وجــوه

نصوص/ قاسم حداد

 

1

غابة أم بشر
هذي الوجوه التي تأرجح أحداقها في زجاج الفضاء
بهجة أم كدر.

2

ليست نـزهـة،
من يعـرف،
لـكأن ما أراه مـن بيـاض هـو الكفـن المنتخـب،
مـن يعـرف،
هـل أنـا في الحرف الأول،
في الكلمـة الأخيرة.

3

أرشح أكثـر الأعضـاء خفاء لكنيسـة الجسـد.
كيف أقول..
عن ارتعـاشة جسـد في التجربة
يضطـرب مثل طفـل خالجته الصـاعقـة.


4

تقـدم
نعـد لك الأعـراس و الـمراثـي،
نشـد أزرك و نسـنـد خـاصـرتك بالسـكاكين،
تقدم
مــا أبهـــــاك
و أنــت إلـى الكتـابـة كأنـــك إلى المـوت.

5

المخفي.. يخيف.

6

كلما وضعت عليك عضوا لئلا تصيبك الوحشة،
انتابتني النصال،
النصال كلها.
ها جسدي يكاد أن يذهب
مشغوفا بك، و أنت في الفـقد.


7

الوجوه، الوجوه
استعارت حيادا من الماء
استدارت لتخلع أقنعتة من هواء.

8

جــوع كاسر يتـفصد في صلصال الهيكل
لكأنك تلمح فضتـك الذهبية تنـتقـل، كمشكاة،
من جسد النار إلى آنـية اللهب.
جـوع كافـر
مثل زئبق يمنح الصدر شهوة الأوسمة.

9

جــوخ تهـرأ لفرط المديح،
مشدوخ بشهوة الأسئلة وهي تنهض من المذلـة
فيصاب بهيبة التهدج.
سناجبه تكنس القطيفة بفروها الأليف.
مضى عليه وقت في نعمة الوعد
ولم يـرخ حواسه لسماع الكلام،
ما إن تقال له الكلمة حتى يتفصد النحـل من كتفيه
مثل بوصلة تسأم مجد التيه.

10

جثـة تـمرح في ذاكرة الناس
مشمولة بغنج المؤآمرات،
موصولة بجسد يتفلت من تاريخ له موهبة الميزان
و غيبوبة الطريق.
جسد لا يخلع درعه الأخير،
مثل حصن ساهر
يتبادل أنخاب الجليد في هدأة الوحشة.
و ما إن تدير الجثة رأسها ناحية المشهد،
حتى يختلج الكلام في الصدور .

11

جـحـيم يسمونه بلادا ،
حينـا يقال له الوطن،
وغالبا يحمله الشخص مثل خيط من الأوسمة :
زينة الضريح / جنازة الأمل.
قيل إنه الوقت والمكان،
يتراءى مثل الحلم فيما يكون وهما
يتمارى فلا تدركه البصيرة ولا يطاله الكلام
لن تعرف ما إذا كنت سيدا في هذا الجحيم أم عبدا.
ليس لك أن تقول باللغة
وما إن تقول بيدك حتى ينالك القصل
ففي الجحيم ( الذي لا تسبقه جنـة و لا تـليه ) أنت في المـهب :
مزاج الريح يعصف بك
ومزيج الحرية يدفعك إلى التهلكة.

12

ناس الغابات
يعيثون فسادا في البيت.

13

سيد من سقـط القبائل و يحسن الفـر،
ينـداح.. ينـداح و لا يخطئ الهـزائم.
مـرة هاجت يـداه في غفـلة و سأل الذبيحـة عن وليمتها،
مـرة هاجت عيـناه، ولم يـزل.
كلمـا أوشك على الـكر،
إنـداح مثل قذيفـة تسبق أهـدافهـا
تفـر إليهـا.. تفـر و لا تصـل.

14

يحـلـم
مثل طفـل يكاد أن يهـرم.

15

أنظر إلى النـاس
مـكـتظين ببداهة لا يقـدرون على إعـلانهـا.
أشباح تتكئ على رمـاد بـارد.

16

لا يحيا و لم يقدر عليه موت،
و لـم يـكن حـكيما.

17

أفعـى،
و أينمـا أدرت وجهـك رأيــت أفعــى .

18

نحيل،
ينام تحت جلده مثل ملاءة،
ويفسح حيزا لأحلامه.


19

تظاهري بالغفلة،
لكن لا تغفلي عن كنزك، يمرح في مخيلة الناس.
هيئي الكنز
وتظاهري بالنوم..
ونامي.

20

أدخـل في الخدر أيها الفارس الوحيد،
أدخـل،
بين وركيك مدينة و مهاميز و قتل كثير.
ساحاتك يهندسها روم كثيرون
لأجـل القتال،
تجرجر جثتك المـكابرة
لأجـل القتال،
بين كتفيك بيت تلعب فيه الجيوش
و يغشاه نحيب الغزاة.
أدخل،
ليس غير الخدر الأليف.
أيها الفارس في الوحشة،
كم تسافر من ضريح إلى ضريح.
أدخل غموضك

و لا تتوضـح
ولا تهتـــــم.


21

تتصاعد من أعضائه المناديل ملطخة،
ويهفو لمكبوت يتكشف في جسد تكسره بقايا الروح
وأصغر أحفاده يأخذه الوهج :
من أين جئت بكل هذا.
ليس في الجسد ليس في الروح.
يتأرجح مثل غيبوبة
مثل ليل ينسى.

22

وكلما غسلوه بالحديد، كلما منحوه لشكيمة الغابة،
كلما احتفت به النصال، كلما انثنى ليرأف بأعدائه،
كلما بين عينيه، كلما أسس لهدم، كلما انتحبت كلماته،
كلما كلم الماء، كلما كان يصغي، كلما الليل ينسى،
كلما الجرح والهوى، كلما الميل والتعديل.
بينه مسافة المساء المهيمن، لا يعبأ بتضرعات عناصره المتوجعة المستوحشة ،
يحـم جسده بـتأود الأرض وطقس الوهم.

23

لا تتركوه وحيد الكتف موغل الليل، كمن ينتظر لصا يتذرع بالقميص، ينتظر عدوا يشفق، ينتظر ذئبة تفوز به وتعصف بطحينها جسدا تهدل جلده وتـخـبخب في غابة من شظايا،
تقرأ له مرثية، ما إن يلتفت، ما إن يـنـتر عنقه المعروقة،
ما إن يحدق، ما إن يظن أنه يرى ماءا.
ماء بين أيامه ولياليه.
يسأل، يتأجج في غرفة النادبات، يدفعونه إلى جلوس،
هو الذي لم يطمئن لقاعد ولا قاعدة.
عيونه تكسر الأفق.
بينه وبين أيامه ولياليه سؤال يؤنس وحشة الطريق.

24

جسد يهوى، فتنهره الروح.
تركت الغابة عليه العبء. كتف تنسل مخلوقات،
لا يسعها كتاب.
منتهى شهوة الليل، ذاكرة مزدهاة وجسارة تزخرف الشرفة. هاتف من مكان.
كلما حـرك الأصدقاء خبيئـتـه، صار له يأس،
وتـيقـن أن أيامه ولياليه،
ليست أياما ولا ليال.


25

لـوقع أبصـارهم رهبـة الغابـة وغـرور الأوج.
ما من موجة إلا وهيأوا لراحتهـا رمـل الأقاصي وغرف السفر. ما من سفر إلا وانتخب وحشا يهذي. يهيمـون مثل مـاء مجنـون. كلما انتبـذوا أقـداح السهـرة، فزعـت أنثـاهم الفاتنـة بذخيرتها.
يضعـون أدواتهم المتعبـة عند سفح الغيم، يؤثثون الكتب بأسمال منسولة من سماء مسقوفة بالصلاة،
ينشدون مزاميرهم، وينفرون من جهة تخلعهـم، رافعين شـظايا الأقفال في مائدة الطريق تمجيدا.
ثمـة حديد يحرس المداخل،
ثمـة شعب من قلامـات البركان .
قيل إنه بوصلـة تضلل النساك وسـدنة الهيـكل.
يتـكلمـون، فتنهض معهم اللغـة،
وتختجـل الكلمات العذراء، مثل طيـور ضـائعـة في العمـاء.

26

منذ أكثر المخلوقات جمالا وجهامة ومهاجمة، منذ الكرسي والمائدة، منذ الماء في مكانه، منذ فبراير الثلجي ،
منذ ( آب ) الأخير، منذ الاستجواب المؤجل، منذ بنات آوى، منذ الأصدقاء، منذ أقاصي امرأة في انتظارها،
منذ باب المغامرة، منذ شهقة النهد والنمر ونعاس الآلهة،

منذ شظايا القدم المذعورة، منذ النوم والموت والكوابيس،
منذ القلب والقيامة، منذ شكل الكلام، منذ خدم العبيد،
منذ الجنس في الخلايا، منذ الحديد والذهب، منذ غيظ الهذيان منذ الوحيد
وحده.

27

كيف يعجز شخص، يزعم الكتابة، عن الكلام، كنت وحدي، وأنت تـمعنين في هجومات غيابك.
وما إن أطلق ريش تعبي عليك حتى تمنحي الروح فسحة التعب.
كنت أكثر من وحيد، وأقل من الهذيان.

28

لا تملك عبيد العرب،
و لا تخدم ملوكهم .

29

قيل لهم :
هنا تستريحون من السعي،
فألقوا بأكياسهم المتهرئة لفرط ما شرشتها التضاريس. أحفاد وضعوا كواهلهم المتعبة على أصول الأشجار، وراحوا يرسمون هندسة التل، يمنحونه جيوبا سرية مشمولة بالكبريت.
أقبية خفرتها يقظة الحيوان، مخلوقات مشحوذة المخيلة،
تطلق أخلاطها في رؤوس الطرائد القادمة من الأصقاع.

30

كأنه يسمع، كأنه يرى،
كان الجنس يتلاطم ويتبركن. والنساء وراء الأكمات يرقبن شهيق التـل شاهدا لهن.
يسحلن مكامنهن الخفية بالكمـأ ونتوءات الحجر.

31

منذور لغفلة الوحش وكسل الأساطير.
تسمع الوصايا يلهج بها الأسلاف، وترى كيف اهتبل الأحفاد تلك الغفلة وذلك الكسل، وتكاسروا على مداخل البحر.

32

ألم تكن الشرفات مكتظة بكم وقت كانت جهنم لا تكف عن الدفع بمبعوثيها لشتى المهمات :
تارة لكي نساوم على ماء في النهر أو ماء في القدح،
وتارة لكي نمدح الخازوق ونتضرع للضريح.


33

هل أنت هكذا دوما في الملمات،
تحسن اللهو وتتبادل المرايا مع مريديك حتى الانتشاء؟
إذن، ما الذي أبقيت للنادل أيها التل الثمل ؟
لا يحلو لك التهتـك إلا ساعة يتهدج الجسد المرضوض
تحت الغزو.
ألم أقل إن هناك من يستحق، أكثر مني، الوقوف أمام امتحان الفلك ومشارط النطاسين.
فلـم كل هذا الهياج الفاجر يتصاعد مثل نحيب المرأة المشبوقة، في حين يصطرع الغزاة وحرس التل في ضراوة من يتلو صلاة القتلى.

34

يا زهـرة الناس،
كلما وضعت يدي عليك غاصت كأنها في ريشة السديم،
لا تعرف البوصلة جهاتك و لا يطالك المـاء،
جـرحك جهة تحـج إليها الجيوش و تتدفق فيها الأنهار،
و يصاب بالفقد كل باسل يتوهم النصر،
أو يتوسم الهزيمة.


35

من أين لك كل هذا التماهي و هذه التحـولات،
تذهبـين إلى نـاس العرس،
فيصابون بالوجل.

36

لك النهر و شكله، الريح و قميصها الأخير،
أخـرج من النـوم و اخرج عليه،
تصادف طرقا مسقوفة بالرعـب، فاحرسها بزعفران المرايا، تطلع تاجات الأعالي مكنوزة بالغيم و الفضيحة المؤجلة،
فـفي الحـب شئ من الجـنـة.

37

ليس لك أن تنجو من وهــدة الخـاتمـة
فليس ثمة نهـاية لنـص.

38

لنـا دلالـة الحـزن، و الـدم درج لمراراتنـا،
لا النـيران تغسل القميص ،
لا الذئاب تألف الجـب،
لا البحر يسعـف السـفن، و لسنا للنسيان.


39

أطفال يرفعون أسمالهم في طليعة أصواتنـا.
يقتحمـون الطريق الملكيـة، فنسمع دبيـب الوحـش في ز فيرنا. فيما نرقب صافنـات عوجتـها الانتـظارات .

40

الجســــــد / حـديد طري تستفرد به دماثة الغابة،
الجســــــد / حنين يأخذ شكل الحروف،
الجســــــد / صمت يتلاشى في زئبق الكـلام،
الجســــــد / حـالة الـذهب في مديـح النـيران،
الجســــــد / حيـلة الطـين لئلا ينجـو من المــاء،
الجســــــد / ذبيحة الجسد.

41

بــلادك أيها المجنـون،
سـاحة حربـك الأخرى،
خطيئتـك الجميــلة،
فانتخب أعــداءك الفرسان
قاتل و انتظر و اهدأ،
فهذي وردة للكأس سوف تقول للأطفال
عـن جسـد تماثـل و اصطفى موتا
و أبكى غفلة النـيران.

42

هنيئـا للـذي يلهو به يأس
و يحرسه رمـاد غـادر
و يقول للموتـى : صـباح الليل.
يهـذي،
سـاعة الهذيان تفضح موت مـوتانـا
و تمنـح كل مـرآة خيـانتـها.
صباح الليل للموتى..
إذا ماتوا.


43

تـرون كما يرى الأعمى،
كما لا يخطئ الفقـهاء في الفتـوى،
كما تغفـو نصـال غـير عـابئة بمـوت النـص.

44

يخافني الناس لبشاعة الظاهر،
و أخاف الناس لبشاعة الباطن.


45

أيها الغريب
هل في أصابعك شهوة الباب الموصد ؟
هذا نهارك المشحون بالعمل و المكتشفات.
أيها الغريب
ها أنت الواحد القليل
تتـكاثر كلما دلفت في رواق يأخذك إلى بهو الجسد،
حيث الذخائر يخبئها لك شخص
لا تعرفه لا يعرفك،
و بينكما ألف عرس و ألف جرس،
و عضلة مفتولة،
حريتك الأخيرة في النهار الأخير .

46

تدفــقوا من صخرة تشتعل، لتراكم الأرض بقفطاناتكم القرمزية وتلمس أطرافكم، تحزمون المدن بشكيمة الحجر، تقودون الشجر والدواجن والفراشات والنحل والمناديل مبللة بالحزن، تحرسون الظلال الهاربة والأحلام المذعورة في نوم الأطفال تقودون ساحرات الوقت بقمصان هلهلتها وحشة الغابة. راياتكم كوفية البيت، وثيابكم حزن ثاقب. موشحون ببسالة الذاهب نحو تخوم الخريطة وفجوة الأرض.
غزاة أليفون لأوهامنا، نمشي في خديعة سافرة جرجر الضباع

أجسادنا نحو الجب في وحشة الصحراء وسفن التيه،
من سيسعف صخرة النار.
قفطاناتكم القرمزية، رايات الوقت، تنقذون الماء من السكينة، وتكرعون نبيذ الهجوم لتفزع المدن المستسلمة بنواقيس أفراسكم الرشيقة، مدن تجرعت عارها هزيمة هزيمة.
تذهب عن القتال متدرعة بالتعاويذ ونصوص السقيفة،
مذعنة لرغبة الموت..
كأنها تموت.

47

تصد عنا الهوام منسولة من الكبح تتراكم مثل تمائم الوهم، نظنها الأوسمة، فإذا هي وشم أعضائنا الذاهلة.
سقيفة تتفاقم حول الأرض بعرس باذخ، نصدق سرادق الفضيحة منصوبة فوق الضحايا.
تنهض كل ليل من الكفن والمراقد الأبدية، تـقض شراشف أحلامنا واستسلام رؤانا جديرون ببشارة الشخص وحنين القرمز وشبق الكائنات.
تخرجون على خريطة الأرض، تخبطون مدنا أسلمت قيادها لأكثر الطغاة أناقة وتيها ومباهاة.
تصيرون بريد الفزع لأكثر الشعوب اطمئنانا لسجنها.

48

تسألنا الأرض عن عرس وعدنا به، فنتلعثم ونختلج.
أفواهنا مملوءة بالتراب، لا نعرف هل كنا نقبل الأرض كي تصفح عن سهونا وغفلة قلوبنا،أم كنا نكبت صرخات الذعر لفرط الحبسة.
ذهبنا إلى الساحة بوهم الأعداء، لنجد الأحباء في انتظارنا بالنصال المسنونة، لنسقط معا في احتضار طويل.
كنا ذريعتكم لارتداء أكثر القفطانات خجلا، نحن أحبابكم الخاطئون، نسمع نشيجكم ينبعث في صخرة مشتعلة،
مثل حمم تصعدون من الأقاصي وتقذفون بقناديلكم نيازك تبغت الغافل والنائم والمأخوذ والشريد والقاطن والمسافر. تبغت العبيد وهم يرفلون في حرياتهم المكبوتة.
صمت يخلع الأكباد من نواحها، ويفتن الأرض بأزهار القرمز الباهرة، صمت ينهر وهدة المـهد.

49

ليل..
كما لو أنه الليل كله.

50

كان عليه أن يؤثث دروبه بأشباح تتميز برهافة الريح،
حوذي يغتاظ لضراوة الغبار المثار حول مواقع خيله.
ما كان له أن يغفل عن رعشة الغريب. غريب سهر الليل كله يملأ الأفق أحلاما ومناديل.
بينه و بين الطريق بوصلة ثملة،
و أسرى مجللون بالبياض.


51

يا حوذينا الجميل،
إرفق بنا وصدقنا و لا تذهب عنا أكثر مما فعلت.
يا حوذينا الأرعن الجميل،
ليس ثمة سفيرة في انتظار خيولك غير هذه القلوب المرتعشة، تأكل منها الغربة و وحشة الطريق.
يا حوذينا ذو الاسم الباهر،
إرخ لخيولك قليلا، واصغ لزفيرنا المكتوم،
واغفر لنا كل ذلك الحب.

52

تقف النساء في الساحل، غارسات أطرافهن في الرمل، يرقبن معادن تطفو عارية، غير عابئة بنسلها المـهدور في الرمل. معادن ارتعشت منها الأوداج والفرائص في دكنة الليل،
دافقة ماءها، ليطلع النسل مثل السنابل.
نساء مأخوذات بالبحر وهو يأخذ الرجال.

53

واحدا واحدا
كل هذي الوجوه الصغيرة أعرفها،
واحدا واحدا
و الطيور الحبيسة مشحونة بالمرايا و موعودة بالصور،
تأمـل،
ستلمس غبطة أغصانها وهي تحنو على النهر مكتظة بالشجن، تأمـل،
لأكتافها خصلة سوف تبني عليها العناصر أحلامها،
و إن سال منها الدم المستثار،
تأمـل،
ستلمح فيها احتمالا و مستقبلا للنهار،
واحدا واحدا
كلما هيأ القتل و القيد أسطورة،
فـز في شمعدان الطفولة وقت الصلاة.
انتظر أيها الفارس الرخو،
هذي الوجوه الجميلة تعرفها
فانتظر.

54

يشهد الفضاء الشاسع لحظة امتثال،
تفسح للهيكل الهائل حدودا بعيدة، لكي يخرج من هيأة
و يدخل في هيأة،

لترى الأعالي كيف يصير اللحم والعظم و الجلد والحراشف والريش حديدا مطاطا،
كأن الموقد يصهر الأشياء كما يحلو له.
فتتفلت نحو رحم لا يتمخض و لا يجهض و لا يلد،
يرتـج لوقع جنازير المعدن الرديء،
مكتنزا ببشر لا يسعهم الوقت للكر،
يدفعهم المكان للفر.

55

كل هذا الهزيع الأخير من الوقت يدعى جنوبا و مستقبلا،
كله الآن يمتد مثل التراتيل
من مات قبل الطقوس له جنة،
و من لم يمت لا يموت.
في مهب النهارات يكبو على التل،
هذا
هو
الطين
تحت
العذاب.
انتظر أيها الفارس الرخو،
هدهد لأبنائك المترفين بأشلائهم،

56

علـهم يصبرون قليلا على الموت.
قل لأحجارهم :
إن هذا الهزيع الأخير من الوقت،
هذي الجهات الكثيرة محصورة في هزيع من الموت،
لو يصبرون قليلا عليه
... قليلا عليه.

57

كلما داعب الأصدقاء جراحي،
تماثلت للموت.

58

طاردني حرس الخالق منذ الكتاب الأول، منذ أروقة المكتبات المعتمة، منذ الغرف الموصدة،منذ أكثر المخلوقات جمالا وجهامة ومهاجمة، منذ الكرسي والمائدة،منذ الماء في مكانه،
منذ فبراير الثلجي،
منذ " آب " الأخير،
منذ الاستجواب المؤجل، منذ بنات آوى، منذ الأصدقاء،
منذ أقاصي امرأة في انتظارها، منذ باب المغامرة، منذ شهقة النهد والنمر ونعاس الآلهة، منذ شظايا القدم المذعورة، منذ النوم والموت والكوابيس، منذ القلب والقيامة، منذ شكل الكلام، منذ خدم العبيد، منذ الجنس في الخلايا، منذ الحديد والذهب، منذ غيظ الهذيان، منذ الوحيد و حده، منذ أن هذيت وانتهيت، منذ نالني الهوى ونلت ما بغيت.
طاردني الخالق والمخلوق، حتى وصلت منهك العضل،
فائض الجزع، واضعا جسدي في شرفة الشنق، مكتشفا أنني لم أذهب طوال هذا الليل أبعد من حياة مليئة باللبونات.

59

الخاسر..
لا يخسر شيئا .

60

ها أنت، مبذول لعبور الصواري، والقبر حصنك الأخير.
لست إلا فزاعة المدينة، ترى في الرمل المذعور جيوشا
تقودها نحو البحر. لتفتح الساحة أمام تجار يتماثلون
و بحارة ينسون حرية الأعماق،
فيصابون بخناق الماء.
مثلك لا يقف هكذا مذهولا مفتوح الجراح، شرفاته مباحة للغربان و أقداحه مسكونة بعناكب الكهوف.
مثلك يصلب في الصارية.

61

ذاهـب لـترجـمة الليـل.


62

ذاهب في وطأة الجب و عذاب القميص و جنة الذئب،
ما كان لك أن تبذل جسدك لمهب الحب الصارم،
مثلما يضع الفارس شغافه في شفرة السيف..
ويحلم بالنجاة.

63


كنت القدم العارية كنت شظية القلب الضاري كنت مسمار الباب مارقا زهرة الصدر كنت أسئلة الكهرباء كنت نحيب الأبجدية كنت ميراث الكتب كنت شظف الخبز في العائلة كنت الحديد فاضح الليل كنت عاج العفة تقية التجديف كنت الشهوة الخفيفة كنت التميمة وصمت الناس كنت الدمث كنت في وحش وفي أليف كنت النوم في هزيعه الأثير كنت أستجير من المخلب بالناب كنت أشعل قنديل البيت لئلا تطيش بغتة الصديق كنت أصقل الرسغين بمعدن الحرس كنت أستفز يقظة العدو كنت أدعـك الكعب بفرو الخيل كنت أفرز النحر لشفرة النصل كنت أمشي في لزج ومائع ومتهدل ورجراج كنت أضرم في هشيم وأحرث في ملح كنت أرفع قدمي من شرك وأضعها في فخ وأنتقل وأنداح وأتبادل وأتحول وأحتال وأنجو وأموت وأتعافى وأختلج وأفطس وأفترس وأفنى وأبوح وأنجرف وأخلد وأمرض وأتماثل وأبرأ وأتماهى وأتبـدى وأغمض وأتوضح وأتبذل وأتعفف وأفجر وأفتض وأفترع وأستفحل وأنتفض وأنتمي وأنفصل وأتقاطع وأعترض وأتحاجز وأنهار وأجرؤ وأخاف وأعوي وأستذئب وأألف وأنفر وأستفرد وأستجير وأبوح وأنوح وأنتحب وأصيح وأصرخ وأبكي وأهذي وأهذي وأضرب وأحترب وينال مني فأهتف وأنخطف وينال مني فأهذي وأهذي وينال مني أهذي وينال مني أهذي وينال مني وينال مني وينال ينال ينال

64

آن لكم أن تصعدوا بأبصاركم
أكثر فأكثر،
سهوب
أطلع منها في قطيع من الوعول
معلنا أنها انتقاماتي.


65

حوله عشرون غولا يتطاير من أطرافهم شرر عظيم
وبين أكتافهم تتهدل أسمال مضفورة
لتبدو رؤوسهم في أفاع مسدولة.

يفرك عينيه ويكرع كأسه الأخيرة
كأنها الأولى
فيكبو على وجهه في رغام رطب ينضح بسائل لزج
جسده يتعفر وينتفض ويشهق
ويضطرب في قهقهة العشرين غولا
تحيط به...
يهم أن... يتذكر...
يتذكر ... و ينسى.


66

في نزهة الضباع
ليل يتعثر بقفطانه المتخبخب ويكبو عند المنعطفات.
سمعت المرأة صرخة ولـدها الغريب
كأنها تلده الآن
رأتـه، في ما ترى الثاكل،
أعضاؤه تمر تحت آلة ضارية شلوا شلوا
وهو يمزق قمطه بصريخ يفزع البهو والأروقة.
تزيح خشب النافذة، حجر الطريق، عقابيل الغابة،
تزيح صخرة القبر
لنرى امرأة مصابة بالفـقد


67

أيها الموت..
يا حبيبي.


68


أنا، الوحيد الواقف في هاوية، أكتشف الآن بأني سهرت العمر أنسجها لخطواتي نأمة نأمة، زاعما أنني القوي المقاوم القادر على المجابهات. أنا المخلوق الأضعف بلا يقين ولا حجة كابرت مثل جبل يجهش في حضرة الغيم. كائن يقف فضيحة في قلب الكاهن. شهوة تـفتح النهاية وتأخذ يدي بحنان الجريمة وكسل الأفعى، لكي أسقط مثل عروس تفقد عفافها أمام الجموع في ساحة، وللناس دليل الدم.

69

أنا، قرين الوحشة، منتصف الهزيمة، قاع الوهم، جنس الندم، أسنان الأهتم، ولع البهيمة، طنافس الشيطان،جهامة العسس، هودج النوم، خسائر الليل، غنج الذبيحة،
أنا الجثة الذهبية محروسة بالهوام.
لدي من الحقد ما يكفي قطيعا من ذئاب الشهوة، ولكم أن تطلقوا دهشة الهجوم في أرجائي دون أن ينتابكم ضمير الآثم.
لكم حرية الأسلحة لكي تأخذ نصيبها مما يتبقى.


70

أنا، الخارج من صبر الناس الملطخ بالخطيئة معلنا أنني رسول الكلام. لم يبق سوى نهاية تليق.
أنا الوحيد الواقف وحده على شفير شاحب، ذهبت إليه منذ ذبالة الخيط البالي، متوهما أنه أول الغزل في وشاح العزلة، وضعت روحي في المهب.
قيل إن المجرات سوف تتذكر أهدابي. لكم بهجة القتل،
وأنتم تضعون نصال سكاكينكم في قلبي تـفـرون اللحم وتطالون العظم، فتطفر فضة روحي في وجوهكم لصلافة الفتوى.

71

أنا، الذئب الذاهب في ليل الملجأ، خديع الخبرة، شاغل النيران، مشعل الفتن، متعهد الهشيم، جامح الدم، متجهم القلب، خدين الشياطين.
ضبع يولغ دماء القتلى بأشفار مرتعشة شبقا وأنيابه تكزّ على عظم الجثة، كما يخلع نبي قميصه المهتوك.
جدير بكل ما تقدرون عليه من الفتك،
ولتكن حرياتكم راية الإنتقامات.

72

أنا، هدف القناصين، طاشت روحي بين أياديكم، تعفـون ولا يليق بكم. أنتم أعذار القتلى، خطاياكم أكثر من براءة الطفل. ليس لكم أن تبالغوا بيد ترتجف وهي في مقبض المعول المثلوم بصدأ عتيق كنبيذ فاض بي ولم يحتمل الصبر في نزيف يذبح الخلايا.
يوشك الليل أن يصير كفنا يرأف بالمتلعثم أمام الحب، المبتهج بنحيب المحتضرين، المتأرجف برهاب النصل من جهات جمـة.
آن السفر
آن السفر،
ولا رجوع.
لم يعد في الفضاء هواء لكي تأخذ الجثة شهقة.
ولتكن منكن الوصيفات لهودج الليل.
ولتكن منكن شديدات البأس،
ليأتي الحداد من الأقاصي.
ولتكن منكن النائحات يدفعن،بفرح دفين، جثمانا يذهب.

73

يعوي في السهوب :

سأذهب، لكي يعرفوا أنني جئت.

***

انتحاب

كنا نغني حول غربتنا الوحيدة
كالعذارى في انتحاب الليل.
كنا نترك النسيان يأخذنا على مهل
لئلا نفقد السلوى.. ونذكر..
أن عشاقا لنا كانوا هنا
واستأثروا بالفـقـد
سابونا على أوهامنا و تقلصوا عنا
و أهدونا إلى أسلافنا،
لو أنهم
لو أن عشاقا على ميزانهم مالوا قليلا
أو تمادوا في تغزلهم بعذراواتنا، أو بالغوا
لو أنهم جاءوا قبيل الماء،
أفشينا لهم أسرارنا،
كنا توضئنا لهم بالنرجس الناري
لو جاءت رسائلهم لنا كنا قرأنا سورة الرمان
سورنا بلادا بالتراتيل،
إنتخبنا بهجة أخرى،
وكنا زينة في الليل، كي لا تخطئ النيران
كي تغوي العذارى شهوة الأحلام
توقظ فتنة من نومها.

لو أنهم ماتوا قليلا قبلنا..
كنا تمهلنا قبيل الموت
أو كنا قـتلنا بعضنا،
كنا مكثنا في خطايانا
و أجلنا مكاشفة العدو لعله يعفو
و يذبحنا برفق
علنا نخفي عن الجيران شهقتنا
نكابر،
ننتحي في ركن خارطة و ننسى هجرة
و نغض طرفا عن منافينا و ننكر جرحنا
كنا تشنجنا على أكبادنا
كنا كتمنا،
لم نكابد غبطة العشاق
لم نفتح كتابا فاتنا في الحب
أو كنا قنعنا بالخسارة كلها
لو أنهم ..... *

مديح اليأس

لم تكن أخطاؤنا أغلى من الأبناء
كابرنا لكي نخفي هوانا عن معذبنا
مدحنا يأسنا، متنا
وسمينا اختلاج الروح تفسيرا،
تقمصنا الهواء.

لم تكن أخطاؤنا أغلى
تماهينا، شحذنا نعشنا،
وسمينا هوانا كاسر النسيان
أسرفنا و أرخينا مراثينا
لئلا يعرف القتلى طريق الموت
..ـ ــئلا تشفق الرؤيا على أخطائنا.
لم ينتخبنا سيـد، لا نغفر الأسماء،
لم نحضر دروس النحو،
لم نعرف مكانا آمنا للحب. *

جمرة الفقدان

ماذا سيبقى عندما تنهال جمرتنا الخفية في هواء الليل
ماذا يختفي فينا
وهذا ماؤنا الدموي يستعصي
وطير الروح ينتظر احتمالا واحدا للموت.

***

هل نـمشي على ليل الحرير لجنة تهوي
ونمدح بالمراثي،
ربما ينهار أسرانا على تذكارهم و نؤجل الأسلاف،
هل نمنا طويلا كي نجرب موتـنا
فينالنا، ... ويؤلف الأشياء ثانية.
فماذا ينتهي فينا ويبدأ
عندما تبقى بقايانا على باب المساء
وتصطفينا شهوة المكبوت
أو ماذا سنقرأ في المرايا
هل نؤثث سورة الفتوى بتفسير يكافؤنا على الأخطاء.
لو كنا عرفنا جمرة الفقدان
( وهي علامة الشكوى )
ستمدح موتنا.. متنا
لئلا ننثني شغفا
فنشهق في اندلاع الحب
يذبحنا ويلهو في شظايانا.

***

هنا وهم سينقذنا من الأحلام ،
نحن شهوة الفردوس
نهذي في جحيم غير مكتمل
لكي نسهو عن المكبوت و الرغبوت.
لو فيروز توقظ ماءنا ...
... كنا توضئنا لئلا ننتهي
يا منتهانا
هل سرى ترياقنا فينا
فأدركنا مرارتنا و أوشكنا على ندم
فقدنا منحنى أحلامنا في الوهم
قلنا شعرنا كي يفضح المعنى
ويغفر أجمل الأخطاء.

ولو قلب لنا أغفى على كراسة الأسماء،
لم تكمل أغانينا
بكينا حسرة وتماهت الذكرى مع النسيان،
أو كنا مـزجنا ليل قتلانا بماء النوم
لم نهمل قصائدنا على ماض لنا
متنا قليلا و انتهينا في البداية
لم نؤجل سرنا
كنا انتحرنا قبل قتلانا
و أخطأنا كما نهوى
فلا ماء سيرثينا و لا نار ستمدحنا.

***


جئ لنا واذهب إلينا

ذلك الباب الموارب
غير مكترث بوحشـتنا الغريبة
وهي تهتف في النوافذ و اصطخاب الروح.
يا الباب الموارب غير مكترث
تواضع بـرهة و ارأف و صدقنا قليلا،
أيها الباب الموارب غير مكترث بنا
اغفر لنا و اسأل وصادقنا قليلا.
هل تمادينا وبالـغنا بحبك كل هذا الليل
كي يأتي عليك الوقت تنسانا
و تبقى موصدا .
نغفو على أشلائنا،
نحن الذين انتابنا ماء العناق
وساعة الرؤيا
و أنت موارب،
قمصاننا مثقوبة و يداك في وحشية النسيان تمحونا.
لماذا وحدنا قمصاننا مثقوبة بالقلب
هل نهفو إليك و أنت في غيبوبة الرؤيا
ترانا دون أن تحنو علي ما ينتهي فينا.
أيها الباب الموارب
أيها المرصود و العشاق ينتظرون في بهو المسافة
قـل لنا واغضب علينا
و امتحن و اعصف بنا واشفق علينا
إنما لا تعتذر عنا أمام الناس
يا باب النجاة و منتهى أسرارنا
افتح لنا و انظر
و لا تغفل و لا تقسو علينا
أيها الباب الموارب..
جئ لنا.. و اذهب إلينا.*

 

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى