لقاءات
قاسم حداد:
الحياة ضوء صغير بين ظلامين
ليس حزناً ، إنني اقترح الأمل بآلية مختلفة
الحشود و الاحتفالات تربكين، حتى حدود الذعر
وليد معماري
(سوريا)

التقيت الشاعر البحريني قاسم حداد ليس مصادفة، أنما عبر فعاليات توزيع جوائز سلطان العويس في دبي، و هو أحد الفائزين في الدورة السابعة لهذه الجائزة، ولا أدعي أنني قد قرأت كثيراً له،، أنما شذرات هنا وهناك مما يرشح من حدود عربية الى حدود، وكانت شذراته تدهشني، مثلما أدهشتني خرائط حياته.

ولكن أن تقرأ لرجل مبدع شيء وأن تلتقيه شيء آخر، وقد كنت أحسب أني سأقف بمهابة أمامه، مهابة تتطابق ووقفتي أمام إبداعاته، وإذ بي ألتقي رجلاً يملأ القلب قبل أن يملأ المكان، من جهة وكائناً شفافا مثل بللور بوهيمي ترى الكون عبر جسده. بأحزانه وحروبه بغاباته وينابيعه، بوحوشه المفترسة وأطفاله البريئين، وترى أنين أوطان،وربما سيالات دم تنزف من جراحه على الصليب.

يقول قاسم حداد، بصيغة الغائب عن شاعر آخر يدعى قاسم حداد: " منذ أن بدأت علاقته بالكتابة وأنا في جحيم لا هوادة فيه". إنه" مثل مجنون أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن شمس غير موجودة". " يذهب الى النص مثل شخص مفقود في أرض مجهولة (..) معلناً أن الكلمة لا تزل عصية عليه". " يقود سرباً من الموغلين في النوم نو أحلام تضاهي الكوابيس".
ولأن مقابلتي معه كانت طويلة، فلابد من اختصار المقدمات. وبالمختصر هو من مواليد 1948. وله ما يقرب أو يزيد عن عشرين عملا مطبوعاً، وقد ترجمت أ‘ماله الى العديد من اللغات، وهو (يشكل نقطة فاصلة في مسيرة الشعر و الثقافة في الخليج)، كما تقول ميسون صقر القاسمي، وتضيف (أن من أهم ميزاته مواقفه التي لا تنفصل عن شعره. فهو شاعر حقيقي خارج وداخل النص بلا فصام يطول الكثيرين اليوم)

* قاسم حداد، أنت ولدت قريبا من منتصف القرن الماضي.. بعدي بقليل. عمرك أكثر من عشرة قرون.
مرمي على أرصفة الشوارع العربية، وأما محبوك فنخبة همشها آل بارباروس الذين حكموا روما.. ودمروها.
أسألك: هل هو زمن احتضار امرؤ القيس، فيما هو يحاول ملكاً؟

لسنا في زمن أمرؤ القيس، ولا الشاعر الجديد يحاول ملكاً بأي شكل من الأشكال.
على العكس، الشاعر الجديد لا يسعى لشيء سوى للخلاص من شهوة الملك والملكية، فالشعر هو في العمق، انعتاق من كل أشكال السلطة وتجلياتها. والملك، مهما كانت طبيعته، هو شكل من أشكال السلطة، بل ربما كان أخطرها، فالمعنى الجوهري للملكية يكمن في النواة الخفية لمفهوم الملكية، كأن يملك المرء شيئا، فهذا يعني مباشرة أن يكون عبداً لهذا الشيء، ان كان هذا الشيء مادة أم جاهاً أم مقعدا، مكانا أم مكانة.
من هذه الشرفة، لا أميل الى مقاربة إحداثيات تجربة أمرؤ القيس بما يمكن وصفه بعذابات الشاعر المعاصر. وهي بالمناسبة عذابات لا تختلف عن عذابات غيره من البشر إلا في الدرجة، فالشاعر هو خرج ذلك العذاب كله.
أحب دائما، عندما يتعلق الأمر بتجربة الشاعر، كانسان، الكلام بعناصر وبلغة وآليات ملموسة فيزيائياً، لكي لا أفرط في خصوصية الشعر وقت النص. لذا فإنني أشعر بأن اختزال حالتنا بتوصيفها في حدود الذاكرة التراثية هو بمثابة الخضوع اللاشعوري، لسطوة نوستالوجيا خامدة. وهو نوع غير منتج ومضر لاستعادة الماضي بتوهم تفسير الواقع به، في حين هو فشل غير معلن لمشاريع راهنة أسهمت في تدميرنا بشكل منهجي بشعارات ما ان تبدأ بالأدب و الشعر حتى لا تنتهي إلا على رماد أحلامنا، ناهيك عن أجسادنا فيزيائياً.

* تطورك الشعري، اقصد تطور تجربتك، كانت في صعود دائم: كيف استطعت حمل هذا الصليب الثقيل نحو القمة؟
كيف، وأنت حامل خشب أبنوس تقيل، التسلل، مثل اللصوص، نحو الجلجلة؟
هل كنت – يسوعا ً- يقاوم مسامير اليهود المرائيين، أم تمثلت دور سيزيف؟ أم كنت سيزيف ذاته؟

لمحض الصدفة، على ذكر سيزيف، كنت في كتابي الأول (وللمفارقة كان عنوانه: البشارة") ، قد استخدمت في إحدى قصائد الكتاب، رمز "سيزيف". وأنت تعرف أن ستينيات الشعر العربي كانت أسطورية في جانب من اجتهاداتها الفنية والثقافية. الطريف أن استخدامي لأسطورة "سيزيف" كان ملتبساً الى الحد الذي جعلني، وجعل غير قارئ وناقد فيما بعد، يتعثرون بالارتباك أمام طبيعة ذلك الاستخدام، ففي كان التداول المألوف في استخدام أسطورة (سيزيف) معروفاً بدلالة الإصرار وعدم اليأس من تحقيق الأمل، في حين أنني كما يبدو نزعت الى ملامسة عبثية ولاجدوى الأسطورة خصوصاً، الأمر لم يكن متوقعاً من مناضل حزبي ملتزم أن يتشائم إلى ذلك الحد، ويعلنه أيضاً. وغاب عن بعضنا أن جماليات الأساطير تكمن في قبولها لتعدد التأويلات وحرية الاستخدام الفني.
المهم، لا أذكر الآن درجة وعيي لأبعاد تلك الأسطورة، أنني ربما شعرت في مشهد الشخص وهو يحاول طوال حياته فعل شيء لن يحدث ولن يتحقق أبدا، كما لو أننا مرشحون لتجرع العذبات الأسطورية كلها، دون أن نقدر أو يتاح لنا أو يسمح لتجربتنا أن تأخذ درس الحياة بقوة المعرفة والخيال في نفس اللحظة. وأخشى أننا لا نزال عرضة لتجربة اللاجدوى السيزيفية بآلية قاتلة في حضور كل هذا التحول الهائل في الواقع الكوني، كما لو أننا غير موجودين على هذه الأرض طوال القرون التي أشرت إليها قي سؤالك الأول.
أما أن يكون الشعر يسوعاً يحمل صليب الأبنوس الثقيل ذاهبا نحو الجلجلة، فانك تعرف كم نحن مولعون بوضع أرواحنا وأجسادنا في مهب المطاحن الوحشية كأننا لا نريد التفريط في كوننا الضحية الأبدية للعالم، كما لو أن العالم ليس له شغل أو هدف أو غاية سوى معاقبتنا على وجودنا في هذا الكون.
والحق أنني لا أستطيع أن أدرك بالضبط الى أي درجة نستطيع الزعم أن العالم يشعر بنا أو يدري عن وجودنا.. مجرد وجودنا هنا.

* من يقرؤك يشعر أنك أتيت من عتمة. ثم بعد لحظة إضاءة خاطفة تمضي الى عتمة جديدة.
هل ستصل - سنصل - الى النهر ذات نهار محمل بغيوم ماطرة؟

في أحد نصوص كتاب )قبر قاسم(، وصفتُ الحياة بأنها (ضوء صغير بين ظلامين). لا أعرف ما إذا كان ذلك الوصف يصلح لإضاءة انطباعك الوهلي عن تلك العتمة الافتراضية في النص. غير أن سؤالك ينزع الى ما وراء النص، وهو نزوع لا أزعم أنني قادر على مجاراته، حتى بوصفي الشعري. لأن الواقع سوف يخذلنا بلا هوادة. فلم يعد الشعر قادراً على طرح الوعود بنبوءآت غير معترف بها، لفرط غموضها، ولم يعد الواقع يعترف بنص يخرج من حدود الواقع ويخرج عليه.حتى أن لحظة الإضاءة الخاطفة تلك لن تشفع للشاعر لكي يتاح له البوح برؤياه.
يا صديقي العزيز، لستُ مروجاً لليأس ففي الواقع من اليأس ما يكفي تسع قارات بأحيائها وقبورها معاً.
غير أننا لن نصل الى مكان أبدأً، لسبب واحد وحيد، هو أننا لم نعد نتحرك من مكاننا منذ القرون ذاتها التي أشرت إليها في سؤالك الأول. والمستقبل كما تعرف لا يأتي لأحد ما لم يذهب إليه.

* وسط فرح اللقاء بك، بالجائزة التي حصلت عليها، لماذا كل هذا الحزن المختزن فيك، وبين سطور قصائدك؟

حزن ؟! هل تسمي هذا حزناً. انه ضرب من اقتراح الأمل بآلية مختلفة.
أنا لا ابتكر شيئا غير موجود. ولا يقدر الشاعر على اجتراح المعجزات.
كل ما في الأمر أنني شعرت فجأة بالغربة في مشهد لم أستعد له. الحشود والاحتفالات تربكني حد الذعر.
وألتفت بين وقت وآخر كمن يعتب على القصيدة لأنها دفعتني الى مثل هذه المواقف التي أتعثر في تفاصيلها فيما أتعرض لفقد تفاصيلي اليومية التي أمارسها بمعزل عن الحشود.
المخرج الفرنسي بونويل كان يعتبر أي تجمع أكثر من شخصين هو بمثابة الحشد. ولم يكن يبالغ كثيراً.
كان عليهم أن يكتفوا بالنص، بالقصيدة، بالكلمات.
الشاعر، شخصياً، لا يصلح لهذه الاختبارات وان فرحاً.

* بصرف النظر عن رفضك مقولة - جدوى الشعر - دعني أسمع منك جواباً عن جدوى الشعر في عصر الديناصورات المعاصرة.

لا أحب كلمة جدوى، لأنها تذكرني بدراسات الجدوى التي تقدم قبل الأخذ بأي مشروع تجاري. غير أنني سوف أطرح عليك الأمر بتعديل مقترح، فلكي نعرف أهمية شيء محدد في حياتنا يجب أن نفترض أنه غير موجود أصلاً، ونتخيل شيئا آخر يحل مكانه ويقوم مقامه. ترى ما هو الشيء الذي يمكن أن يحل مكان الشعر في حياتنا ؟
هذه هي المسالة.

* و ماذا بعد؟ أو تقيم "سرادق عرس على مأتم الميتين" أو نحن الذين نقيم.. أو .."هم" الذين يقيمون. كيف نخرج من هذه المتاهة؟

ها أنت تحكم بالمزيد من أسئلتك المدمرة السرادق العظيم علينا جميعا، الشعر و الشعراء و القراء. وليس ثمة أمل في الخروج من المتاهة بعد ذلك. أخشى أنك توجه الأسئلة المناسبة للشخص غير المناسب.
تربيتُ في ما يشبه المآتم الدائمة، منذ الطفولة حتى مطلع الكهولة. دون الزعم أنني تخلصت من المآتم بعد.

*قال أحد حضور الاحتفال بك أن الناس لم يبتعدوا عن الشعر، بل الشعر هو الذي ابتعد عن الناس من خلال الغموض. وأنت تقول عن الشاعر " عن نفسك" انه: لا يرى في الكتابة سوى قناديل سوداء في يد كائن أعمى".
وتعتقد أن الشاعر " لا يحسن شيئاً مثل تضليل الآخرين عن السبل التي يذهب إليها"
هل هذا بسبب أن الشاعر " يتصرف مثل وحش جريح ومحاصر"
هل تكتب الشعر لأنك: " خائف وفي خطر دائم"
دعنا نسهب في شرح " الخطر" .

مرة قال كافكا: "أن مجرد الخروج من عتبة الدار، هو بمثابة المجازفة غير مأمونة العواقب".
تعال أخبرني عن مسافة عربية، وغير عربية بالطبع، غير محفوفة بالخطر. بالطبع لا أقصر كلامي على الخطر الافتراضي الفلسفي الذي يواجه الإنسان المعاصر، بل أعني على الأخص الخطر بوصفه الفيزيائي المباشر حيث المرء في مهب المداهمات منذ لحظة استيقاظه من النوم حتى سقوطه في الإغماء آخر الليل.
كأن يكون الإنسان في مطار أو طائرة أو غرفة هاتف أو مأدبة عشاء متأخر، أو حتى في لحظة حميمة. تعال أخبرني عن مكان آمن للحب في هذا العالم.
لقد تعبتُ، تعبتُ من حالة الخطر المتواصل، حتى أنني عندما قلت ذات حديث بأنني اكتب الشعر لأنني خائف ومذعور، قلت ذلك لمجر الكناية والوصف الشعري فحسب. دون أن أقصد أن على الشاعر أن يصادف الذعر والتهديد على مدار الساعة لكي يحصل على قصيدة جديدة.
هذا وهمٌ يتوجب تفاديه في سبيل أن نعيش في سلام ولو لحظة حقيقة قبل الموت. غير أن أحدا لا يكترث.

 

* في آخر نص قرأته لك، ثمة سواد أشد ألماً من ليل الصحراء "زعفرانة البحر" مجلة "ثقافات"، تقول في مقطع يسبق الخاتمة بقليل:
"نرسم لأحفادنا مستقبل النوم
بالحليب الشحيح في أثداء نسائنا
ونهدهد مهود أطفالنا بزفير الأفئدة
لئلا ينالهم ندم على ذهابنا الباكر "

هل هذه إجازة منك " بشارة" رؤية تعويضية عن الراهن. تعزية لجيلك وللذات، من أن زمناً أقل حلكة، أقل ألماً، سيأتي ذات صحوة من سبات، أو بعد أن نشبع من السبات.

*كلمة، المستقبل، هي الكلمة أكثر غموضاَ في حياتنا العربية. شخصياً ما ان أسمع هذه الكلمة حتى ينتابني شعور غريب لا افهمه، شعور هو خليط من عدم الثقة أو عدم الاكتراث والارتباك. يخالجني ما يشبه الإحساس بأن ثمة من ينصب لي الشراك بهذه الكلمة. فالمستقبل في حياتي، لئلا أقول حياتنا، هو غير وارد كمصطلح قيد الاستخدام كفعل دال. انه معنى غير نشيط في مخيلتنا أو سلوكنا الإنساني. انه فرض تداول آلي غير محمل بأي دلالات أو مسؤوليات واقعية. إنها كلمة تقال لأننا لم نخترع كلمة نقولها في سياق دلالي مثل: التهلكة، أو الطريق غير النافذ، والصندوق الأسود المفقود.
من هنا أعتقد بأن شعور المذعور من المستقبل على أحفادي هو ما جعلني أقول في كتاب (عزلة الملكات) :" أرى الى المستقبل قبرا قبراً "،
دون أن يكون هذا تكهناً بما سيحدث بعد أكثر من عشر سنوات من ذلك النص. فواقعنا ليس بحاجة لتنجيم الشعراء تحت طائلة الرؤيا الشعرية. نحن ضحايا مستقبل غير موجود، يأخذنا إليه، بدرجة عظيمة من التهور وعدم التبصر والوحشية، أدلاء يشيخون وتتهدل أعضاؤهم ويفقدون الحواس منذ القرون نفسها التي أشرت إليها في سؤالك الأول.

*قل، في ختام هذا اللقاء، كلمة واحدة في السياسة، أو الشعر أو التصوف.. أو عبيد البصرة، أو في الفستق الحلبي..
قل ما تشاء..
أو عبر صمتك بالصمت. ولا تقل شيئاً.

حسناً، أرجو أن يكون هذا وقت مناسب للصمت، إذا سمحت لي.

صحيفة تشرين- سوريا – 23 تموز 2002

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى