لقاءات

نقطة الصفر في الشعر العربي الجديد

مجلة المدى

لستُ مطمئناً لتعبير (نقطة الصفر) هذا.
إنه يشي بصدوره عن شهوة البدء من لاشيء. كما لو أننا نأتي إلى التجربة أبرياء من تاريخنا مثل الأطفال. ففي هذا الوهم خطورة على أكثر من وجه:

أولاً : كأن على الشاعر العربي الجديد دوماً أن يلغي منجزات التجربة السابقة لأسباب زمنية خالصة، وهو وهم لا يستقيم مع طبيعة أشياء الحياة، بوصفها خبرات حية مستمرة في الذاكرة. فمثل هذا المنطق من شأنه أن يدفعنا إلى القول بانقطاعنا عن كل الشعر العربي والعالمي دفعة واحدة، ولكي نكون شعراء لابد لنا أن نبدأ من صفر جديد.

ثانياً : الاعتقاد الشائع بأن الشعر الجديد هو شعر لا يعول عليه في سياقنا التاريخي الراهن، وبالتالي سوف نحسب كل ما يستفيد أو يتصل بالتجربة الشعرية السابقة هو ضربٌ من التقليد السلبي. وفي هذا حكم قيمة لا يتصل بالفن ولا بالإبداع في تجليه الشامل.

ثالثاً : القول بأن (جيل الريادة ومدرسته انتهيا حتى جسدياً) يشي بأن من يموت من الشعراء، ينتهي كتجربة في الحياة والشعر. وكأن الأمر يتصل بالمعنى (الإداري) لحركة الشعر. وإذا نحن خضعنا لهذا المنطق سوف يتحتم علينا أن نمسح من ذاكرتنا وتاريخنا أجمل تجارب الشعر العربي، عبر تاريخه الممتد في نصوص لا تزال حاضرة ومتوهجة وتمنحنا طاقة المتعة والجمال.

رابعاً : إن الخضوع للقول بانتهاء الشعراء الرواد، ربما انطوى على نزوع متهور، مفاده أن انتهاء أولئك الرواد سيشير دوماً إلى انتهاء الشعر في المشهد العربي، وبالتالي يتحتم علينا أن نتمسك بنظرة الريبة والشك في مجمل التجارب الشعرية الجديدة، بقدر انزياحها عن تقاليد أولئك الرواد. وفي هذا المنظور قدر كبير من المبالغة والإدعاء لا يليقان بطبيعة العمل الشعري الذي لا يقتصر على جيل دون الآخر.

خامساً : سوف أخشى دوماً من أن يكون القول (بنقطة الصفر) صدوراً لا شعورياً عن مجمل الانهيارات الهائلة التي تعرضت لها البنى الفكرية في العالم، سياسياً وفكرياً، (وبالتالي أيديولوجيا)، وإخضاع كل أشياء حياتنا لعدمية اليأس التي اقترحتها علينا تلك الانهيارات، لكي نبدأ من صفر مضاعف إزاء كل شيء، كما لو أننا نأتي من فراغ ونذهب إليه.

لا أرى إلى ما يسمى ريادة الشعر بالمنطق المعزول عن تجربة حياتنا الراهنة والمستمرة. فالريادة ليست مهمة إدارية، والشعر ليس مؤسسة تحتاج دائماً لمن يقود عملها ويسيّر شؤونها و يوزع مهام العمل فيها.

وإذا نحن تعاملنا مع الشعر بدرجة أكثر رحابة وأبعد مدى وبأفق مفتوح، سنرى أن من يمنح التجربة إضافات إبداعية بمساهماته، سوف يكون حاضراً في سياق التجارب الراهنة والمستقبلة دون الحاجة لزعمه بذلك، وخصوصاً دون الترويج لذلك. فالريادة هي إبداع عفوي، لا يستطيع أحد أن يدعيه (كفرد)، بقدر ما يتجلى في ممارسات وحضور في سياق الحركة الشعرية. فمن يضيف إبداعاً جديداً للشعر لا يفعل ذلك بناء على رغبة (إدارية) مصنوعة بالمفهوم العقلاني للعمل، إنما الأمر يحدث بوصفه تفجرات ذاتية تنشأ من الموهبة المتميزة التي تؤكدها الحياة. فالتنظير، من قبل الشاعر أو غيره، لتجربة ما، لا يحقق شيئاً غير موجود.

أما الكلام عن (الموجة الجديدة التي ستدفع الشعر العربي وتندفع به) فيمكننا أن نرى إلى المشهد باعتباره بحراً متصلاً من الأمواج المتلاحقة، لا تنفي الموجة غيرها، ولكن تزيدها طموحاً ومجداً. على أن لا نعني بتعبير (الموجة الجديدة) إشارة إلى (الموضة)، التي يوشك الكثيرون أن يكرّسوها في كلامهم (قدحاً) عن التجارب الشعرية الجديدة.

الموجة الجديدة إذن، هي التفجرات المتناهية في التنوع، التي نصادفها كل يوم في المشهد الشعري. وهي تفجرات لا ينبغي أن نرى منها فقط القصورات التي لا تخلو منها أية حركة شعرية في جميع العصور. ففي هذه الاجتهادات العديد من ملامح الموهبة والوعي الجديرين بالتأمل. شريطة أن نتعامل معها بمعزل عن أوهام الريادة الأزلية، التي تكرستْ مرتبطة بمفاهيم تقليدية لصورة الشاعر في الثقافة العربية منذ بدئها.

من جهة أخري، إذا طالبنا التجربة الشعرية الجديدة، بأن تطرح لنا ملامحها واضحة جلية ومكتملة، سنقع في المبالغة. فليس من العدل أن نطلب ذلك من تجربة لا يتجاوز عمرها الفني نصف القرن، في مقابل تجربة الشعر العربي، الذي احتاج لمئات السنين لكي يستقر بالصورة التي وصلتنا. إضافة إلى أن ثمة عسف يقع على التجربة الجديدة لأسباب غاية في التعقيد. فمقارنة لحركة الشعر الذي بدأ في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، لم يتوفر للتجربة الجديدة حركة نقدية موازية، قادرة على تفهم طبيعة هذا الاندفاع الشعري الجامح الذي يذهب إلى التجديد عبر تخوم، لا يزال بعضها طرياً وجديداً هو الآخر، وربما لم تكتمل صورته المقبولة في الثقافة العربية.

إن الآلية التي تقترحها علينا الشعرية العربية الجديدة لم تزل قيد الاكتشاف، وبسبب من كونها تذهب إلى النقيض، مما ذهبت إليه التجربة السابقة، فإن مفهوم الشعر أصبح عرضة لمتغيرات غاية في التنوع، دون أن يتنازل عن جوهره الفني. ولأن الاجتهادات (الموضوعية)

التي تبرعت بها بعض الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية عبر تاريخنا العربي، قد كرّست للنظر العام للشعر، بالمعنى الوظيفي، فمن الصعوبة بمكان أن يتقبل العقل العربي (بسهولة) واحدة من أخطر مكونات الشعر، وهي (الذاتية) التي من شأنها أن تمنح التجربة جوهرها الإبداعي في سياق عربي شامل، لا يرى في الشعر (والأدب عموماً) غير أداة خاضعة لمنطق الشأن الخارجي، بمعنى خضوع الذات للموضوع وليس العكس. وأعتقد أن من تراث ذلك المنطق ومعطياته، التي باتت تحكم النظر العربي للشعر، أدت إلى اضطراب عميق في علاقة الدال بالمدلول في الكتابة العربية. وفي هذا الخلل تتمثل الإشكالية التي لابد لنا أن نطرحها للحوار المتأمل والجذري للواقع الشعري العربي. ففي ثنايا تجربتنا الشعرية لا زال السكوت جارياً عن مفهوم الدلالة في النص الشعري الراهن. وهو سكوت من شأنه أن يضاعف الاضطراب التعبيري الذي يصادفه المرء في معظم التجارب الشعرية العربية، مما يؤدي بدوره إلى الاختلاط على الشاعر، فيما يكتب نصه، بين آليات وقيم ومفاهيم قديمة، ما زالت تحكم لا شعوره، وبين دلالات وبنى تقترحها الحساسية الجديدة للإنسان في لحظته الراهنة، بفعل اتصاله بعوالم جديدة تقودها المخيلة بحريات لا محدودة تستدعيها حياتنا.

بقي أن أقول، بأنه من الأفضل دوماً عدم المبالغة في (الكلام) عن واقع الشعر، كما لو أننا في أزمة مستحكمة، تهدد وجود الشعر العربي عموماً. فمن الأجدى أن نرى المشهد إلى الشعري بقدر من الحب والحنان ورحابة المستقبل، فليس في الأمر ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا على وشك الموت الشعري، كما أصادف كثيراً في المصطلحات الصحافية المتداولة. فالانجرار لمثل هذا المنطق سيجعلنا نقف،في آخر الأمر، في صف النادبين على حياتنا، كما يحدث في حقل السياسة والفكر في السنوات الأخيرة.***

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى