وجــوه

المقدمة

محمد البنكي

ثلاثة،

حيث الوجوه لا تحصى

( 1 )

وجه في حضور التجربة
كمن يتنافس في تشكيل ممكن الوجه
الوجه لون
الوجه إيقاع
وعلامة مقروءة.
ومن يتأمل كتاب الحضارة الأول، يجد الوجوه أمة من الأمم. وجه يخلو، وجه ينصك، وجه يبتغى به، وجه يتـقى به، وجه يتقلب في السماء، وجه يكب، وجه يقام، وجه يعنو، وجه يعمل، وجه يطمس، وجه يغشى بالليل، وجه يشوى، وجه يراد، وجه يقلب في النار، وجه يبقى، وجه يملأ المكان ويتفشى في فسحة الجهات.
هذا هو، بحق ما بيننا وبين كل (هذي الوجوه التي .. على مبعدة وعن كثب).
هذه وجوه تتحرك كشفرات داخلية في التجربة التي يقدمها الثلاثة. وهي شفرات غير إلزامية، كما يجب أن نضيف، إنها تقترح حقلا حيويا للتأويل، يرسم خطوطا ويؤسس التباسات، لكنه لا يفرض معنى يحد من نشاطنا في التفسير.
إننا نستلم (متقاطعة) الثلاثة خارج الموقف الذي ولدها، وهذا الاستلام وحده هو الذي يخولنا تأسيس المغامرة، بوصفها دلالة ينجزها كل منا لحساب وجوهه وكائناته وأشخاص سيرته الحميمة.

( 2 )

لا ينبغي اعتبار هذه "المتقاطعة" نصا يهيمن، ولا تشكيلا يولد، ولا موسيقى توألف. إنها فضاء فسيح لإطلاق الإشارات واللعب بها. فرضية يعود اختبارها إلى إمكان المتلقي. وبوسع أي منا ألا يقرأ في العمل سوى نص الوجوه، أو تشخيصها، أو إيقاعها، مادامت التقاطعات تعددية مفتوحة، تسمح بمضاعفة الدوال، ولا تهدي إلى دلالة أخيرة، لكن ذلك سيحجبنا - لو اقتصرنا عليه - عن هذيانية تتوارد في العمق المتموج للوجه الواحد، حين اشتباك الحركة الموقعة بغبرة اللون وتماهي الحرف.
سنتفادى، لذلك، خسارة إفقار هذه الوجوه من حواريتها، بدفعها نحو استعادة إنتاج أحادية الجانب. وسيكون من المغري أن نتلبس حالة إبراهيم بوسعد حين أوقفته الحيرة أمام قراءة القصيدة بذخيرة الرسام، أو محنة خالد الشيخ وهو يواجه اللوحة بذائقة الموسيقي، أو هذيان قاسم حداد مخفوراً بالورطة والألحان.
ما لا يداخل بين الحواس لا يعطينا إلا صفته،وإلا ظاهره. وأنت لا تستطيع أن تفترع الباطن إلا بإزاحة وردة المحسوس، والإفضاء إلى سرية الجواني الذي في الاحتمال.
والتأمل الفني، في أبسط صوره، هو الانخلاع من ربقة القيد قبل التأسيس على فكرة الحد والنمط والانفصال الأجناسي، الذي لا يبغي بعض خلطائه على المحيط الموهوم للخلطاء الآخرين.
أن تؤول، يعني أن تضع كل طاقاتك المودعة في برزخ التفرس و اليقظة والاستيضاح ومساءلة كل صبوة بسيطة نحو الإحالة والإرجاع. التأويل هو السكن في ليل المغزى، وأينما التفت فأنت في وجه مغزى.

( 3 )

في الحكاية التي يحكون، أن إبراهيم كان مشغوفا بخبيئة الوجه، يفاصحه، يعاركه، ويسبر ندوبه، ويستقرئ الأشخاص الذين مروا فيه واحدا واحدا. وأن محض صدفة محسوبة فقط، هي التي وطدت الذهاب المشترك، وجها بوجه، بين بوسعد وحداد، لكي ينضم إليهما خالد الشيخ.
يمكن أن حدادا كان يكْرز أعضاءه إلى "قبر قاسم" شلوا شلوا، لا يعرف إن كانت الوجوه وجهته أم أنها تذهب إليه. بدا السؤال حينها وجيها ومصروفا إلى لـب القمندة : من أين تبدأ ملامسة الوجه؟ هل نفترض للتقاطعات بداية؟ التقاطع، بطبيعته، ملامسة في المسار الممتد، ولا يكون التقاطع تقاطعا إلا إذا اجترح كهربائه في المنطقة عبر الأشياء.
من هذا المنطلق كفت شراكة الوجوه بين الشاعر والرسام عن عادة الأصل ومحجة البداية. ولو أننا حاولنا أن نتخرص كيف دخل الموسيقي إلى هذه العوالم الممسوسة، لقلنا، أغلب الظن، إنه خطف الخطْفة واسترق السمع، فانهالت عليه الوجوه من كل جانب.
وفي ما يشبه الخلاصة، هو أن هذه التداخلات لا يمكنها إلا أن تكون نكثا لخرافة الأصل، وسعيا جذريا ضد مفهوم المؤلف، وإعلانا لساعة التأويل ووجهة ماضية نحو المستقبل والمستقبل، (بالكسر والفتح). كسر المألوف الأليف، وفتح رأفة الباب، على أفواجنا المتمادية في محشر له جغرافيا الوجوه كلها ومجرة الأقنعة.
" أيتها الوجوه الصالحة للنار
أيتها الوجوه الصالحة للبرد
للحرمان والليل، للسب والضرب
أيتها الوجوه الصالحة لكل شئ
هاهو الخوف يحدق فيك،
ولسوف يصبح حماتك عبرة.
أجبروكم على دفع ثمن الخبز
ثمن السماء والأرض والماء والنوم
ثمن البؤس
قي حياتكم. (بول إيلوار)

( 4 )

لالتباس ما - له صفة الدوام - يتراءى لي إبراهيم بوسعد مهرولا أبدا برغبة القبض على إيقاع الزمن، في إيحائية الحرف الحافلة بلانهائية الحركة، وفي جسد الشهيد - ثيمة معرض كامل - الذي "يتعرض للفتك ولا يذهب"، وفي مضاعفة اللوحة عن طريق تقسيم فراغها وإضعاف مركزته البصرية بإضافة لوحات أخرى من الجانبين، مهيأة للتوالد الأفقي، عاملة على توزيع المساحة وتشطيرها كما في "عاشق" المعرض السنوي 96. هذا الاستغراق والرغبة في الامتداد الإيقاعي، يختفيان لشدة وضوحهما ويظهران لشدة خفائهما، في متتالية الوجوه التي أعدها بوسعد كي تتفرس في نفوسنا.
ومع أننا سنتذكر وجوه دومييه القبيحة ونستعيد بورتريهات رامبرانت المشوهة. وكذلك سنفعل برؤوس غويا وكوكوشكا وبروغل، وربما بوجوه مروان قصاب باشي وصلاح عناني أيضا، لكننا سنحتفظ لإبراهيم بوسعد بمعالجته الفنية الخاصة وحلوله الفراغية المستقلة، التي تتجه بالوجوه نحو إيهام درامي متحاور وثري.
وسأزعم هاهنا، بأن الفسحة التي يذرعها إبراهيم من التعبيرية الحادة في الوجوه، إلى التنزيهية أللامتناهية في تكرارات الثـلث، هي التي ستسدي للعبة الانتقالات أهميتها في بؤرة "المتقاطعة" بعد ذلك. فمسرى حركية العلامات ضمن هذا العمل ككل إنما يقوم، في وجه من وجوهه، على العبور من تشخيص التعبيرية إلى غنائية التجريد. وإبراهيم بوسعد يصغي لبوصلته في هذا الاتجاه بالقطع، فهو يجوز بنا مطورا معالجة هيكل الوجه، كلما ازداد الهيكل مأساوية غامت الملامح وانتقلنا من التمثيل إلى الإلماح. وكلما حدث ذلك، علا التناغم الداخلي، وهيمن على سحنة التكوينات. والمنظور الذي يوظفه بوسعد متخفف من صرامة الأبعاد، والتشريح متقشف، مرخي القبضة عما سوى الجوهري في خريطة الوجوه. لكن دخول الخط وكثافة تشاجره في سديم القماش سيؤول بالأعمال إلى تشريح فضائي أكثر إيغالا في تقسيم الفراغ، ينبهنا إلى مكر إبراهيم بنا، حين يناسخ الوجوه والكائنات في هياكل الحروف، فلا نرى في الألف إلا قامة عارية، وفي الثاء إلا جثمانا يتسجى، وفي العين إلا امرأة تحنو. إبراهيم بوسعد يمعن في طقوس المخيلة والإيهام، وعدته حروف مبرحة، تكتب الوجوه في جنائزية راعفة، لا تعود معها الإطارات، التي تضم السحنات، سوى نقاط ومفردات تربيعية غائرة، تذكر بوحدات قياس الخط العربي التي تنتثر وتضيء في شعوب الهامات الكامدة.
ولإبراهيم بوسعد، في عرضه شؤون، إذ يرخي سدول الستائر والسجف في محيطنا، مستبدلا حوامله المادية الطبيعية بقماشات عارية من الإطارات والحدود.

( 5 )

هاهنا ثمة استعادة، بنوع ما، لفن المخطوطة العربية. لقد تبدت إمارات عودة إلى مقترح القماش عند أكثر من فنان في العالم الراهن، منهم الفرنسي روجمون والجزائري رشيد القريشي والمغربي محمد بناني. إلا أننا عند النظر في الكيفية التي تعامل بها بوسعد مع القماشة المدلاة، لن نعدم من خصوصية تندس في هذه الأكفان الصهباء التي أدرجنا في طواياها على حين غرة.
لقد أتتْ هذه المعلقات بحواف مشغولة، وأخرى بتضاريس مشخصة دون أحجام، ترف وترفرف ويتخللها الهواء من كل جانب، لتتأرجح الأحداق المعلقة في وحشة تصفر فيها الريح. حركة الأحداق القماشية هذه ستتقابل مع حركة أحداقنا الرائية آنآ بآن. ودون شعور منا تقريبا. ألسنا نحدق إلى معلقات بوسعد عاليا، قبل أن نلوب بأبصارنا نحو المسقط الأسفل لكل عمل، خارج ما يمكن أن نعده مقترح عاداتنا البصرية المدربة في لوحة الحامل المألوف.
إن رفيف هذه المعلقات المكفنة، لن يتدخل في إدراك الشكل فحسب، لكنه سيضغط في اتجاه تأثير اللون أيضا. والوجه المكبب في تجربة النور واللون سيتغير تبعا لكمية الضوء التي تقع تحت ثقلها، وهي المتغيرة بفعل حركة الهواء، ها إن سحرا جديدا سيضاف إلى ألوان التربة والأكاسيد العكرة والجص المعفر، التي لم يعالجها إبراهيم بوسعد بهذه الشاكلة من قبل. إنها ألوان تتحدد من أصابع الفنان وجسده وقلبه خارج جاهزية الفرشاة وألوان الأنابيب وكيميائها المهندسة سلفا وبشكل مستريح.
كان إبراهيم يرسم /كان إبراهيم ينزف /كان إبراهيم أمة :
"لا تدعوني وحيدا مع كلماتي.
حاجتي كبيرة إلى صوركم
وإلى نوافذكم المفتوحة على الحركة
واللون ". ميشيل بيتور.

( 6 )

كان قاسم حداد في الحيلة على الحدود، حتى أنهم سمّوه (المحتال) ذات رواية.
الوجه في هذا القول أنه ما من تخوم إلا أحالها ملعبا، ما من جرح إلا فتحه مراحا. مثل عطر يؤجل كل استجواب ويؤججه. كان حداد يهاجر من وكنات القصيدة فيحل في مقترح الرسم، وعلى وكر القص، ويزيح عن ضوء الفوتغرافيا، ليحلق من جديد نحو دراما أو مقال أو موسيقى. لا هو إلى القيد ولا الظل متئد الأنفاس خلفه.
في (الوجوه)، يؤكد قاسم على أننا أمام حضور للذات في العالم لا في اللغة، عنيت العالم الواسع الحافل بالتواصل السميولوجي والحركة الحرة للإشارات، لا اللغة بمعناها اللساني الحاد والمحدود، والمنغلق على هويته العمياء. إن بحث قاسم حداد في اللغة / اللغات، هو بحث أنطولوجي، يرقى بالشعر إلى مستوى الفكر، في انكشافه على حقائق الكينونة والكائن.
الشعر هنا، كما يقول "هيدغر" (تسمية مؤسسة للوجود ولجوهر كل الأشياء، وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق ). من هذا الينبوع ينبثق نداء قاسم على الأشياء والفنون والمبدعين الآخرين، كما انبثق نداء (ميشيل بيتور) من قبله.
كتابة قاسم في هذا الانبثاق تقول وتعني بكل قوة وتدفق، وبكل مراوغات كتابة متطرفة، ولكن إذا شئنا أحد وجهي التأويل، فإنها لا تقول ولا تعني شيئا، لأن كينونتها قائمة في الحركة نحو الدلالة لا في نهائية المداليل. إنها البلاغة وقد نكصتْ عن وجه الشبه، وعن رابطة المطابقة، وعن نظام العقد الحلال بين طرفين لا تجمعهما سوى سلطة الأعراف القارة.

( 7 )

ربما اقترحتْ علينا، مثل هذه الكتابة، وجوه الشبهة بديلا لوجه الشبه، فربما من هذه الشرفة يمكننا استيعاب التخلي عن اللغة القطعية والإخبار متحقق الوقوع في الوصف التالي "كأنه يسمع، كأنه يرى " (مقطع رقم 30)، إذ يعوزنا أن نتساءل : من الذي يتحدث هنا ؟ أغلب الظن أنه ليس قاسم ولو بصورة غير مباشرة، وعلى الأرجح فهو ليس الراوي خصوصا، لأن السياق يدلل على راو عليم بخلاف ما تختلج به العبارة. إن التركيب :
(كأنه... كأنه) يوحي، في مستوى أول، بالشك في تحقق السمع وحصول المعاينة. ثم هو، في مستوى ثان، يعبر عما يمكن أن ينبس به عنصر جديد ليس هو الشاعر ولا الراوي، وإنما هو القارئ الذي يتم تشفير صوته ضمن تعددية الأصوات المتداخلة في النص، فاتحة الدلالة على أشكال المؤجل والمظنون والممكن الوقوع.
مماثلات هذا التركيب، من حيث الوظيفة، كثيرة في النص، فالسؤال في المقاطع الثلاثة الأولى، ( غابة أم بشرْ ؟/ هل أنا في الحرف الأول، في الكلمة الأخيرة ؟/ كيف أقول ؟). والرواية بصيغة التمريض : قيل، كما، الترائي، الوهم، والتماري وانحسار البصيرة وبطلان مفعول الكلام ( م 11)، وصياغات التعريف بالنفي : لا كذا.. ولا كذا.. (م 16)، والدعوة إلى التشبث
بالغموض وعدم التوضيح ( م 20)، والتصريح بعدم نهاية النص ( م 37 )، و " ليل كما لو أنه الليل كله" ( م 49 )، و الحديث المتكرر عن الهذيان والنسيان والأسرار والفقد والإخفاء.. إلى آخره. كلها عناصر تضاعف من حضور الاحتمال والإرجاء وتوسيع لعب الدال.
ها هنا، بالتحديد، بعض مما يقترحه النص على "متقاطعة" الوجوه، في حركة الإشارات الحرة المدفوعة إلى الأوج. مساهمة الشاعر في هذه البرهة، ستعلق مثل شرارة بنغمة الموسيقي أو بتكوين الرسام، فتعمل فيهما تفجيرا وإعادة تنظيم لوجه الحياة من جديد.

( 8 )

وبمجرد أن يغرر خالد الشيخ بقاسم، فيدعوه إلى شفاهة نصوص منذورة للكتابة، مزهزها لضعف لا يبرأ منه الشاعر : لذة الكشف، فإن حداد سيدخل التجربة مغتبطا محملقا فيما يأخذ طريقه إلى حيوات جديدة.
للنص فتنته وتوتره ومقترحاته، غير أن خالد وقاسم، انقيادا إلى نجاة أقل، توغلا فيه حد الشغاف : أن يستخرجا النسب الجينالوجي للصوت في الأغوار، وهو ما يكفل غاية باهظة : ليس أقل من سياسة جديدة للإيقاع في النص المكتوب، ليس أدنى من كتابة ننصت لها دون أن تقع في مرمى البصر، هذا هو ما يمتحننا به تقاطع الكلمة باللحن، إذ يطرح السؤال الذي لا يهدأ : ماذا لو لم تكن الشفاهة هي ماضي النص فقط ؟
على امتداد العمل الغنائي المصاحب سيتداخل الأداء الشعري الحي بالجمل اللحنية والكلام المنغـم. في هذا النسيج وحده جدارة قمينة بالتأمل الحقيقي. لكن إشارة قاصرة كهذه، لن تكفي لتفسير كل ما لا يناله إلا التماس المباشر بين قلب المتلقي وألغام العمل الفني الفاتكة.

( 9 )

سيحمل لنا خالد الشيخ وهج تهلكة جديدة حين لا يشككنا في الفارق بين الشفهي والمكتوب فحسب، وإنما ينقل الريبة بالحد إلى التعارض الفردي / الجماعي، الذات/ الجوقة. الأنثوي / الفحولة، الميلودي / المصاحبات. إن كل استراتيجية تبقي على إطلاق الثنائيات الضدية هي استراتيجية تقليدية لا أثر لها في هذه التجربة. من هنا ضرورة التمييز بين مجمل السياق السابق لتجارب الثلاثة، ومغامرتهم الأخيرة، التي لا تحقق أحدهم بمعزل عن الامتلاء بالآخرين.
كيف يمكن دوزنة هذا الجمع لكي ينصاع لشاشتنا العصية ؟
بهذا السؤال غير الواثق، بالذهاب إلى ما هو أكثر من التساؤل، سيدعونا هذا المعرض، من بين وسوسات عديدة، إلى إعطاء الآخر حق الحب في صميمتنا، مأوى الوجه ومستودع عوائه.
متحدثا عن نار أحطابه المضرمة، قال نص قديم :
لا أعرف إن كانت الوجوه تحملني أم أنني حمال الوجوه ؟***

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى