتبشيرية ذهنية تداف بشئ من حداثة الفلسفة الأثينية المعمولة بخلطة رمل سواحل جزر بلاده المتناثرة في ذاكرته كحبات اللؤلؤ الذي شد به قاسم وجع قصائده الأولى وصنع منها إشراقات واقعية البدء وجدية تعاملها مع الموجود الذي كانت تهيمن عليه عادات الشرق وتقاليده التي لاتحصى والخاضعة أصلاً إلى موروث الاستلاب وثورات الحلم منذ مقتل الحسين ومروراً بالقرامطة والزنج وعصيانات القرن الثامن والتاسع عشر وانتهاءاً بعصر التمدن .
ويبدو أن خيار هذه الصوفية قد خلقت كونية واعية لنمط الحداثة الشعرية لقاسم حداد لهذا واستباقاً لكل هذا المجد الشعري الواعي وما أقل الواعين من صاحبي موهبة الشعر كان الحوار معه أشبه بمن يغامر ويصنع في ذاكرته حلم سندباد لسفينة لم تصنع بعد . ولأني صنعت أسئلتي من خلال جهد قراءة مركز لتراث قاسم حداد عبر معرفة ثقافية تعود إلى سبعينيات القرن الماضي حملت أسئلتي على أكتاف ذاكرتي وبسطتها أمامه كمن يبسط بضاعة الريش في نهار لا تهدأ الريح فيه .

* الشاعر قاسم حداد أنت وكما أراك حساً عائماً في قدرية الامتلاك. وكأن هذا وصف سريالي .ولكنك حتماً ستجد جواباً لمشفرتي.أي أريد منك أن تضع حدود الفهم لقصيدة تولد في رأسك، وأفضل أن تكون من البدايات؟

- الشاعر لا يستطيع الزعم باقتراح حدود (لفهم) قصيدته. ليس، فقط، لأنه لا يريد أن يفسد حرية قصيدته، ولكن الأهم أنه ليس من الحكمة المجازفة في (إفساد) لحظة القارئ مع النص بتعويق حرية مخيلته. فالعطب سرعان ما ينال من حق القارئ في النظر، ليس إزاء قصيدة بعينها، ولكن مجمل العلاقة الحرة مع الشعر سوف تتعرض للمصادرة.
فالشعر بالدرجة الأولى هو فعل حرية. وعندما أكتب نصاً ما، ليس في برنامجي معنىً ناجزاً (مسبقا) أقترحه (لئلا أقول أفرضه) على القارئ، مطلق قارئ. بقي أن تدرب (مشفرتك) على تفادي توجيه مثل هذا السؤال للشاعر، فربما ساعدك القارئ على ما تريد أكثر مما تتوقع من الشاعر. وبالمناسبة فنحن عندما نكتب القصيدة أو الشعر فإنما نكتبه للقارئ العاري والمتحرر من (المشافر) وليس للناقد المدجج بها.

* الشعر هو ما يذهب بنا إلى آخر لا نعرف ملامحه بالضبط سوى انه قارئ. كيف نصنع ثقافة مميزة لقصيدتنا؟ هل نرمي الطعم لذاكرة الآخر ونشيد له وعياً لا يمتلكه هو أصلاً؟ هل نحتفي معه بسعادة نصنعها من أجله؟ أم أننا نبدع القصيدة ونترك الحبل على الغارب؟

- كيف تجرؤ؟ شخصياً لا أجرؤ القول عن القارئ أنه (لا يمتلك الوعي أصلاً). هذا قول (غليظ) .. يا نعيم.
ليس من الحكمة الزعم بهذا، كما لو أن القارئ هو جاهل مسبقاً. علينا أن نتميز بوعي يمنحنا الثقة في القارئ. أكثر من هذا، فإنني من الذين لا يثقون في ثقافة ومعرفة القارئ فحسب، ولكنني أشعر دائماً في أن ثمة قارئ يتميز بالوعي والمعرفة أكثر من الشاعر. هذه طبيعة أشياء الحياة. فكون الشاعر قادر (بموهبته) أن يكتب القصيدة فان هذا لا يعني على الإطلاق أنه يمتلك المعرفة والثقافة أكثر من سواه، وخصوصاً ليس أكثر من القارئ. ولا ينبغي الصدور أبدا عن هذا الوهم لئلا نسهم في تكريس الفجوة بين النص و العالم.
في سؤالك ثمة تعالٍ لا يليق بمن يضع أدواته النقدية (تواً) في موضع الصقل والتجربة الجديدة. يستدعي الصدق والمسؤولية التنبيه برصانة حميمة إلى أننا غير مهيئين إلى خذلان إضافي ونحن نأمل في الأصوات النقدية الشابة وهي تقترح علينا حوارها المختلف.
لقد عانت تجاربنا بعض الأوهام القاتلة، من بين أخطرها تلك النظرة الدونية للقارئ، إلى حد أن ثمة من تلقى فكرة (موت) القارئ لكي يؤثث موقفه الفض تجاه الآخر، مبالغاً في الوهم بأن الشاعر هو نبي المعرفة والوعي لا يستطيع أحد فهمه وليس بين القراء من يمتلك ثقافته.
أية روح يمكن أن تقود الشاعر والمثقف إلى هذه النظرة ؟ وإلى أين تأخذه؟
شخصياً، اشعر بالقلق الكبير تجاه أجيال الشباب وهم يستوردون هذه المنظورات من أسلافهم المعاصرين، لتواصل المزاعم نفسها مكرسة القطيعة (المتوهمة) ذاتها. لابد لكم أن تكترثوا جيدا وعميقاً بما يصادفكم في التراث المعاصر أكثر من اكتراثكم بتركة التراث الموروث.

* غاستون بلاشار يقول : المكان هو من يصنع مادة الذهن . ماذا يفعل الزمان للذهن إذن . ولكي أقربك من وعي العبارة سنأخذ قصيدتك (ماتيسر من سورة الخليج والدماء) وهي كتبت عام 1970 . أنا درست رائية الثورة في هذه القصيدة وكان صوتها يتحدث عن مكان هو البلاد وبعض شخوص لكن الزمن ينفلت إلى أكثر من مكان. ماذا تقول ؟

- تلك القصيدة ليست نص مكانٍ فقط، ولكنها خصوصا نص زمان. وربما كان هذا السبب هو ما جعلها أقل قدرة على الاستمرار (النوعي) في تجربتي الفنية. ها أنت تتشبث بالنص بوصفه (ذاكرة)، في حين ينبغي لك، (كقارئ خاص أولا وكنزوع نقدي ثانيا) أن تتصل بالنص بوصفه (مخيلة) بالدرجة الأولى. في الشعر، تظل المخيلة هي العنصر الأكثر قدرة على العبور العميق للزمان و المكان.
تلك القصيدة، (وهي بالمناسبة من النصوص التي لم يتضمنها أي كتاب شعري لي)، هي بالضبط من النصوص التي (تقول) وليست من النصوص التي (تحلم). وها أنت تقول أنك درست فيها رائية الثورة.
إنني مدين لتلك القصيدة ومرحلتها بالكثير من دروس (الثورة) على غير صعيد.

* أعمالك الأولى (البشارة، خروج رأس الحسين ، قلب الحب ………..) تميزت بمرحلة الانفلات الذي لا يخشى. أنا قرأت خروج رأس الحسين وكنت طالباً في المتوسطة. خلتك تدعو إلى ثورة جديدة وتشهر استلاب الذات العربية بجرأة قد تحسد عليها . هل بقيت تلك الجذوة موجودة كما في كتب السبعينيات ؟

- عليك أن تسال النص دائماً، لأن الشخص مشحون عادة بمزاعم ليست فوق مستوى الشك. الشعر يمنح الإنسان مشاعر تتراوح بين الأحلام والأوهام بصورة غاية في الخطورة. وأخشى أنه كلما كثرت المزاعم ندرت الأشعار. بالطبع لا اخفي أنني تواق للمغامرة لا أزال، دون أن يكون هذا التوق ناجحاً على الدوام، لأن احتمالات الفشل تكون أكثر كلما تقدم الكائن في السن والتجربة، ربما لتعب الأجنحة. أتذكر دائماً كلمات قالتها (ليلى) صاحبة (قيس المجنون) عندما سألوها في سنها المتقدم، ما ذا كانت جذوة العشق لا تزال، فأجابتهم: إن الشهوة موجودة ولكن الآلة تقصر عن ذلك. علينا أن نسال النصوص دائما عن تلك الشهوة الأسطورية.

* يقول المتصوفة. ذهن المتعبد محراب متهدم . لماذا قالوا هكذا ؟ هل لأنهم كانوا يستشعرون في القصيدة هدماً ما لكياناتهم؟ أنت وصلت إلى مرحلة من نضوج مثل هذا الوعي. أنا أراه في قصائدك المتأخرة. تبحث في دالية المعنى بحداثة كونية وفضاءات غير تلك التي كانت تتعلق في دلمون فقط ؟ السر ؟

- ثمة تأويل للمعنى الجوهري للتصوف، أحب أن أراه أنا أيضا، يذهب إلى أن الصوفية هي، في العمق، ضربٌ من النقض الحصري لفكرة العبودية بمعناها الديني المتداول، أي أنها بشكل ما، هدم للدلالة والمدلول.
وتحرير الدال من دوال العامة وإطلاقه في أفق الدلالات اللامتناهية الغنى من المعرفة والرؤى.
من هذه الشرفة، سيكون ذهن المتعبد عرضة للانهدام (النوعي) دائماً، كلما استسلم للإصغاء العميق والتحديق في جواهر الأشياء وعدم التوقف عند حدود أصداف المحارة الفجة.
في الشعر، لن يختلف الأمر الا في النوع فقط، فالنقض المستمر ضد جمود المواد وثوابت الحياة، أو ما يسعى لتثبيتها، وهي التي لا تقبل الثبات لكونها (حياة)، أي أنها نقيض الموت، إن الجثث فقط ما هي ما يمكن أن يتفق عليها، أما الحياة، الكائن الحي، فهو المتغير الدائم. النقائض هي التي يصدر منها ويذهب إليها الشاعر، ربما لأنه كائن لا يقنع ولا يستقر ولا يرى في الأجوبة إلا شرفة على سرب أسئلة وشيكة الاشتعال. الشاعر هو الذي يتعلم في كل ساعة مثل طفل لا يكبر ولا يشيخ.

* عملت مشروع كتاب أنت والفنان العراقي المغترب ضياء العزاوي . والعزاوي من الذين يبحثون في اللون حكاية ما . ما الذي فعله الواحد للآخر ؟ هل اشتركتما في صناعة مروية ما من الرسم والشعر ؟ تحدث بمساحة واسعة عن تجربة مثل تلك؟

- لم نكن نسعى لانجاز نص يشرح الرسم ولا رسم يزين النص.
كل منا جاء من تجربة ذاتية (ثقافيا وابداعياً) لديها ما يفيض من شهوة التعبير عن كينونتها الإنسانية من خلال المعنى الجوهري للحب. ولم تكن قصة المجنون حباً سوى ذريعة لأن نعبر عن ذاتين تقدران على الانبثاق في حوار إبداعي بأدوات وآليات مختلفة من حيث التقنية، غير أننا كنا متقاطعين بصورة لم تكن تحتاج للمزيد من الحوار والنقاش. من معرفتي في تجارب فنية مشتركة، كلما كنا في غنى عن النقاش والتخطيط الذهني المباشر للعمل، صارت التجربة أكثر جمالاً ومغامرة ومكتشفات. فالحوار ينبغي أن يتجسد في العمق لحظة العمل، ليس قبله ولا بعده، وعندما تشعر أنك بحاجة للمزيد للاتفاق والشرح والتوضيح والتخطيط والتوفيق، عليك أن تنصرف عن التجربة.
مع ضياء العزاوي كانت التجربة مشوقة بصورة تستعصي على الوصف. جاء البحرين عام 1995، وكنا نلتقي للمرة الأولى. كان كل منا يعرف الآخر منذ قرون، يعرف شعري وأعشق ألوانه ومغامراته، صعقني بفكرة التجربة وسافر، بعد سبعة شهور تقريباً بدأت في الكتابة، كان هو قد بدأ في العمل، بعثت له النص، فقال لي أن حريقه يزداد في الاشتعال والتوهج. لم نكن نحتاج أكثر من هذا. كتبت عن الحب بوصفي قاسم حداد ولم تكن تعنيني تفاصيل حكاية قيس وليلى في التراث، لقد كانا إلى الأسطورة أقرب من الحقيقة، وهذا فتح لتجربتي الأفق رحباُ، فكتبت أسطورتي الجديدة عن: الجنون والحب والشعر.
هذه هي الاقانيم الثلاثة التي أعدت خلقها وصياغتها على طريقتي. في النص ستصادف حباً يتجاوز الطهرانية (الدينية) الفجة التي كرستها أخلاقيات التقليد الذي سيرى الحب دائما بوصفه سلوكاً مشوباً بالخطأ والخطيئة. هذه الخطيئة هي ذاتها التي سوف تتصل بمفهوم (الخروج) الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبالتالي الأخلاقي في قانون القبيلة.
ضياء العزاوي (خرج) هو الآخر على طريقته بالإبداع التشكيلي. أصل الفكرة أن ضياء اجتاز تجربة وعي ضرورة الحب في حياتنا العربية، وهو الفنان الذي لم يفلت من الحروب العربية المعاصرة جميعها، وقد خاضها بفنونه كلها مناضلا بشروطه، حتى توقف أمام حقيقة ما يفتقده الإنسان العربي في فنونه: أنه الحب، فبدأ سلسلة تجارب عن الحب، وكان ما أبدعه في تجربة (أخبار مجنون ليلي).
وقد صدرت التجربة في مطبوعات وكتب وأعمالا فنية مختلفة. إن ولعي بالمتعة البصرية والطاقة هو ما يجعلني ضعيفاً أما أي مشروع إبداعي مشترك من الفنانين من الأصدقاء، ففي مثل هذه التجارب أتعلم الأشياء التي فاتني إدراكها، واصقل ذائقتي الشعرية بها.

* في المستحيل الأزرق تحولت إلى رائية العدسة . أي أنك بدأت تكثر من التجريب وبدأت تميل إلى نمط ذهني وحضاري يمتد إلى تمدن خارج أقليمية القصيدة رغم أن الأمكنة هي ذاتها تلك التي صنعت أخيلة الإبداعات الأولى . كيف ترى هكذا حس .أن تتشارك مع عدسة في تحليل كشوفات الضوء في الصورة والقصيدة ؟

- هو ذاته الولع بالصورة، في تقديري أن الذائقة البصرية في الثقافة العربية هي طاقة وعضو مهملين حتى أوشكا على الضمور والعجز. إنها خسارة فادحة فعلاً. ولعل هذا ما يفسر لنا تخلف الفنون البصرية عندنا. أكثر من هذا، فإن انقطاع الشاعر والأديب العربي عن الفنون البصرية ( ثقافة ومعرفة وممارسة) هو ما أدى إلى ضعف نمو (الصورة) الفنية في الأدب العربي بشكل عام، إلا ما ندر، وخصوصا في الكتابة الشعرية، لأن المخيلة الفنية لدينا فقيرة وذات ثروة وسليقة محدودة النشاط والحريات.
هذا بالضبط ما أشعر به طوال الوقت، وربما لهذا السبب أشعر بميل دائم لأن أخوض التجارب المختلفة التي تمنحني كرم المتعة البصرية، فهي نعمة لا يجوز أن نحرم أنفسنا منها.
في كتاب (المستحيل ألأزرق) مع الصديق الفنان صالح العزاز، رحمه الله، هي من بين التجارب المختلفة عن غيرها. وقد أضافت لي نوعا جديدا من المتعة التي لا تزال حاضرة في كياني.

* عبر هذا العمر الطويل من صناعة القصيدة واكتشافات إشراقتها. هل أنت مع مقولة النفري "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" ؟

- أظن أنه : نعم .

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى