عن الشاعر وتجـربته

دراسات

4 _ الذات وشكل القصيدة :

يمثل التمرد على شكل القصيدة عند قاسم حداد جزءاً من تمرد حركة الحداثة العربية على أنماط التعبير الموروثة بصيغها الجامدة، وجاء إهداره للشكل الثابت منسجماً مع نزعته التمردية التي ترفض الانصياع للمتعاليات، واستجابة لنزعتي الشك والتساؤل اللتين تسيطران على تفكيره النقدي والإبداعي، ولذا كانت أسئلته في هذا الجانب حاسمة، ما الشكل ؟، هل الشكل هو ما يتعلق بهندسة البناء البصري للنص ؟ أو يتعلق بطريقة التعامل مع اللغة ؟ أو أن طاقة الرؤيا تمنح النص شكله المرتقب ؟ 99 إلى غير ذلك من الأسئلة التي تشير إلى القلق الإبداعي الذي يهدف إلى تحقيق تجارب شعرية غير مسبوقة في بنائها الهندسي، ولذا يقول قاسم : "قلقي تجاه ثبات الشكل هو الذي يؤدي بي كثيراً إلى مجازفة غير مأمونة، وأتمنى ألا أنجو من شراك المغامرات الشعرية " 100 ، وهذا المفهوم يصدر عن قناعة راسخة بأن النص هو الذي يحدد الشكل وليس العكس "إنني أكتب فحسب، أما الشكل فيأتي فيما بعد " 101 ، وهو لا يكتم ثورته وتمرده على الأشكال التقليدية للإبداع، التي تحد من حرية المبدع، وتجعله سجين شكل قد لا يتفق مع طموحاته الإبداعية، ولعل هاجس سلطة الشكل تؤجج هاجس الحرية في سياق الممارسة الإبداعية، حين يشعر الكاتب بضغوط ضفائر الشكل تجثم فوق نصه لتأطره ضمن ممارسة مختلفة زماناً ومزاجاً، وظروفاً وحياة، "نسعى إلى شكل يكون بديلاً أو عدواً لما سبق ابتكاره " 102 ، ولا يعني هذا دعوة إلى تكريس شكل جديد على حساب الشكل القديم، بل إن الجديد يصبح قديماً، فبمجرد أن يتأطر ينبغي تجاوزه إلى شكل آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، " ما أن يتأطر النص حتى يتجمد، ويصير عرضة للانكسار.. إنه قابل للهدم، أو هو مجرد محطة تؤدي إلى أخرى، الكاتب الذي يبدع قادر على ابتكار أشكال جديدة تنسجم مع كائناته " 103.

فإذا ما طبقنا هذه المفاهيم النقدية على تجربته الشعرية فيما يتعلق بالشكل الفني الذي يمتص طاقته الشعرية، ولا يضيق بها، نكتشف أننا بإزاء أشكال هندسية متنوعة من النصوص، لا يكاد يشبه بعضها بعضاً، كما لو أنّ كل نص يوحي _ كما ذكر أحدهم _ بأن الذي كتبه شخص آخر مختلف في كل مرة، 104 وهذه مقولة صحيحة إلى حد كبير، فالشاعر يرى أنّ مبرر كتابته للشعر هو السعي إلى اكتشاف شكل جديد يستوعب لغة التجربة الشعرية، فالشاعر لا يحتمل _ كما يقول _ أن يكتب النص في ذات الشكل مرتين. 105 ومن هنا كان هذا التفاوت الهندسي الواسع في فضاءات القصيدة الواحدة، فقد يمتد هذا الفضاء ليبلغ مائة وستين مقطعاً كما في مجموعة "قبر قاسم"، وقد يقل عن ذلك ليصل امتداد هذا الفضاء إلى أقصر مدى ممكن في كلمتين فحسب كما في مجموعة "شظايا" "أنحني" "لأحنو" وما بين هذين البعدين تجثم أشكال متنوعة من الفضاءات التي تتوزع على الورقة في أشكال هندسية تتنامى في خطوطها عناصر من الكائنات التي تموج بها رؤى الشاعر، ويمكننا أن نستعرض بعضاً من هذه الأشكال الجديدة، التي لا يعاد النسج على منوالها بعد أن تنجز :

شكل ؟؟؟؟؟

يتكون هذا الشكل كما نرى من أربع كلمات موزعة هندسياً على شكل مثلث قاعدته في صورة رأسية، ورأسه في صورة أفقية، ويوحي ما بين القاعدة والرأس، بكلام محذوف، ترك إنتاجه لمتلقي الخطاب في سياق إشكالية إحساس الذات بالتوحد، ويمكن قراءة هذا الشكل إما بصورة أفقية، "بدأت ـــ وحيداً ــــ ولم أزل "، وإما باتجاه قاعدة المثلث والانتهاء برأسه، بصورة رأسية، "بدأت ــــ ولم أزل ــــ وحيداً "، وكلتا القراءتين تنتج دلالتين مختلفتين، فمع القراءة الأولى يكون التركيز على حقيقة الإحساس الشعوري بالتفرد لحظة البدء، ليبقى ما بعدها مفتوحاً على أفق آخر من الأحاسيس الخفية بعد زمن الشعور بالتوحد، ومع القراءة الثانية يكون التركيز على الدلالة الغائبة، من خلال البياض الممتد بين اللفظتين، ومن ثم يصبح الشعور بالتفرد ناتجاً عن الإحساس بفشل الرسالة 106 .

ونلتقي بشكل آخر أشبه ما يكون بالدائرة المغلقة، التي تبدأ بفكرة ما تلبث هذه الفكرة مع تنامي النص أن تجثم في نهاية المطاف عند آخره :

في الجزيرة التي تأخذ شكل المرأة الحبلى
يتثاءب عاشق في زنزانة
طويلة كقبر
عميقة كبئر
وبنشر ابتسامته الساخرة..
في الجزيرة التي حبلت حبلت حبلت
..... ولم تلد
جاءوا يزفون له الطفل الصغير
الصغير جداً
الذي ولدته زوجته
ويقولون له :
(صرت أباً الآن)
تثاءب بنفس الابتسامة الساخرة
لم يكترث كثيراً
وقال :
( لكن أمي... متى تلدني ؟! 107

تأخذ رمزية النص في التنامي من خلال الإحساس بقيد المكان، التي يأخذ شكل المرأة الحبلى، ومع،أن تداعيات هذا الشكل قد تبعث على الإحساس بالترقب وانتظار الآتي، بيد أن الإحساس بضغط الزنزانة (طويلة كقبر، عميقة كبئر)، يلقي إحساس الترقب في الآتي، ويحول هذا الإحساس إلى إحساس مضاد قائم على اللا جدوى من هذا الآتي المرواغ، وتصبح الابتسامة الساخرة، سلاح الذات في الانتصار على هذا الذي لا يأتي أبداً، رغم إرهاصاته المتعددة، وتكمن قمة المفارقة في التبشير بالمولود ولا ولادة رغم الحمل المتكرر، إذ يدرك المبشر حجم الخديعة، التي يراد الترويج لها من خلال الميلاد الموهوم، فيلاقيها بتلك الروح الساخرة المتعالية على مراوغة الواقع بالتغيير، ليصدم الوعي الآخر بالحقيقة المرة المضادة، لكن أمي.. متى تلدني؟ " وينطوي السؤال هنا على الإحساس بالقيد الذي تتجسد فكرته في القصيدة بتلك الجزيرة التي تشبه الحبلى التي لم تلد، ومن ثم يصبح الحمل رمزاً للسجن الذي تنطلق منه القصيدة لتعود إليه في نهايتها بصورة الدائرة المغلقة، فيتواءم شكل الدائرة مع فكرة الحمل والسجن، لا منفذ إلى الخارج، فتبقى الابتسامة الساخرة هي المنفذ النفسي لكسر حلقة هذه الدائرة المغلقة.

والمتأمل في شعر قاسم حداد يلاحظ أنماطاً متعددة من الأشكال الهندسية لتوزيع مفردات الخطاب، في فضاء النص، سواء بالتركيز على الشكل الرأسي، أو الأفقي، حسب كثافة ومكونات الرؤيا التي قد تنفتح على كم هائل من العناصر التي قد يحتاج توزيعها هندسياً إلى مهارة فائقة من الوعي الشعري، وهذا يصدر عن إيمان راسخ عنده بأن "شكل القصيدة ليس هدفاً في حد ذاته، ولا شكل القصة ولا المسرحية ولا الرواية، لذلك فإن الاستمرار في الابتكار الفني لشكل التعبير، هو نشاط إنساني يشير إلى الحرية التي يتطلع إليها المبدع بوصفه إنساناً " 108 ، لذا ليس غريباً أنه كلما تأملنا في تجربة قاسم حداد الشعرية انداحت لنا تشكيلات هندسية ثرية تكشف عن حجم المغامرة الشعرية التي اندفع في أدغالها الشاعر بلا تردد، وظل يواصل مغامراته الشعرية حتى أصبحت جزءاً جوهرياً من حرية الكتابة في ارتياد " لذة المجازفة، ونشوة الاكتشاف ليشهر جمالية المغامرة، وعندما لا يصدر الكاتب، في النص، عن تصور مثال سابق يقلده أو ينسج على منواله، فإن مسئولية الإقناع الفني تتوقف عندئذ على طاقة الابتكار والجمال " 109 ، ولذا كان الشاعر حريصاً على تأكيد هذا المفهوم من خلال الممارسة الشعرية بالمنظور العام، المتجسد في حرية ابتكار الشكل، وتجاوزه في الوقت ذاته، فضلاً عن إدخال هذا المفهوم في حوارية القصيدة، كجزء من حوارات الإبداع، التي يصدر عنها الشاعر :

أبدأ من أشلاء الشكل الشائخ
من وهج رماد الأمس المحطوم
من الهم المفطوم
كثلج الفجر الناهض
....
أبداً
من خلع قواف ليست لي
من قلع القاف الواقفة كترس
في صدر حروفي
أبدأ من جسر الغامض والمعجز
واللغز وسن الواقع
والجامد واللين
والصعب والسهل
.....
ويكون الجسر سلاماً
للشعر الحلم الوهم السهم
البادئ من لا حيث بدأت 110

بمثل هذا التصور تكون البداية الإبداعية عند الشاعر، فالشكل التراثي، يعد، قادراً على ملاءمة روحه ورؤيته، في حرية، التكيف مع مسار النص، في فيض اللغة، وبمقدار ما تبدأ القطيعة مع سلطة الإبداع القديم، يبدأ الإبداع الجديد، فالأخير ينهض على رماد القديم منسلخاً عن تبعاته لا من حيث الأدوات فحسب بل من تبعات المعاناة التي أفرزته، من الهم المفطوم "، في ملمح إلى متغيرات الهم الإنساني، حسب مقتضيات العصر، فشكل النص لا يخضع لمقياس سابق على البدء، بل إنّ البدء ذاته يقود حركة الشكل نحو اكتشاف الشكل الملائم، ومن هنا يأتي تعدد البداية الأولى نحو تعدد الأشكال التي تستوعب هذه الرؤى في تناغم تام، "ويكون الجسر سلاماً"، تمر من خلاله تلك الرؤى الجديدة، التي يضيق بها الشكل الجديد بعد تأطره بحثاً عن شكل آخر يتكيف مع رؤية أخرى، وتعبير جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية طالما أن هناك شيئاً جديداً يلتمس له متنفساً رحباً.

ولعل وراء هذا كله ارتياد الشاعر منذ بداياته الشعرية نظام التفعيلة، ولإيمانه بحركة الشعر الحر، وتشبعه بأفكار الحداثة وخروجه فيما بعد على التفعيلة إلى قصيدة النثر حيث انداحت أمامه دروب وفنون متعددة للتعبير الشعري فهو يرى " أن الكتابة خارج الوزن _ بعد الخروج على التفعيلة والبحور الخليلية _ ينبغي أن نرى إليها باعتبارها مسئولية، أخطر مما واجهه تجديد الخمسينيات والستينيات، الشاعر هنا / الآن، يأتي إلى الكتابة عارياً من جميع الأسلحة الجاهزة التي توافرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة " 111

ويظل الشاعر في قلق مستمر بحثاً عن حريته المطلقة فيما يكتب، بعيداً عن التصنيف النوعي، الذي يفرض سلطته على المبدع حتى قبل أن يبدأ التجربة، وجاء رفضه لمصطلح قصيدة النثر منسجماً مع شكه وقلقه من التصنيفات السائدة في إطار الثقافة الأدبية باعتباره كما يقول : خدشاً لشعرية النص 112 ، ومن ثم ذهب يبحث عن مصطلح جديد لا يكون منسوخاً عن التجربة الغربية، فاهتدى إلى ما يسميه "اكتشاف الشعر في النثر"، وله فيه تجربة تعود "إلى بدايات الخروج على حدود الشرط الفني للقصيدة متمثلاً في النزوع المبكر لمحاولة اكتشاف الشعر في النثر، ففي محاولات بعض قصائد "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"، و"الدم الثاني" تململ فني غير مدرك آنذاك تبلور فيما بعد بخروج مباشر وشامل عن التفعيلة في "قلب الحب" و"شظايا" 113 ، ثم أوغل في هذا الجانب في مجموعته الأخيرة "قبر قاسم"، حيث بدأ الأمر كما لو أنه قطيعة تامة مع التفعيلة، بعد أن،أخذت حدود التفعيلة تعوق تدفقه الشعري، ومن ثم كانت الدعوة الجديدة إلى تلمس الطاقة الشعرية في النثر بحثاً عن شكل جديد من ألوان التعبير المختلفة :

للشعر في النثر
أعني الشريد في صرخة الليل
أعنيه
مستقبلاً سوف يمضي 114

يتبين من هذا النص أن الدعوة إلى اكتشاف الشعر في النثر لم تقف عند حدود التنظير والتطبيق بل دخلت في شبكة القصيدة كجزء من حوارات الإبداع الأخرى التي تجسد هموم الشاعر الإبداعية تجاه البحث عن أدوات جديدة للتعبير الشعري.


5 _ الذات والحلم :

يشكل الحلم بؤرة أساسية عند قاسم حداد لا في قاعدة التجربة الشعرية فحسب، بل وفي صلب خطابه النقدي أيضاً إذ يعتبره السلاح الأشد سطوعاً وتوهجاً في النص الجديد، به يبتكر الكاتب ما لا يمكن أن يتوقعه، لأنه لا ينصاع إلى منظومات الفكر ومنطق الكتابة السائدة، وبذا يمكن أن يرى بشكل أفضل فالحلم _ كما يرى _ وسيلته إلى الوصول إلى الخفي، المستتر الذي لا سبيل إلى اختراقه إلا بأدوات الحلم والمخيلة، 115 حيث تنقلب فيه صورة الواقع من مستوى الرؤية إلى مستوى الرؤيا والحلم، فلا يبقى م الصورة الواقعية إلا جوهرها المستكن في ركام عناصرها العرضية، 116 أنه يعيد ترتيب الأشياء 117 من حوله بطريقة تتواءم مع آماله وطموحاته في رؤية المشهد الآخر الخفي من الصورة الواقعية، وبذا يتحرر من ربقة الواقع بكل تبعاته المحضة ليرتاد عوالم من الخيال، تفقد فيها الذات عناصرها الشخصية لتمتزج بالعام من منظوره الشامل، على الرغم من أن مادتها الأصلية تنبع أساساً من صميم مشاعرها الشخصية، لذلك أن هدف الذات يتجاوز ذاتها إلى الآخر المراد جره إلى بؤرة أكثر اتساعاً وشمولاً من رؤية الحدقة القاصرة.

في مجموعات "الدم الثاني" و"القيامة"، و"النهروان"، و"يمشي مخفوراً بالوعول " و"عزلة الملكات" يتكئ الشاعر قاسم حداد على الحلم بصفة خاصة، سواء أكان حلماً منامياً، أم حلماً من أحلام اليقظة تتواءم في سياقه حالات الوعي الشعورية واللاشعورية تجاه الواقع الذي تعاني الذات من تعقيداته، ومكرساته الصلدة، ويتجلى الحلم عنده أكثر ما يتجلى مع هدأة الليل وسكونه "ففي الليل الحميم (كما يقول) تقدر أن تجعل الحلم قنديلاً يؤرجح ظلالك وأنت تذرع الغرف والممرات، وحيداً خفيفاً حراً، تفاجئ نفسك وتباغتها بالمكتشفات الفاتنة " 118 ومع أن بعضاً من هذه الأحلام ينطوي على بعض الرموز السرية، التي يصر الشاعر في بعض المواقف على إبقاء سريتها، " أجل لن أفك الرموز الخطيرة " 119 ، _ لا هروباً من التواصل الإبداعي مع الآخر كما يبدو، بقدر ما هو محاولة لتحقيق الحد الأدنى من الأمان الذي ينأى بالنفس عن أن يطالها الأذى _ فإن معظم هذه الأحلام ليست منغلقة على نفسها بالصورة التي تجعلها بعيدة عن فهم الآخرين لأهدافها ومراميها، ففي قصيدة "نكهة الرعد" نجد الذات تتحرك في فضاء حلم واسع يستبطن الذات والآخر والزمان والمكان في منظومة متقاطعة ومتداخلة من العناصر الرمزية التي يتشكل منها الحلم :

فجأة صار انتصاري خشباً في النعش، صار النعش باب
وتساءلت عن الموت / هل الريح طريق، والتراب
كيف.... ؟/ هذا شجر الدهشة في ثوبي
(هاجرت الثياب)
قلت من أين دمائي ؟
صوت هذا الشارع المدان بالصحو، وبالعنف
(وغادرت الغياب)
وأنا في أول الحلم / استحلنا غضبا
سرنا وصرنا صرخة في غابة النوم
ابتدأنا في نهايات الوقوف
تذكرون ؟
قلت هذه الرئة الأخرى لهم، هذا الرماد
تحته قنبلة موقوتة، هل تذكرون ؟
أعرف الإيقاع، أستنفر، أعطي، وأنا حلم العيون
(علمتني لغة البرق
دخول العصف والرقص وأعطتني الحنين)
أعطني ساعدك الدامي، أنا الطفل
وأنت الحلمة الملتهبة
شعبي المرتعش الملدوغ من كل الجهات
أعطني كل أغاني وأعطيك اللغات الهاربة
يا زمان الضحك والجوع أتينا
رافقتنا الجهة المختصرة
وحديث الشجرة
نحن فاكهة الرعد وغصن الشمس، نحن الثمرة
(اسأل الأرض ولكن السماء
سقطت وانكسرت صارت دماء) 120

يصور الحلم مجالين في تجلياته : مجال الإحساس الفردي بالقلق والانكسار المصحوب بالتحول المفاجئ في حسابات الذات، من انتصار ذاتي إلى خشب في نعش وتحول النعش إلى باب، وهي دلالة رمزية على بروز الموت، واعتباره وسيلة خلاص جديدة ف مسيرة التغيير، لكن قلق الموت يبقى حاضراً يثير اهتمام الذات بصورة غير عادية، فتضعه تحت مجهر التساؤل المفضي إلى دلالات مبهمة من خلال من خلال ارتباط رموز الريح، والتراب بمساحة البياض الواقعة بعد صيغة السؤال "كيف، وارتباط ذلك كله بالدهشة السطحية التي اعترت الذات، المعبر عنها رمزياً بجملة "هذا شجر الدهشة في ثوبي "، لحظة التأمل في قلق الموت، غير أن سطحية الموقف الشعري تتبدد لتحل محلها عزيزة اتخاذ موقف إيجابي إزاء الموقف المفاجئ في التحول الذي أشرنا إليه من قبل، ليصبح الموقف الجديد موازياً لموقف التحول، حيث تنتصب الذات في سياق ضمير المتكلم، "هاجرت (هجرت) الثياب، "قلت من أين دمائي ؟"، " وغادرت الغياب"، معبرة عن المشاعر والأحاسيس التي يختلط منها الواضح بالمبهم في موقف الرفض المعزز بصوت الشارع المفعم بالوعي والتمرد، وهذا الوعي الجديد، هو الذي يدفع الذات، إلى التفاعل مع إرهاصات الشارع بنذر العنف والثورة، فتأتي عبارة "وغادرت الغياب" مجسدة لحالة حضور الذات بالوعي الجديد الذي تصفه بنكهة الرعد.

وفي المجال الثاني من الحلم، تتخلى الذات عن فرديتها، إلا من الحس السردي للحلم، فتلتحم بالحس الجماعي فتبرز الروح الجماعية المعبرة عن الرفض والغضب في أسلوب سردي، من جانب واحد، يكشف عن مكنونات الذات وهواجسها بالتغيير القائم على العنف أكثر مما يمثل روح الجماعة، ولذا سرعان ما تبرز الذات على سطح الحلم، فتهيمن على الموقف بالاعتماد على ذاكرة الوعي الذاتي في التعامل مع الحدث، ومن هنا تصبح عبارة "هل تذكرون" منشطة للوعي الجماعي في مقابل وعي الذات بأبعاد الموقف، لتنبثق بعدها ضمائر المتكلم بشقيها البارزة والمضمرة، كما تنبئ عنها الأفعال التالية : "أعرف"، "أستنفر"، "أعطي"، والجمل الاسمية : أنا حلم العيون، "أنا الطفل"، في محاولة للإيحاء بتمايز الذات عن الآخر، وخبرتها في التعامل مع الموقف "علمتني لغة البرق... وأعطتني الحنين "، لكن هذا التمايز، على أية حال، لا يوحي بالتعالي أو بالانفصال عن الجماعة، بل على العكس من ذلك إنه يحاول توظيف هذا التمايز، واستغلاله لخدمة الظرف التاريخي المرهص بالتغيير، خدمة للجماعة، ولذا كانت الذات حريصة على أن تجسد علاقتها بالجماعة من منظور رمزي حميمي بالغ الشفافية، "أنا الطفل، وأنت الحلمة الملتهبة"، موحية بتلازمية العلاقة، وارتباطها بين الاثنين ارتباطاً مطلقاً، فالطفل لا غنى له عن الثدي، والثدي المملوء بالحليب، الدالة عليه الحلمة الملتهبة، لا غنى له عن الطفل، وهكذا تتجسد تلك العلاقة الشعورية عند الذات، في نظرتها إلى الجماعة، في أسمى علاقة إنسانية، يمكن تحققها بين اثنين، وهي ارتباط الطفل بأمه في مستوياته المطلقة المادية والنفسية والشعورية.

ولكي تشبع الذات إحساسها بالامتزاج شعورياً بالجماعة فإنها تطرح نفسها لقيادة الجماعة من خلال الالتفات إلى مأساة الشعب المعيشة والتركيز على مكمن الداء، "شعبي المرتعش الملدوغ من كل الجهات "، وفي الإضافة لياء المتكلم، في كلمة " شعبي"، إشارة لطيفة إلى الامتزاج الشعوري والنفسي بين الذات والجماعة، وسقوط الحواجز بين الطرفين ن وهو الخيط العام الذي يشد أوصال الحلم في مجلاه الثاني، حيث تتلاشى الذات، وتبرز الروح الجماعية في موقف الانتفاضة، حيث تهيمن على الحلم ضمائر الجمع لتؤكد على ثبات الموقف، وتحديد الهوية، "نحن فاكهة الرعد / وغصن الشمس / نحن الثمرة "، " فالنحن" هنا هي الروح الجماعية الواعدة، التي تتحدد صيغتها من خلال تلك العلاقات الرمزية التي يقيمها الحلم بين عناصر الطبيعة في اكتمال دورتها الطبيعية المؤدية إلى النضج، ولذا تأتي عبارة اسأل الأرض، في نهاية المشهد، تأكيداً لحقيقة هذه الهوية الجديدة المعبر عنها بالثمرة، لكن الحلم يكسر العلاقة في مجلى الهوية بين بعديها الأدنى والأعلى، فإذا كانت الأرض شاهداً على الاكتمال والنضج، فإن السماء تتهاوى وتتحطم، ليضيع معها الحلم، وتسيل الدماء، في إشارة رمزية إلى القمع الدموي الذي قوبلت به الانتفاضة، لكن المثير والمدهش في بنية التركيب المعبر عنها بسقوط السماء وتحولها إلى دم، هو ذلك العدول عن الأصل، الذي يجعل من السماء، لا الأرض، محلاً للدم، أو سبباً فيه، في إشارة رمزية شفيفة إلى تلوث أيدي السلطة بالدم والقتل، وترد الإشارة إلى هذا الموقف في مواضع أخرى من الحلم بصورة مكشوفة إنه "زمان القتلة، فيه "صدرت مراسيم الخوف، واتكأ الحكم على مقصلة ". 121

تأتي نهاية الحلم في مجلاه الثاني متوائمة مع تساؤلات الحلم في مجلاه الأول، فإذا كان الحلم في بدايته يطرح هاجس الموت والدم في مسيرة الثورة على الثابت والمكرس، فإن نهاية الحلم تؤطر هذا الهاجس بصورة عملية، صارت دماء".

يتكئ الحلم بصفة خاصة على الرمز الذي يتخلل جميع أنسجته ليفسح مجالات رحبة من العوالم المفضية إلى المدهش في سعي الذات وراء المجهول المفضي إلى التغيير بعيداً عن ملابسات الواقع، وغموض لا نهائيته، ومن ثم كان الحالم يطرح تصورات وعوالم مثيرة مفعمة بالرمزية حافزة للخيال كعبارات، "غابة النوم" و"الرئة" الأخرى"، و"الجهة المختصرة"، "وحديث الشجرة" إلى غير ذلك من الرموز التي يفيض بها الحلم.

وفي مجموعة "القيامة" تصبح الأحلام هي البنية الأساسية للنصوص، ولعل عنوان المجموعة وجده كفيل بإيحاء تلك العوالم الغامضة التي تقع خارج مدى مدركات الحس في الواقع، ولا تطال إلا بالحلم أو بقوة المخيلة، وعالم الأحلام في "القيامة" عالم مواز لمعنى القيامة، لا بالمفهوم الديني الصرف وإنما بالمفهوم القائم على الرؤيا المناهضة لرؤية الآخر للواقع، فشاعت في هذه النصوص عبارة مثل "تعال أريك" و"سأريك"، و"رأيت" كما لو كانت تهدف إلى تثبيت الصورة الأخرى الغائبة للواقع، أو الخفية في مقابل الصورة اليومية المعيشة لهذا الواقع، ومن أجل تعميق درامية الصور الحلمية تتكئ الذات في سردية المشاهد على وسيط تتعرف من خلاله على الخفي والغامض من الزمن الآتي الذي يبشر به الحلم :

ستعرف قال
وأوقفني في ريف الأسماء
كنت يدين وقلباً مسحوراً
كنت حضوراً
قال تعال
أريك البدء وسر البدء
خطوات
فلمست السحر الكوني بقلبي
قال دخلت وكان الماء يضيء
تعال أريك الطوفان يضيء ويغسل وجه الأرض
فترجف تنداح المدن النائمة النبض
يجيء ويكشط وجه الأرض يشيل سلاطين السوس
ملوك الرجع
يكنس وقت القادة والأقزام المغرورين
تراث الأموات الحاكم في الأحياء
تعال أريك الماء يخلخل أصل التاريخ الدموي الغامر
هات أريك الطوفان يجيء يضيء ظلام الإنسان
ادخل فترى الأسماء
دخلت رأيت وكنت حمامة يوم الطوفان 122

يأخذنا الحلم في دهاليز الغيب، ليتنبأ بالطوفان الماحق الذي يزيل كل مظاهر الحياة القائمة، لتبدأ على أنقاضها حياة جديدة، واضعاً في الاعتبار تداعيات الحادثة التاريخية لطوفان نوح الذي أزال كل مظاهر الحياة على الأرض، ليبدأ بعده تاريخ جديد للإنسان، فكأن مثل هذه الحادثة هي الأوفق لعلاج أمراض الواقع، أو أن الحاجة إلى بعد خارجي في معادلة الحياة، يصبح ضرورة ملحة يفرضها الواقع المعاند بعد أن تفشل كل أسلحة الإصلاح !! ومهما يكن من أمر فإن هاجس الطوفان أو بعبارة أدق هاجس المحو والابتداء يمكن أن نعثر عليه في أكثر من مكان في قصائد قاسم حداد مما يشعر بهيمنة هذا الهاجس عند. 123

تبدو الذات في الحلم مسحورة بتجليات الرؤيا، شغوفة بلحظات الكشف إلى درجة الشفافية التي تمزج بين الحلم وتجليات الإشراف الصوفي في وحدة متناغمة، يصعب معها فصل عناصر الحلم عن عناصر التجربة الصوفية، فالذات لا تكتشف الآتي بذاتها وإنما تكشف لها الحجب عنه في إطار الإيحاء المعرفي للأسماء "ستعرف قال.... الأسماء "، الذي يستمد مرجعيته من الآية الكريمة، (وعلم آدم الأسماء كلها)، للإيماء بيقينية الرؤيا، وحتمية تحقق وقوع المعرفة، مما يوقع الذات بين بعدين متضادين "استلاب يعقبه حضور " كنت... مسحوراً" فمع الاستلاب تتوقف الحركة الذاتية بفعل السحر، ومع الحضور أو الإفاقة، تنطلق الذات مع التداعيات المعرفية الموعودة بها _ وفعلها هذا أقرب ما يكون إلى فعل المتصوفة في لحظات الاتصال بالمطلق _ فكان أول ما يعرض عليها رؤيته هو "البدء وسر البدء" فتبلغ الذات درجة أخرى من التجلي بهيئتها لدخول لحظة الكشف، أو الاكتشاف، فيكون الماء هو بداية تداعيات الحلم الاصطفائي ومع أن الماء هو سر الحياة فإنه لا يختار من خاصيته إلا الجانب التدميري القائم على المحو التام لإعادة بدء الخلق من جديد، فيصبح الطوفان هو الأمثل للقيام بهذه المهمة التي تجتمع بين عنصرين : التدمير والتطهير في وقت واحد، فالماء يضيء، والطوفان يضيء، والضوء هو سر الفاعلية التي تجعل من الماء أو الطوفان يقوم بمهمتين متزامنتين على نحو تضادي، "يغسل وجه الأرض " و"يكشط وجه الأرض "، هكذا ترهص الرؤيا بمجيء الطوفان، وفاعليته في إعادة البدء من جديد. وإذا كانت دلالة الطوفان قد ارتبطت في الذهن بتلك الحادثة التاريخية التي انمحت فيها الأشكال الحياة من على وجه الأرض بفعل الطوفان، فإن العناصر التدميرية هي التي تطغى على ما سواها في شبكة الحلم لتجعل من أهدافه الرئيسية تغيير هذا الواقع بالعنف، يجيء ليردع المدن النائمة، و"يشيل سلاطين السوس"، "ويكنس وقت القادة الأقزام"، "وتراث الأموات"، "ويخلخل أصل التاريخ الدموي"، ليضيء في نهاية المطاف ظلام الإنسان، تلك هي الأهداف الجوهرية المراد من الطوفان تحقيقها ليصبح للحياة معنى جديد.

ولما كانت الرؤية في الحلم هي البؤرة الأساسية التي تبني عليها الرؤية الكلية للحلم، فإن الرؤية الذاتية لمشاهد ما يمكن أن يخلفه الطوفان لتتحقق رؤيا، "ادخل فترى الأسماء، ثم لا تلبث هذه الأخيرة أن تنفتح على التفاصيل الصغيرة المؤكدة لعنصر المخالفة حين تصبح الذات في مقام الحمامة،" وكنت حمامة يوم الطوفان "، في إشارة إلى أسطورة الحمامة التي تذكر الروايات التراثية أن نوحاً أرسلها تستطلع له ما آلت إليه الحياة بعد توقف الطوفان، 124 وهنا يستغل النص هذه الأسطورة ببراعة فائقة، فتنقل لنا الذات مشاهد، تتواءم مع إرهاصات الحلم وتنبؤاته ويضيق المقام عن ذكرها ونكتفي هنا بمشهد واحد منها :

رأيت الطين يصير
رأيت مصير الماء
انظر
فرأيت الأسماء تعانق ضوء الماء
وكنت أ،حملق محموماً بدماء الماء
بحثت كأن الطوفان نسى
فتلفت انظر
فرأيتُ رأيت بدون سؤال
رأيت أوال تئول لأهل الدار
رأيت جميع الأسرار
رأيت أوال تصير وتبدأ كالأطفال 125

يبرز هذا المشهد من الحلم رؤية الذات في مصير الأسماء التي عرفتها من قبل ولم تكشف عن أصحابها فتراها جثثاً هامدة قد أخذها الماء، واختلطت دماؤها به، وكأنّ المشهد ذاته يستجيب لتلك الضواغط الشعورية الحادة التي تنتاب الذات في صحوها نحو وسائل التغيير المطلوبة للبدء من جديد وبمقدار ما يتصاعد قلق الذات من معرفة مصير الأسماء، يتصاعد قلقها أيضاً على مصير الوطن، فتنفتح أمامها آفاق الرؤيا فترى "أوال" في صورة مغايرة لما عهدتها عليه من قبل، إذ تتحرك في أفق جديد، " وتبدأ كالأطفال"، وتشير دوال الأطفال إلى مدلولات الصفاء والنقاء والطهر من جهة وإلى إعادة كتابة التاريخ من جهة أخرى، التاريخ النقي لا التاريخ الدموي الذي يدعو الحلم إلى خلخلة أصوله واجتثاثه، وكما تحقق الرؤيا للذات رؤية الأسماء، تحقق لها أيضاً رؤية جميع الأسرار، فلا يبقى أمامها شيء محجوب، وبالتالي تصبح الرؤيا أشبه بالمرآة التي تنعكس على صفحاتها كل أحلام الذات في عالم متغير.

ومع أن الرواية السردية للحلم تتكئ بصفة عامة على الوسيط الحلمي الذي يأخذ معه الذات في رحلة إسرائية عبر بوابات الطوفان القادم، فإن التفاصيل المرهص بها عبر هذا الوسيط لا تخرج عن المادة التاريخية المعروفة عن فاعلية حادثة الطوفان، مما يشعر بأن الهواجس اللاشعورية كانت وراء رسم وتفاصيل الصورة المدمرة للطوفان القادم الذي ترى فيه الذات حلاً حاسماً للتخلص من الواقع بكل تناقضاته، ونقائضه التاريخية والآنية، ويمكننا بعبارة أخرى أن نقول إن الوسيط في هذا الحلم هو الذات في حوارها مع نفسها تجسيداً لفكرة المحو التام للواقع، وإعادة لحظة البدء من جديد، ذلك البدء الذي يؤكد الحلم ابتداء على كشف سره وخباياه، مما يشعر أن البدء من جديد لا يتم إلى بعد إزالة كل أشكال الواقع وشخوصه، وثوابته التاريخية، أو هو على حد عبارة "موت الكورس" "تدمير عناصر الواقع بعناصر الحلم". 126

والحلم على هذا النمط يمنح الذات شعوراً بالتجاوز لمحيطات الواقع من جهة والتنبؤ بما سيؤول إليه من جهة أخرى، وهذا وغيره لا يخرج عن المحصلة النمطية لمجموعة الهواجس والخواطر والأفكار التي تعرض للذات في لحظات اليأس والانكسار، فيكون الحلم هو المهد الذي يحتضن كل الآمال والأمنيات التي تعز في الواقع، ولذا يقول الشاعر في نهاية هذه القصيدة خاتماً بها رواية الحلم :

الكون يصير إذا نمنا ويصير الحلم لنا
فتعال وهات يديك يديك
يصير الشيء الحلو جميلاً عبر يديك.. 127

ويبدو هاجس الصورة، أو التحول والتغيير، المعبر عنه بلفظة يصير التي تتوزع على شبكة فضاء الحلم هي ذلك الشيء الذي تلح عليه الذات فلا يتحقق لها إلا مناما، تتمدد فيه الرؤية عبر فضاء الرؤية بلا حدود أو قيود، تحتضن الكون بأسره، مما يذكرنا بمقولة محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ) المشهورة في هذا الشأن :

النوم جامع أمر ليس يجمعه غير المنام ففكر فيه واعتبر

6 _ الذات وقوة المخيلة :

يؤكد الخطاب النقدي عند قاسم حداد على إبراز دور المخيلة في عملية الإبداع الشعري باعتبارها مكمن البراءة، فإذا "لم تستطع هذه المخيلة أن تبدع نصوصها الجديدة بشروط إبداعية جديدة فمن الأجدى أن تنتحر، إذ لا رغبة لنا في إعادة إنتاج النص الأول، أو التنويع على شكلانيته وجاهزيته." 128 إنّ المخيلة على هذا المفهوم تعمل على إيجاد واقع إبداعي مخالف يعتمد على طاقة المخيلة الإبداعية التي تأخذ الشاعر والقارئ نحو أفق يصدر عن الأعماق حيث الصدق الصراح "، 129 وبذا يصبح الباطن دليل الذات إلى الصورة اللا مرئية من الواقع من خلال إعادة ترتيب الأشياء، أو هندستها، بطريقة خاصة تكشف عن رغبة دفينة في رؤية صورة أخرى مخالفة لما هو قائم خارج الذات، ومن ثم يتحقق للذات ذلك الشعور الغامض الذي يغمرها وهي تفيض بالرؤيا متنبئة بالآتي الذي يتشكل وفق الأحاسيس والمشاعر المحبطة في الواقع، وعمل المخيلة، في هذا الإطار، لا يختلف عن عمل الأحلام، فالأحلام هي الصورة غير المرئية لعالمنا الداخلي، مما يصعب معه تجاوز العلاقة بين عمل المخيلة والحلم في العملية الإبداعية على الأقل، فكل منهما يهدف إلى تجاوز اللحظة الراهنة، بالبحث عن البدائل الممكنة، أو غير الممكنة، في صراع الذات مع العالم الخارجي. ومع أهمية الخيال الإبداعي، ودوره الفعال في الوصول إلى الاكتشافات التي قد تساعد على معرفة العلاقة التي تتحكم في سير الواقع، وطريقة نظامه، فإنه قد يتحول في نهاية المطاف إلى أوهام وهذيانات بعيدة عن منطق الحياة وبخاصة إذا أوغل الفنان في عالم الأعماق وانغلق عليه بصورة تامة 130 ، وهذا يعني أن عمل المخيلة ينبغي ألا يكون مفصولاً عن مجرى الواقع، بل صورة أخرى لما يمكن أن يكون عليه هذا الواقع، أو هو بعبارة أخرى، إخراج جديد للواقع يتواءم مع منطق العصر والحياة، فالخيال _ كما يقول قسطنطين فيدين _ لا ينفي المنطق. 131

ولعل المتتبع لشعر قاسم حداد يلاحظ أن الشاعر كان وفياً لمنطق خطابه النقدي فيما يتعلق بدور المخيلة الإبداعية في التجربة الشعرية فقد أولاها اهتماماً لا يقل عن اهتمامه بعملية الحلم الإبداعية، فكلتاهما مثلت له معيناً لا ينضب من الاكتشافات والتنبؤات التي تؤكد وعي الذات وحضورها الدائم في عمق الواقع، ودأبها الذي لا يعرف الكلل في السعي إلى تغييره ولو بالعنف والدم والثورة، ورسم الصورة المستقبلية له، ففي قصيدة "هذيان" يقول قاسم :

لست في نوم ولا يقظة
لكن الحلم الفاتن يخطفني
ذات الحلم كل يقظة كل نوم
كوكبة تدخر النار في عرباتها
وتدفع الأكواخ كي تتسع الطريق
وكلما وضعت عيني على شيء تحول
وأخذ شكل البراكين
......
أرى الأطفال ينبثقون
من شجرة يتدافع يبذل أنوثته
والنهر في غفلة التدفق
والبراكين تتلاطم مذهلة ورائي
......
وأكاد في جمرة البهجة أضج بالأسئلة
هل الريح سرير أقدامي ؟
هل أنا في رقص ؟
هل التهجد يأخذ أقدامي إلى الطريق ؟
هل أمشي في جحيم أم جنة والأرض فضاء ؟
حلم فاتن وأنا في الأقاصي بلا نوم ولا يقظة 132

تأخذنا القصيدة ابتداء إلى تلك المنطقة الغامضة من النفس، منطقة الأغوار، لتكشف لنا عن ذلك الأفق الجديد الذي تتدافع أحداثه بصورة متلاحقة، تدهش الذات فتلقيها في أتون الأسئلة المضمخة بالبهجة لهذا العارض الذي يملأ عليها لحظتها المتوهجة، ويتملكها في صحوها ونومها، ومع أن الذات تفيض ف رسم أبعاد الصورة العامة لهذا الحدث، بكل ما ينطوي عليه من تفاصيل صغيرة، فإنها، كما يبدو، عاجزة عن تفسيره أو إدراك كنهه، بيد أنها منفعلة به تتابع جزئياته بشغف شديد.

وإذ تتجه حركة أحداث المشهد، في مسار واحد يتسم بعنف الحركة المتجهة إلى الأمام نحو التحول فإن الذات تتماس مع فاعلية الحدث بتعميق مجرى هذا التحول من خلال التواصل الحسي مع عناصره القابلة للتحول إلى صورة تجسد البراكين الثائرة ومن هنا جاءت صيغ الفعل المضارع، على امتداد فضاء النص، متوائمة مع حركة العنف المهيمنة على المشهد، وتشير دوالها إلى مدلولات الثورة والحرية، وهي النغمة التي تواجهنا في أكثر من مكان في التجربة الشعرية لقاسم حداد.

وتنطوي مشاهد النص على نبوءة مراوغة تتكئ على عناصر التضاد في تحديد أسس العلاقة بين الذات والنبوءة من جهة، وعلى عناصر الدهشة والإرباك في فهم الرسالة من جهة أخرى، إذ تبدو الذات في البداية مشدودة إلى بعد ارتكازي يقع بين بعدين متضادين تنفيهما معاً عنها "لست في نوم ولا يقظة" لإضفاء مساحة من الإغراب على تلك المنطقة الهلامية من النفس، التي يصدر عنها ذلك العارض المرهص بالنبوءة، الذي لا يلبث أن يتقمص الذات بصورة متواصلة متجاوزاً منطقته الهلامة إلى منطقتي الحضور والغياب، "يخطفني.. كل يقظة = كل نوم". ولا تنطوي هذه النبوءة على إبلاغ، أو مخاطب تتوجه إليه بالرسالة، وإنما تثير إشكالية علاقة الذات بالنبوءة من منظور التحول الاصطفائي "، كلما وضعت عيني على شيء تحول.. "فالاصطفائية متحققة في وضع حركة العين على الشيء المنتخب، لكن تحوله إلى براكين شيء خارج عن نطاق السيطرة، إذ لا علاقة منطقية بين النظرة والتحول إلى شيء آ،خر منذر بالعنف، ومن هنا جاءت تلك الإشكالية التي تفيض بها النبوءة المحيرة التي أربكت الذات وجعلتها موزعة بين الانتشاء في أعلى درجاته الحسية، وبين الحيرة النفسية من موقع الذات في هذه التحولات، ولذا يأتي انفجارها بالأسئلة متوائماً مع حركة الموقف النفسي المهيمن على الذات لحظة بروز التحولات العنيفة، على الرغم من تباعد عناصر مدلولاتها، على الأقل فيما يتعلق بتحديد طبيعة زخم اللحظة التي تجتازها الذات في إطار هذه التحولات، فعندنا في سياق هذه الأسئلة حركتان متضادتان : حركة سريعة الإيقاع، مع الريح والرقص، وحركة أبطأ من سابقتها مع التهجد والمشي، ومع الثانية ينتصب التضاد، جحيم + جنة، الذي لا تحيل دواله إلى مدلولاتها، وإنما تحيل إلى شيء يقع خارجها، "الأرض فضاء"، مما يجسد أزمة الذات ضمن معطيات الرؤيا الأساسية التي يصدر عنها النص، وهي رؤيا ديناميكية ثورية تكتنه روح المغامرة الموزعة في اتجاهين : التطهير، وإعادة الخلق، ويتجلى التطهير في تلك النار المشحونة بالعربات التي تكتسح الأكواخ، لكي تتهيأ الطريق للقادم الجيد، ويتشكل الخلق من جديد في رؤية الأطفال ينبثقون من شجر مفعم بالأنوثة، ويتم ذلك كله في إطار غفلة من الزمن، "والنهر في غفلة التدفق"، وتلاطم البراكين المذهولة، وهكذا تتشكل رؤيا القصيدة من فعل خارق يتجاوز قدرات الذات في تغيير الواقع، وبالتالي لا يتعدى دورها أن يكون دوراً تبيشرياً ممزوجاً بقلقها وبهجتها من هذا القادم الجديد، ومع هذا يبقى وعي الذات واقعاً في أسر المخيلة التي تصفه بأنه "حلم" فاتن، لا ينتمي إلى منطقتي الحلم أو اليقظة.

وقد تصبح الرؤيا زئبقية تتأرجح بين الغموض والوضوح غير أنها تملك أدواتها التي تسرع بها إلى النهاية المتوقعة منها حين تدخل الذات طرفاً فاعلاً فيها :

تعال أريك أمانيك تصير
أريك خيالا كنت تراه وتحلم
كنت ومن أين وكيف
لا أذكر أني كنت رأيت
ولا أذكر أني كنت
ولا أذكر أني
لا أذكر
لا
هات تعال أريك المعجز والشيء المكنون
أريك الشيء الساكن والمسكون بتوق البدء
أريك جنون العقل ولا تسأل كيف
ستنظر
لكن لا تسأل هذي الفضة عن أسماء
الرؤيا غامضة
لا تسأل كيف دخلت ستعرف كيف
وقفت
وكنت كأني في الحلم
كأني حلم والفضة حولي وبطيئاً همت
وكالسابح في الزئبق صرت أرى
وتآلفت كعين الفضة صرت أرى
ورأيت الشيء وكان جميلاً

.......

والشيء جميل صرت أرى
وعرفت بأني أقف الآن بوهج الفضة
هذه فضة أيامي الأولى
حين دخلت دخلت النار 133

تتكئ هذه الرؤيا، التي تنطلق من الثقة بقدرة الخيال على تحقيق الأماني والأحلام، على حوار ذاتي يبدأ من الذات وينتهي بها في ثلاثة مستويات من الرؤيا : الذات + الآخر، الذات + الذات، الذات + الأشياء. فعلى المستوى الأول، تبدو الذات في مخاطبتها للآخر قادرة على إنتاج الصورة المغايرة، التي تحيل الحلم إلى واقع، من خلال الرؤية المشاهدة، التي تلح عليها الذات عبر مقاطع وأنساق النص الشعري بصورة لافتة، بيد أن كيفية رؤية هذه الرؤيا، أو أدوات تحقيقها بقيت مضمرة، ترك إنتاج آليتها إلى تداعيات الحوار لا إلى المخاطب الذي لا يظهر في شبكة الحوار، بل يبقى مضمناً في بنية تركيب النص الشعري. وهذا التغييب الواعي أو اللاواعي للآخر في بنية الحوار يهدف إلى إقناع الصوت الآخر في الذات إلى إمكانية التجاوز لمحبطات الواقع ولو بالخيال، ولعل مما يعزز من هذا الاحتمال هو المستوى الثاني من الحوار، أي حوار الذات مع نفسها، في نفي الرؤيا في نسق لغوي من خمسة أدوار، تبدأ فيه الذات بمراجعة معتقدها المؤسس على إمكانية الرؤية فتنفيها عن نفسها في الدور الأول بصورة تامة ثم تبدأ بنية النسق المتكررة بالتآكل حتى تستقر في نهاية المطاف عند حرف النفي لا، إذ غابت لفظة "رأيت" بصورة تامة من بقية الأدوار الأربعة لبنية النسق، ويبدو أن وراء هذا الإضمار، أو تآكل بنية النسق اللغوية، محاولة لكبح جماح الهاتف الداخلي من النفس الذي يشكك في إمكانية الرؤية، إذ سرعان ما تصحو الذات من تأثير الهاتف لتعيد الحوار مرة أخرى في سياق التأكيد على إمكانية رؤية الرؤيا من منظور أكثر اتساعاً وامتداداً إذ تدخل فيها عناصر من الرؤيا الخيالية الموغلة في الشطح، فهناك حديث عن رؤية المعجز "والمكنون" والساكن والمسكون بتوق البدء، وأخيراً هناك جنون العقل.

أما السؤال عن كيفية وقوع هذه الرؤيا فمنهي عنه أكثر من مرة، "ولا تسأل كيف"، "ولكن لا تسأل..."، غير أن يقينية وعد الرؤيا واقعة، "ستنظر"، هكذا ترهص الذات بوعد الرؤيا، ثم لا تلبث أن تنفجر بالإخبار عن غموض الرؤية "الرؤيا غامضة"، إنها باختصار خارج نطاق الأسئلة، ومع أن الدوال التي تنتظم عناصر هذه الرؤيا الموعودة ليست مفصولة عن مدلولاتها حتى تبدو عسيرة الفهم على اكتشاف علاقتها الدلالية، فكلها تنساب في مجرى واحد يهيمن على وعي الذات في إشاعة الفوضى في المكرس والثابت، وإعادة الخلق، والتطهير، فإنّ الإخبار عن غموض الرؤيا كامن في طبيعة الذات المراوغة لا في طبيعة الرؤيا ذاتها التي تحيطها بسياج من العناصر المضللة لتبقي وحدها القادرة على حل لغز الرؤيا، فكأنها شفرة سرية، ولذا تأتي جملة النفي محذرة من السؤال _ بعد الوعد بالنظر _ "لكن لا تسأل هذه الفضة عن أسماء"، وتبدو لفظة فضة مفعمة بالإثارة، إنها تشير إلى مرموز إليه يقع خارج الرؤيا غير أنه وثيق الصلة بها من حيث الهدف والنتيجة، فالفضة هنا رمز الطوفان، والأسماء، هي تلك التي اجتاحها الطوفان، على حد ما رأينا من قبل في قصيدة سابقة، إنّ السر يكمن هنا في خاصية الماء أو الطوفان وقدرته على غسل الأرض وتطهيرها من الآثام، إذ لم يعد للأسماء وجود بعد الطوفان.

وتواصل الذات مراوغتها للمخاطب على نحو يكثف من طلاسمية الرؤيا "لا تسأل كيف دخلت، ستعرف كيف..."، وبذا تتراجع الذات عن وعدها للمخاطب بمعاينة الرؤيا إلا من الجانب الشكلي في علاقتها بالذات، مما يزيد من عنصر المراوغة، الذي يتمدد في شبكة النص محولاً مدلول الرؤيا إلى دال مراوغ، ينسرب مرة في بنى الجمل المثبتة، حتى يكون قاب قوسين أو أدنى من مدلولة، "تعال أريك"، هات تعال أريك"، أريك الشيء..."، أريك جنون...."، "ستنظر"، "ستعرف"، وتارة يتباعد وينسرب في الجمل المنفية والمثبتة معاً"، "لا تسأل كيف ـــ ستنظر"، لكن لا تسأل هذي الفضة"... ـــ "الرؤيا غامضة"، " لاتسأل كيف خلت "، "ستعرف كيف وقفت"، مما يعشر بقلق الذات ومراوغتها في مفهوم المعتقد الذي تحاول بثه أو التبشير به من خلال هذه الرؤيا.

وإذا ما أتينا إلى المستوى الثالث من الرؤيا، الذات + الأشياء، رأينا الذات تبدأ بفك طلسم الرؤيا شيئاً فشيئاً حتى تنحل تماما من خلال شحن الوعي الشعوري بالأشياء من حولها فتبدأ بتحديد علاقتها بالرؤيا نفسها أولاً في مستويين تحددهما تحدياً واضحاً : "كأني في حلم "، "كأني حلم "، والفارق الدلالي بين التعبيرين كبير، ففي المستوى الأول تبقى حدود المسافة بين الذات والحلم موجودة، أما في الثاني فتتلاشى هذه الحدود تماماً لتصبح الذات في مقام الحلم، من منظور التناظر في الهدف، ولذا لا يتم هذا التناظر إلا في محيط الرمز "الفضة"، رمز الطوفان، الذي يأتي في سياق جملة الحال، "والفضة حولي" معمقاً من حالة الوعي بأثر المرموز إليه في محيط الحلم، ومع هذا تبقى الاستجابة إليه مشوبة بالحذر والتوجس، وبطيئاً همت"، "وكالسابح في الزئبق " مما يشي بتصاعد حالة الوعي بالتبدلات الشعورية تجاه الموقف الجديد، الذي يدفع باتجاه تبديد غموض "الرؤيا"، "صرت أرى"، حيث تتكرر هذه الصيغة ثلاث مرات، في نهاية المقطع الأخير من القصيدة، كاشفة عن أبعاد التحول في عتمة الرؤيا، وعن تجانس الذات مع المحيط الجديد، "وتآلفت كعين الفضة، ومع كل هذا فإن الذات بقيت على حذرها لم تكشف أبعاد هذه "الرؤيا"، وإنما أخذت تومئ إليها بأكثر من موضع وتصفها بالجمال، "ورأيت الشيء وكان جميلاً"، وإذا كان الشيء المرئي يعكس ذاتيته الموصوفة بالجمال، أكثر مما يعكس شعور الذات بجماله، فإن الذات تعكس شعورها برؤية الشيء الجميل، "والشيء الجمل / صرت أرى"، وهي صيرورة نابعة من تماسها الأول بذلك الشيء الجميل، وسط قبح الواقع وإحباطه.

وتزداد حركة الوعي الشعوري توهجاً بالأشياء عند الذات حين ينقلب إحساسها بالأشياء الجميلة، إلى إدراك معرفي يتماس مع أبعاد اللحظة الآنية الحاسمة التي تجتازها، مؤذناً بحل عناصر الرؤيا، "وعرفت بأنني أقف الآن بوهج الفضة "، ويومئ تعبير "وهج الفضة"، بكثافتها الرمزية، إلى لحظة الخلاص الحاسمة، التي تتفاعل معها الذات، بصورة حميمية في سياق الإضافة إليها، لكن اللحظة الأكثر توهجاً في تلك العلاقة بين الذات، ورمزية الفضة، هي تلك اللحظة التي تشعر الذات على إثرها أنها دخلت النار، وأصبحت الذات من هذا المنظور أشبه بالبطل الأسطوري الذي يحترق بالنار ليعود من جديد، بعد أن صفى معدنه وتطهر من الآثام، فيتأهل للحياة الجديدة 134 ولعلنا ندرك من هذا، أن محصلة الرؤيا، في أتون النار الأسطورية في نهاية القصيدة، تتواءم مع إشارة الذات التي قدرتها على رؤية المعجز، والمكنون، والساكن والمسكون بتوق البدء، في مطلع القصيدة، وكلها تنساب في مجرى إعادة البعث، والحياة من جديد، وتأكيد دور الذات في إعادة ترتيب هذا العالم المملوء بالآثام والشرور، أما بحرقه أو إغراقه بالطوفان، لكي تعود إليهم فطرة الخلق نقية صافية، ولذا لا تتردد الذات في الإعلان عن الدعوة إلى ترميم مخلوقات الله، بعد انحرافها عن نهج الفطرة، حسب اعتقادها :

ساعديني
كيف أرمم مخلوقات الله
أضع الفصول في قصعتها وأستدرج الطبيعة
لم تعد الأرض بهيئتها ولم تعد السماء !

....

ساعدين لكي يبدأ الترميم

.....

لم يعد الخلق كاملاً ولا جميلاً 135

تفصح هذه الرؤيا عن أزمة العلاقة بين الذات والعالم من منظوره الشامل، في إطار رؤيا ضدية لمخلوقات الله، تبلغ درجة عالية من الحساسية ترفع الذات إلى مستوى الإحساس بالمسؤولية التاريخية، أو بدور البطل التاريخي، الذي يناط به إصلاح العالم أو تغييره، أو حتى إعادة تشكيله، إن أمكن وفق مستويات رؤيا الذات وتصوراتها، لما ينبغي أن يكون عليه، وتطور هذه النظرة المحدودة، في الإصلاح والترميم، إلى الدعوى إلى إعادة الخلق من جديد، كما لو أن العالم لا يصلحه شيء، وتستحوذ هذه الفكرة على ذهن الشاعر، بعناصرها التكوينية، الماء، الطين، الصلصال، ستتردد في مضامين شعره، بصورة لافتة وبخاصة في مجموعته الشعرية " يمشي مخفوراً بالوعول "، 136 كما كان خياره الأخير في صراع مع العالم :

ها تخلق الأرض زمن خضرة. ليست اللون
ليست ضباباً على الأفق. ها يخلق الكون طيناً طرياً
وشمساً بلا موعد تصهر الدار، تختال فيها وتختار
ألوانها. ليست الأرض أرضاً
ومن شرفة الغيم أقدامنا موطن يحتفي
فاستعدوا لها واحتفوا
أيها الطين هيئ لها موطأ سوف تأتي 137

إن صورة خلق الأرض هنا تتشكل من منظور خاص، تستبعد فيه كل حالات ما بعد الخلق الأول، فمادة الخلق الثاني خضرة مجردة من اللون، إنها الطين في صورته التكوينية الصورة النقية لما قبل التلوث، وتجتاز مادة الخلق "طيناً طرياً" محيطها الخاص لتشمل الكون كله في دورته الزمنية، فالشمس لا موعد لها لكنها تملك خاصية السهر واختيار اللون، والأرض هي ليس الأرض التي نعرف، إنها خلق آخر كما يوحي النص، ولا تكتفي الذات بالتبليغ بل تردفه بالطلب، الذي يتوزع في اتجاهين، الجماعة وتحضها على الاحتفاء بالقادم الجديد، ومادة الخلق، الطين، وتطلب منها أن تعد موطئاً للأقدام القادمة.

هكذا تتمثل الذات صورة الكون في تشكلاته الجديدة، وعلاقة الجماعة به، كون يتجاوز أشكاله ومتعلقاته التقليدية، ويتخلص من كل ملوثاته، ويعود إلى بداياته الأولى الخالية من الشوائب، فطرة الخلق الأول، ويكشف عمل المخيلة، في هذا الجانب، عن الاستشراف المستقبلي للواقع من منظور التصور الذهني، الذي يشيع هذه الروح في الواقع، كبعد خارجي محتمل الوقوع من جهة، وكقفزة إلى المجهول بكل إثارته من جهة أخرى، مما يجعل من الذات في حالة ترقب مستمر وقلق دائمين تجاه المستقبل المتوهج في النفس على امتداد أنسجة النصوص الشعرية التي تفيض بها، حتى تبلغ درجة الانصهار به فتصبح هي المستقبل :

أنا مستقبل الماضي
أغادر في الطبيعة في دم الأشجار
أعضائي مسافرة لترميم العناصر في غبار النار 138

ولعل المثير حقاً في هذه الرؤيا، التي تصهر الذات بعناصر الزمن والطبيعة أنها تسقط من حسابها تماما،ً الزمن الراهن، لإحساسها بإحباطاته، وكثرة معاناته المعيشة، وتعيد إنتاج ذاتها بصورة تكشف عن مدى قوة انسرابها في صنع المستقبل وإنتاجه أيضاً، بصورة تبدو معه الذات كما لو أن وجودها الذاتي كله مرهون بصنع المستقبل، ولذا جاء تركيزها منصباً على الكيفية التي يتخلق في رحمها المستقبل لا على دلالاته التي تركت مفتوحة لكل الاحتمالات.

وقد يشطح الخيال بالذات، حين يدلهم الواقع، ويتصلد إلى درجة اليأس من إصلاحه، فتتمنى لو أن الله منحها قدرة التكوين بالأمر، لتغير هذا الواقع وتعيد خلقه.
إلهي

....
لو أرخيت لي حجراً بنيت الكون فيه
.....
وقلت للماء : انتصر
أعطيتُ. لو أعطيت بلورة التكوين 139

ومن الجلي أن هذه الأمنية الخيالية لا تخرج عن مبدأ رفض الواقع، أو تدميره، وإعادة خلقه من جديد، وهي الفكرة الجوهرية التي تنساب في معظم أعمال الشاعر قاسم حداد، كجزء من منظومة فكره المتمردة، على الأوضاع من حوله بصورة عامة، التي تمثل له معاناة مستمرة سواء مع نفسه في معركة الواقع أو مع الآخرين من الذين يقفون في الطرف المقابل. وينسرب هذا الخاطر الخيالي في ذهن الذات لحظة إحساسها بضعف ومعاناة نفسية شديدة من قسوة الواقع، تود على أثره لو أنها منحت قدرة اختصار الزمان والمكان في سياق الأمر التكويني، تدميراً خلقاً. ويبقى هاجس الطوفان حاضراً في الزمن خياراً تدميرياً تنتصر به الذات على لحظة انكسارها ويأسها، "وقلت للماء : انتصر".

الخلاصة

نلاحظ بعد هذا العرض المسهب للتجربتين النقدية والشعرية عند الشاعر قاسم حداد كم كان متأثراً بالتجربة الحداثية العربية التي هيمنت على الساحة الثقافية خلال العقود القليلة الماضية بعد الانفتاح الثقافي على كل التيارات والثقافات العالمية بكل ما تموج به من أفكار ورؤى، وقد استهوت هذه الأفكار والرؤى الجديدة قاسماً فافتتن بها، وأصبحت تمثل له موقف حياة، فأخذ يتمثلها شعراً يتسم بروح التمرد والعنف تجاه الواقع والحياة، على نحو يصله بتجربة الحداثة العربية ممثلة على وجه الخصوص بآراء أدونيس ومجلة شعر اللبنانية، ولم يكتف بهذا بل دفعه إيمانه بالحداثة، كطريقة حياة، إلى أن يقيم حواراً نقدياً، حول أهم قضاياها، ينطوي على روح المغامرة النقدية في أعلى درجات تمردها على الموروث والسائد والمكرس، تمثل ذلك، كما رأينا، في بيان "موت الكورس" الذي يعد اعنف بيان نقدي صدر حتى الآن، لا على الساحة الخليجية فحسب، وإنما أيضاً على الساحة الثقافية العربية، يهاجم الثقافة السائدة، والنقاد الذين لم يتحرروا من سلطتها، ومعلناً في الوقت ذاته عن ظهور طلائع التيار الجديد للإبداع بعيداً عن القداسات والخرائب حسب تعبير البيان، وتدعم هذا الموقف النقدي عند قاسم بكتاباته النقدية الأخرى التي تعد في مجملها توسيعاً لما جاء في بيان "موت الكورس" من آراء نقدية جمعها فيما بعد في كتابه "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" وهي في عمومها تمثل منظومة نقدية متكاملة تعبر عن فكر قاسم حداد في مسألة الإبداع.

وكانت التجربة الشعرية عنده، على الرغم من أنها بدأت مبكرة قليلاً عن تكامل منظومته النقدية، هي المختبر التجريبي الذي صهر في بوتقته هذه الأفكار الجديدة وحولها إلى إبداع مثير للجدل يصدر عن روح مفعمة بالتمرد على واقع عاجز عن مسايرة العصر، يرى الماضي أنموذج حياة للحاضر، فعكف على محاكمة هذا الواقع وكشف عواره ومساءلته بحدة بالغة، داعياً إلى هدمه وإعادة بنائه بما يتفق ومنطق الحياة والعصر، ومع أن هموم الواقع تشغل مساحة واسعة من تجربته الشعرية فإنها لم تشغله عن هموم الإبداع، ومتطلبات الخطاب الجديد، ولذا كان هناك تركيز شديد في كلتا التجربتين الإبداعية والنقدية على بعض القضايا الجوهرية الحاسمة في مسألة الإبداع الجديد، كفلسفة الكتابة، ومواصفات اللغة المطلوبة، وإشكالية الوعاء الفني للخطاب، ودور الحالم والمخيلة في تهيئة الواقع للتشكل وفق مواصفات جديدة إلى غير ذلك من القضايا الجدلية، التي تتردد باستمرار كقضايا حياة في تجربتي قاسم حداد النقدية والإبداعية، بصورة تراسلية، تكشف عن ترابط وثيق بين التجربتين، على نحو يجعل من الشاعر قاسم حداد أنموذجاً للوعي الجديد الذي أ،خذ يتشكل في منطقة الخليج، في الربع الأخير من هذا القرن، داعياً إلى تكريس رؤية جديدة تتعامل مع الحياة بصورة عصرية بعيداً عن هيمنة الموروث وسلطة الأسلاف.

ومهما يكن من أ،مر فإن‎ّ مجمل آراء قاسم حداد النقدية وتجاربه الإبداعية، الموغلة في التجريب، دفاعاً عن حرية المبدع والإبداع، ليست منفصلة عن حركة الحداثة العربية بل هي كجزء منها تنفعل بها وتتفاعل معها كمشروع للثقافة العربية، وليس أدل على ذلك من كتاب "البيانات" الصادر عن مجلة كلمات البحرينية، عام 1993، الذي يضم بين جوانحه كافة البيانات العربية بشأن الثقافة والإبداع، ومنها بيان "موت الكورس" لقاسم حداد وأمين صالح باعتباره متمماً لها في نهجه وأهدافه.

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى