الجواشن

الطبعة الأولى - 1989
دار توبقال للنشر - المغرب
الغلاف رشيد القريشي
عدد الصفحات 177

 

العاصمة الثالثة

في المنفى ابتدأت الخليقة

1

برصانة انتشر الملاّحون في أروقة العاصفة رافعين بوصلاتهم ومراصدهم المبلّلة بالمغامرة غير آبهين للجزر الاستوائية التي ترشقهم بالأناناس وجوز الهند، فيما كان الباز - ربّان الغيم - يشك بمنقاره المعدني فراغ الريح ويدلّ السفن المترنحة زهواً إلى قارات ليست موطوءة.

سفن تحسن الجدال، تتقن لغة العاصفة، تقدّر صداقة الموج رغم تقلّبات روحه. وبينما أسماك القرش البيضاء، المتحصّنة وراء حطام أخطبوط عملاق، تصغي منبهرة إلى هذا الحوار الذي لا تنقصه الصراحة ولا يخلو من طرافة، كان برابرة أشدّاء يخوضون طفولة الماء، قادمين من كهوف بعيدة، وهم يجرّون قرى صغيرة منهوبة ليؤسسوا بها ممالك للذهب، كانوا يطلقون من سواعدهم العامرة حلم امتلاك العالم، وكانت أناشيدهم الغامضة تزداد سعاراً كلما حاذوا مجتمعاً آيلاً تتناحر فيه الطبقات.

ثمة جزيرة عامرة بالغزلان وأشجار الموز، في ضفتها تسكن العاهرات الزاهدات في الجنس اللائي يعطين دروساً في الكيمياء وعلم الفلك، وفي الضفة الأخرى يقف تجار الخشب والعطور والأقمشة الذين اعتادوا المراهنة على تحولات البحر وهم يرصدون بالساعات الرملية احتضار العاصفة كي ينقلوا بضائعهم إلى أقطار مجاورة لم تتعلم بعد المقايضة.

في هذه الجزيرة تحتشد التناقضات ولا تتجانس العناصر. الزرافة تنتسب إلى الكواسر، الثعبان يلوذ بالحكمة ويتنسّك، المرأة تغيّر جنسها والطفل يعبر الرجولة لحظة يشاء ويحدث للرجل أن يوحّد في ذاته الذكورة والأنوثة. كلٌ ينتحل وجه الآخر ومهنة الآخر. حتى الفصول، المشهورة بالدقة والاتزان، لا تنتظم في مدار واحد تحت طقس جامع فقد سائسه الذي امتهن التسوّل. أيضاً تقدر الجزيرة أن تتنكر في هيئة ضباب أو قوقعة، أن تنقل آبارها وأشجارها من مكان إلى آخر، أن تسفح مرتفعاتها وتكوّر أريافها، أن تتظاهر بالشجاعة أو الجنون. تفعل كل ذلك من أجل حماية نفسها من القراصنة المجنّحين الذين يتربصون بها من كل ناحية، ولم تعلم أنهم قد رحلوا منذ زمن مع الجغرافيين إلى أصقاع نائية لم تُكتشف كنوزها بعد.

رحلوا مع دعاباتهم الفياضة ومشاعرهم النبيلة حاملين القليل من الزاد الكثير من وجع الغياب، غابوا مثلما غاب أجدادهم في خرائط الليل عاقدين البسالة حول أرساغهم خائضين عزلة الدم، يرنون بفيض من الشوق إلى وميض مرافئ كانت فيما مضى تزفّ لهم الأنخاب بسخاء وتضمّد دموعهم الخجولة يجرّحهم التشرد.

سيمرّ وقت طويل قبل أن تدرك الجزر مدى رهافة عواطفهم ونبالة مواقفهم. كان ينبغي أن تحبهم وتحسن ضيافة حضورهم بدلاً من رجمهم بالعداوة وسوء الفهم.

هكذا تعود الأساطيل من لجّ إلى لجّ بحثاً عن مخبأ قرصان، وفي مهب القصف تعدو اليابسة صوب النهرِ والنهرُ صوب اليابسة.
وثمة زنجيات موشومات بالعرافة عابقات بالسوسن يتزاحمن عند مدخل الغابة التي تئن كلما تصارعت الثيران البريّة. كن قد خلعن هالات الديانة وخرجن بلا احتشام من صومعة الكاهن الأكبر بعد أن دنّسنَ المعبد ولطّخن الشعائر بالبول والحيض وهنّ يهلّلن للانشقاقات.
مبدعاتُ أساطير. والغابة لا تحقق كمالها ولا تكتسب سحرها إلاّ بحضور الزنجيات اللواتي غسلن نهودهن بشحم فهود رقطاء.

في الغابة المغمورة ببياض الحكايات :
كان الغُريرْ يتأمل انخطاف السماء حين يدغدغها الريش فتكتحل بسعف الليل.
الكرة الأرضية تتدوّم على قرن جاموس يمضغ إسطبلاً. الوشق المغرم بالاغتيال يستعير شقرة البحيرة ويلعق مرآة أنثاه. الزنجية تمتدح أمومة القمر وتستخرج من سرّتها حواة وأميرات وأسواقاً شعبية.
الثيران البرية تدشّن حلبات مغبرّة مرصوفة بالدويّ.
واليحامير الفسفورية - المسترخية في محميّات ليفية - ترقب كل هذا، ترقب مختلجةً شتاء الغابة وتتمتم :

الحلم ربيع الأشياء، طفولة الأمس

ثمة حيوانات ستنقرض. لكن الطبيعة كانت مكتنزة بالتكهنات. ليس شاذاً أن ينبثق من الخنشار نهار مبرقش يرشح توابل، تتبعه ثعالب أنيقة تحاصر الأرض بالحقب الجليدية على الثلج دم لبوءة تحلم في خيلاء. شلالات تتدلى على كتف جبل يشق المدى بخطواته الواسعة. كوكب يفتح حقيبته فتنسكب منها النيازك المرحة.
كان العالم كله مرشوشاً بالسِحر.

2

يوم قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو
ابتدأت الخليقة
في المنفى

وأنت، يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الدخان،
أما شبعت موتاً ؟
أما اكتفيت تجوالاً من حانة تقرض ببطء عنان ذاكرتك، إلى ميناء يصادر رسائلك ويرجمك بالحقائب، إلى غرفة ترفع فيها قبضتك مهدّداً ثم تخرّ باكياً كل مساء ؟
أما اندثرت
أبسط لنا صدرك الرخو، يا متخماً بالوحدة، لننبش وشم التجربة ونستجلي :
غياهب أيامك
حاضر الحلم
ألغاز السفر

ماذا صنعت بدم الغربة يا غريب ؟

كنت أقرع الضاحية الرطبة، شبه المهجورة، بكعب حذائي فيما أستنشق مخموراً تعرّجات المسافة، كائنات ليلية تتسلل زاحفة من الفوهات لتحرق الغفوة وتسعّر الجلبة. رذاذ ينقر رخام الحي الشعبي ويتجمهر في الأفاريز. عازف كمان، مصاب بالربو، ينشج على الرصيف. امرأة تخرج رأسها من النافذة وتغسل شعرها بزبد ضباب أسود، وكانت أصوات خافتة، لمحادثة مبهمة، تتبعثر في زاوية مقهى بعيد بينما في الناحية الأخرى من الحديقة المحبوكة بالضوء يتوارى أطفال خلف سنديانة مترصدين كهلاً يروّض الحمام بفتات خبز.
كانت الطرقات المتورّمة تزمجر تحت خطواتي. خبأت القشعريرة تحت ياقتي واحتميت بجدران كانت ترخي أسمالها المكسوة بالملصقات وتدفعني نحو عتمة تتحرش بي كلما توغلت في خميرة الليل. عند المنعطف كلاب تنهش ذراع متشرد فاقد الوعي. بين الأزقة سكاكين ناتئة تغتال أنحائي دونما شفقة. أجفلت، أسلمت لهاثي لركض قادني إلى بناية متداعية ارتقيت سلالمها قفزاً حتى ألفيت نفسي وسط غرفة موبوءة بالضغينة راحت تمضغ أطرافي كالهشيم فعرفت أني سوف أتشتت خلية خلية وأن العالم سوف يتهشم في أحداقي.

أول الطفولة
باب يجنّحني، أحلّ وثاق الثدي السخيّ فيرفعني الفطام إلى ومضٍ استحم فيه مقمّطاً بالبهجة، وخلسة تزدحم فيّ الشقاوة فأرسو مانحاً ضجيجي لغة اللعب والمشاكسة. تلك اللغة المشاعة بين أقران يتأرجحون كالعناقيد في لبّ الأفق وفي مصبّ النهار يتخاطف غضارتهم الزحام وخبث الباعة.
كنا نجمع الصدقات والقطط الصغيرة عند عتبات المساجد. نسمي الشارع ميدان حرب والحوانيت البخيلة نبيحها للسطو. بالحصاة نمتحن فتوّة الخصوم. أما الأكثر مهارة في رمي السحالي فينتخب حارساً للحصون المشيدة من الخيزران والمستخدمة كمخابئ للمعادن والأسلاك والدواجن المسروقة.
وما كان المؤذن الأعشى، القيّم على تلقين القرآن، يقدر أن يصدّ شياطين الغزو عن اقتحام داره مساءً وسرقة سراويل امرأته التي كانت، عندما تجلس لتغسل الثياب، تباعد ما بين ساقيها كاشفة عن فخذين ممتلئتين بينهما نلمح عشاً أسود يلمع بفعل قطرات فضيّة لا نعرف مصدرها، وكنا في خضمّ المشهد نجهد في كبح القهقهة المدويّة سراً ونلوي أعناقنا صوب آيات مرتعشة بين فكّي بعلها الذي يخيط كلام الله في رؤوسنا ويمجّد العقاب.
بأقدامنا الصغيرة، الحافية كالعراء، نحشد الطرقات في محاجر الضحى، ونلهب ظهورها ببراءة الشر، نرهب بالبغضاء ابن التاجر، نطلق في أرجاء الطوب هدير الخلخلة.

لم يخطر لي. أنا الذي يحشو جيوبه بأعراف ديوك ميتة ويرشو الريح بالمصاهرة، أن الأرغفة مختومة بالدم. و إني سهواً دخلت

أول النمو
وعلى غفلة شبّ فيّ وتد الذكورة.
الملامح الغضّة، العصيّة، طفقت تتأوّد في اليقظة الشبقية حيث النهد نهر والإبط فضاء تسرح فيه فحولة التخيل. ما من أريج، ما من حفيف شفتين نابضتين بالاشتهاء، إلاّ وكان مدّخراً لسرير الوهم.
مضغتُ قات الجنس وحولي ستائر مسدلة على نساء يغرفن من موسم القطاف أنين المعاشرة. أذكر حمرة الكحول في سهرة الهباء وأين زحفت زحف الثمل في سندس النكاح باحثاً عن أعشاش سوداء تتلألأ بالقطرات الفضية تحت غلالة جسد الحنطة، لكن طوّحني الظمأ إلى سُلّ المواخير حيث الدهاليز اللولبية تتجشأ هياكل عجافاً تتداخل في عتمة الزوايا منخورة بالاغتصاب ولها طعم المستنقع.
وكنت قد راهنت روحي أن أظل بمنآى عن المعصية وجنون الاضطهاد، غير أن الذنب راح يتسرطن في أعضائي فقلت : يا رب، خلصني، وكانت الشوارع وقتذاك تندلع بالهتافات وخراطيم المياه تلاحق اللافتات من بيت إلى بيت، نفّضت جلبابي واعتليت سنام مظاهرة سلمية أخطب هاذياً في جمعٍ هاذٍ لا يفقه أقوالي الثورية، وأذكر أن حزبياً ضليعاً في النظرية والممارسة قد وبّخني لجهلي بالأصول الثورية والأبجدية النضالية، فخجلت ومضيت أقذف المحلات التجارية بالروث.

أول العشق
حفيف بالغ الطراوة لفتاة تمشط النهار بأجفان كقوس قزح، تدغدغ الضوء بضوء محيّاها خطاها المخملية تبحر بي إلى مدى يشرنقني بالوعود وينذر لي مفخرة النقاء.
كنت أمشي، أنا الغارق في سهرة الحلم، خلف أساور الجميلة متمادياً في العشق، مالئاً كراريس الحب ثمار اللهفة.
عذبة كالهمس، باسمة كالاحتفال.
الليل المراهق كان يرصّع الشرفة بحضورها الحريري، وإذ يميل جذعها القرنفلي معرّشاً أرق الحارة، تلتهب أصداغ الساحة المهملة ويكتنفني الوله المعذّب بين زيزان السهر شاخصاً إلى شرود أنيق يظلل عينيها المسافرتين معاً في أشكال الحدس.
ظهراً، تتفيأ زرقة الأنوثة فيما يحرس النخل تورّد ثغرها في بشرة الجدول.

هلاّ أفسحتم، يا جيران القيلولة ويا أشباه الثرثرة، ألياف النسيم كي تمرّ حبيبتي نحو عرشي. فسحة ضيقة من أجلي كي أمرّ للقاء الموعود لقلبي.
حبّذا تباغتني الحبيبة بالحب. تبسط لي العلامة المذهّبة، مثل ملاءة، لأتقدم رحباً صوب حنان ذراعيها حاملاً سبائك الحصاد مكلّلاً بالينابيع. كان يكفي هذا لأضم الأحياء بين جوانحي وأصنع من عجين الصباح أعياداً يومية.

وحين جازفتُ بالمثول أمامها مرتجفاً، أشرح إرتباكاً، أشاحت ممتعضة ومن أظافرها طفر النفور. رأيتها فيما بعد تخاصر شاباً بالغ الميوعة يتناغيان كحيوانين مريضين.
من قال أن هذا الحولاء مفخرة النقاء وأميرة القمر ؟ تدرج مثل البطة ومن صدرها تنتأ لوزتان تسميهما نهدين. حتى أن جمالها غير ملفت. ليس عن حقد أقول هذا، ولا لأني مخذول، إنما هي لحظة سطوع الحقيقة الموطوءة، من منكم لم يستر عاهات حبيبته بعبارات الإطراء ولم يعتبرها الأجمل والأنبل في كون النساء ؟

غير أني تجزّأتُ، حوّمتُ بعضي فوق بعضي، وانسكبتُ مسفوعاً بالخيبة والإهانة نحو حضيض المكتبات العامة أقرأ بنهم عصارة البشر.

أول الشك
مغارة تشرّح اليقين بمبضع التناقض. قادني الجدل المحظور إلى المتاهة المحظورة. هزّني الوجل بادئ الأمر، ولما انتفض اليقين داخل هيئتي، جدّفت في بئر القداسة هادماً أيقونات العصور مسمياً الطاعة رجساً والكتاب أفيوناً. كل الرموز باتت مهدورة للبصاق : وحي الدجل، علم الإرهاب، ختم الطبقة، شارة الطائفة، لبن العائلة، مبولة النُصُب.

أشهرت ارتيابي ووسمت المسارب بوسم السيول، لوائي قوارض الفولاذ. لذّ لي أن أحاكي الأرباب في صياغة عالم عادل تزهو به الأمم. قبر للجيفة الأرستقراطية. نبع لفقراء الصفيح.
وكنت أحسب أني المؤهل لعبء الانقلاب. هكذا حملت راية الفداء وأومأت للجهاد أن يلبسني، ثم مضيت أنتقي حزباً متزمتاً يعلمني الطهارة الثورية. فهمتُ أن المضاجعة إذلال للمرأة، وأن التنزّه إهدار للطاقة، وأن الاستحمام يومياً عادة بورجوازية، وأن بائعة الفول الخرساء يمكن أن تكون مخبرة إذا نظرت إليك بتفحص وإمعان.

أول الانكسار
سجن يشلّ الفراغ يصادر المسافة، غياب مجاني. الأسماء الحركية، الملغومة بالخيانة، جاءت دفعة واحدة لتحتل كراسي الاعتراف. صعدت الوشاية إلى هرم المهزلة، فتموكبت الخلايا السريّة مطوّقة بالذهول في أقبية السوط المجدول.
تخوزقتُ هازئاً بالقيادة الرشيدة. تحت شجرة نبقْ وحيدة، وسط فناء مبطّن بالقضبان والزواحف، أرخينا أوشحة الأخطاء وتبادلنا الاتهام، حداد الأهل، مباهاة الأصدقاء في الخارج.
كم اشتقنا، كم تأقلمنا، وكم اخترقنا الجدار بإغماضة عين. حلمتُ أني محارب من قش أوجّه المنجنيق نحوي وافتح ثغرة في العنق بحجم دالية منها يتسلل أسرى الوهم هاتفين للوهم بينما يهدرون أغلالهم في زرائب قاحلة.
وكنت أتشتت كالتبغ في شرانق الرثاء.
اعتليت سوسنة التيه معتذراً لجمهور كان يحتشد محدودباً في حضيض المسرح يرحّب بالقباقيب مسيرة وزراء مكلّلين بحبر المفاوضات، تحت عباءاتهم المذهّبة تتدشّن مرابط الأحلاف.
طاب مساؤك
يا اندحارات
يا كتباً تتدجّن تحت أختام المحرّمات
يا فتيات يهبطن من الملاّحات بأفخاذ مريّشة وينثرن التوابل في فم الفحل
يا البراءة القاتلة
يا قمراً يسرد إباحيته في عين عاشق لا يبصر داخل المدى غير حلم فاحش ينزلق من ثديٍ ليخلب قلب مذنّبات تتطاير اهتياجا
يا طرقات مدّخرة للتناحر
يا نواطير مزنّرين بالمهابة تحتدم أسفل أظافرهم الرعدةُ إذ يجادلهم الصقيع فيلتجئون إلى عوسج يرشوهم بالدفء تاركين الساحات مفتوحة أمام عبور المخازن المهرّبة
يا الرغبات المنكوثة
يا جمهور المستعمرات
يا نساءاً مشجّرات بالخصوبة يحلجن الأرحام فيما يصخن للجارات العواقر وهن يرسلن الفحيح الجهوري إلى محراب الشفاعة
يا قططاً تخلع جلودها تحت ليلكة ومن المدخنة تشنّ الغارة الانتحارية على بيت يحاصره الضباب
يا مروّض الأرداف الجامحة
يا حضانة التعب
يا بكاء الأمهات في أرياف الحنين آن يضرّجهن الفقْد
يا صديقاً يضرم براعم اليأس في قلبه وبعناية فائقة يفقأ روحه هاتفاً للقصيدة
يا كهولة الحزن
يا رفاقاً سمر الوجوه غابوا في الطفولة بلا رجعة
يا لقطاء التخوم السائرين تحت القناطر المهمومة ملطخين بنثار ليلٍ يلاطف شعر النجمة الوحيدة
يا الخيانات المبجّلة
يا مدينة تخون شعبها في مسرّات الأمراء
يا صديقة أحلى من نبيذ الياسمين تهدهد جراحي بعسل الهمس وفي لمحةٍ تدخلني بنفسجة الطمأنينة كي ألتئم
يا المعمّرات اللواتي يمسكن تلابيب الزمن العجول وفي دلاء الحليب يأسرن أرواحاً شابة كنّ ينتسبن إليها أوان تورّد الوجنات
يا أقارب السهر وورثة الحب
يا أمومة الريح
يا صلاة تتخثر بين مآذن الرخام ومحبرة الفقهاء
يا وجهاء يخضّبون أكتافهم بالرياء وفي الصباحات يقيسون مع وطاويطهم حدود الملكية
يا بياض الأبوّة
يا موجة تدحرج العربات القطنية المكتظة بالفلكيين
يا ضجعة المومس العرجاء التي تغوي الفتيان بوجهها المستعار ثم تمضي آخر الليل نائحة وسط خرائب البوم
يا الخليج الآفل بنفطه ومائه
يا مآتم تخترع المعجزات وبمجانية تزهق الدم في مسارب المواكب
يا خطيئة الأشجار حين تفضّ شفافية القطا
يا العبودية في زيّ مهنة تختزل أبعادي
يا فاشية الجسد والمبدأ
يا من يجتاز ليونة المنابر ويرفو المحارم بسهام الطيش
يا ورّاقين ينحتون المخطوطات برموز الحضارات البائدة
يا الكتابة الآثمة
يا الغيبوبة
يا أنا الذي يراودني الانتحار كلما لمحتُ بطرْفٍ طفلاً يضحك

طاب مساؤك
يا بلاداً تبعثر أشلائي في مسالك المنافي

أول الغربة
زورق مترع بالذنوب، طحالب صمغية تتفصّد من حولي وتسوّر أنسامي، منارة مزخرفة بالزعانف ترميني بأمعاء قرش.
أبحرتُ ممتشقاً لجام الموانئ الغريبة، ممتقعاً مثل غُرنوق تلاحقه جمرات الرجم من خليجٍ إلى خليج.
أبحرت بلا خطيئة، وبلا حكمة، زادي حلم معطوب. أسلمت دفّتي لاخضرار الرياح المعطّرة بالمصادفات المضيئة. كان البحر خالياً من حظائر الصيادين ومن تلك البواخر التي تشق أصداغ حيتان غافية، كان وقتذاك يلمّع دروع الفيضان الرابض كنسر ملكي يرقب عن كثب جسراً شُيِّد حديثاً.
وإذ أمخر غشاء مصبّاته. يلتفت إليّ ويسميني هازئاً !

وريث الكآبة.
حاذيتُ جزيرة شوكية، شحيحة كالصدفة، يتسلق جبلها الوحيد مماليك متشحين ببيارق التضحية حاملين القرب وسلال التوت، وفي حسرةٍ يتأملون السلالة الأخيرة من الأباطرة، المفقوءة ذاكرتهم، وهم يجسّون الماء بالعكاكيز بحثاً عن وطنٍ له رائحة فراشة وشعبٍ ليس مدهوناً بالعصيان.
رأيت الأرقاء عند سفح الأرخبيل يشعلون ثياب القساوسة وبمناجلهم الرشيقة يطلقون زوبعة التضاريس.
رأيت القارات الرخامية في مرآة المحيط تتعرّى وتغتسل بسنابل من ضوء.

قلت هي الرؤيا الأخيرة

ولما بلغتُ مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم، وسوف يحضر شرطي عنصري ليحملني بين ذراعيه الرحيمتين، وسوف أكون جثة مجهولة الهوية في مشرحة عتيقة، وسوف أفتح عيني، وأحلم بشخص غامض يطل في وجهي فيتعرّف عليّ ويعانقني منتحباً، وسوف يجنّحني لأعود إلى بلادي التي أهرب منها ثانية فأبحر صوب شطآن لا تصون رؤاي، وسوف أصل مرفأ الشقراوات اللواتي يتجمهرن حولي يلثمن أنحائي ويبللن صدري بالدمع، وسوف يأخذنني إلى حدائق فيروزية محروسة بأزهار اللوتس حيث أضطجع في مخدع من الدقيق فتجثو أمامي الأكثر طراوة وتمرّغ وجهها الأخضر في راحتي التي تشفّ عن مهرة حزينة وطواحين مرصّعة بالفتن، وسوف أتمتم منتفضاً : ها إني أحلم براهبات مصلوبات في حقل القصب وآلهة من لبن يعجنون الذهب لرُسُل أوفدتهم العصور الحجرية كي يرضعوا موهبة الأسلحة فيما يخوض الموتى مستنقع البرْديّ ملطخين الجداريات المقدسة بأحشاء خنزير بريّ،

وسوف يجهشن مضرّجات بالحنان : الحلم ظل للأشياء التي لا تُرى، ونحن الفانيات -إذ نمسح الحضارات المحنّطة بغاز الميثان -نجمّل لك الوجود ونسفح لك هباتنا من حليّ وسراويل،

وسوف ألمح الدرّاق يطل ذاهلاً على جمع غفير من المستحمين في زئبق الشارع مقلين صوت الدم، وسوف أحمل حرية القول كالدلو فأرش المنتزه بمظاهرة والضواحي الفقيرة باحتجاج ثم أجوب يقظة المساء متسولاً لحظة جنس من بائعة أجنبية تغزل متعة المخادع، وسوف أحكي لها عن حضارتي العريقة اللمّاعة مثل النفط وعن الفتوحات التناسلية المبرمجة في تاريخي، وسوف تضحك ملء شدقيها وأنا ألج وَجْرها القاتم الملقّح بالغراء ولن تهدأ حتى تحشو حلقي بريش الوسادة وتزرقّ أطرافي من الاختناق،

وفي موتي شممت حضور أبي الجليل الواقف على شفرة الماء، ففتحت عينيّ ومشيت إليه مستعيناً بأطياب الأبوّة. قبّلت غرّته وقلت : يا أبي، خلصني.. فاحتواني بذراعيه الشاسعتين وأسكنني مرعى كهولته، حينذاك مضينا عائمين في منتجع الهواء نتحدث همساً - كي لا تسمعنا القوارب - عن شؤون الكيمياء وأحوال الصلاة. ولوهلة شعرت بهاوية تنتصب بيننا و إني منفرد في فراغ الأحابيل، وحين التفت شاهدت أبي يترامى مثل فضاء ليس له حد تاركاً لي رائحة عالم في طور الاحتراق.

كم أذهلتني تلك اليقظة الخارقة ! كم باغتتني جرأتي في اجتياز الغابة القرمزية المكسوة بالمانجا والببغاوات الطينية لأشهد إبادة التماسيح على أيدي صيادين محنّكين يخضّبون عضلاتهم المفتولة بمعجون المجازفة، هكذا أصادف الهنود الحمر في زوابع الطريدة يطلقون النبوءات بنبال التجربة كما لو أنها إشارات غامضة تعبر السنوات الضوئية في لمحة، كذلك الغواصين الموءودين تحت أغلفة الأصداف وهم ينبشون أكباد المحارات ملتمسين شفاعة اللؤلؤ، بينما في الجوار تعسكر السفن الغارقة التي يصطخب بداخلها عراك الأسماك، وأيضاً جباة التمور الذين يعاينون مراقد النخيل كل صباح وحين لا يعثرون على الجزية يعلنون بصفاقة اختلال الجاذبية، وأخيراً أولئك القادة المطلية أنوفهم بأمارات الشهامة إذ ينحنون بتواضع أمام الأسرى قبل أن يبقروا بطونهم ويستبدلوا الأحشاء بالأعلاف.

لكنني، لما بلغت مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم،

عرفت أني خاتم المهزلة
وبي يختتم العالم هلاكه

3

وتنظر، مثل نسّاج معتزل، إلى فصيلة الهزائم تتوافد تباعاً بأسمالها الدامية وتواريخها الميتة لتعبر مضيق سورك المغلول بالأقفال. تنظر إليها بقلب ضجر خانته الأمكنة منذ زمن، ضيّعت الإبر الفضّية ذات النصال المجدولة، وأنك تقمّصت التعب والكآبة.

ها أنت تهبط، مكابراً، سلالم العزلة. تفتح الباب الذي لم يُفتح إلاّ على ضربات مرسوم جمهوري أو ختان ملكي، وتأخذ الهزائم كالجراء بين ذراعيك تهدهدها، ترضعها، تخترع لها النقوش والحرائر، ثم تضعها على خزانتك كالأوسمة.

(تبّاً للحجرات المتواطئة مع الصقيع)
هكذا تغمغم ذاهلاً بينما تهبط أدراج الذاكرة، عاماً عاماً، متدثراً بالأقاليم المضيئة حتى تحلّ ضيفاً على رصيف أليف كان يرشقك بالأخلاط والأحزاب وكنت تقترف التسكع ومغازلة المطلاّت من النوافذ أشبه بثريّات محصّنة،

وكنت تنتخب الخلاسية - التي أبداً لم تبادلك الابتسام - ملكة فضائك. وإذ تمضغ التين المرّ، تشعل انتفاضة هنا انتفاضة هناك، بعدها يندلع صخب عظيم ومصادمات فيختنق الشارع بالغاز. وإذ ترخي صارية العنف، تندلق الفوضى من ردائك وتأوي، منتعشاً، إلى حانة تعاقر فيها السياسة.
ما من حدث يمرّ - آنذاك - في شارعك دونما استنطاق : الشمس فجيعة، التتويج مؤامرة، اليأس ظاهرة غريبة. عند رصيفك الجانح إلى العربدة تتشبّع المدينة لتنبئ عن كارثة وشيكة، وكنت ترحل من خطبة إلى خطبة ملطخاً حناجر الدعاة بالوقيعة، وتنتشل المدّ به تفضّ أديم الفصول به تعرك بكارة التمرد.
نازلت ضغائن القبائل المالكة، لم تجندلك الزنازن، بل أسرفت في الضوضاء. آخيت الشكيمة وهتفت مع الجبهات المتصادمة.

كانت لك المهابة بين السكّان، لكنك لم تستوعب الدرس جيداً، ملأوا رأسك بالقش، أوهموك أن الحظوة لك والأختام لك والمرابط لك، وأن الخلاسية لن تكون إلا لك، فتقاعست لاجماً قلوعك المفتونة باللهب ورحت بلا حذر تنهل من الخلاسية لقاح الوله فتنهل منك نداء الوهج، وعندما أتتك تشتهي ألوان نبضك لبّيت مختلجاً، فما رآك أحد بعد ذلك إلاّ صاغراً وممتثلاً،

صرت تمشي بنبض أعمى ووهج أبكم، لذا أنكرتك الطرقات أهملتك شرارات المد. وعندما رمتك الخلاسية بوشاح الوسن، إستفحل فيك الصلصال فما فرّقت بين حيّ وحيّ بل ساويت الجريمة والبراءة وقلت :

أنا ظل الشحوب

كم كان بكاؤك فواراً وموجعاً آن أومأت برأسك، المحشو بالقش، فتدحرجت منه النكبات واجماً تفحّصت الأبجديات فاندلقت اللغة الكاذبة.

ماذا تريد أن ترى أيها الأعمى ؟
سراباً وثنياً ؟
أشجاراً معتّقة تثمر التفسخ ؟
تلك أعضاء فتك بها العقم تسير بين أعمدة الأنقاض تسأل وتنتحر. نوارس تنتحر. بيوت تحمل عتباتها وتنتحر. هاوية تكدّس الدول الخاوية في واجهة المحرقة،
وأنت، أنت المسفوع بالأضداد، المنتحل وجه وعلٍ مضطهد، يا رهين بادية تهدر بأسك وتتوضأ بيأسك،
ماذا تنتظر لكي تنهض على قرن سهلٍ تداهم ظُهراً مجلس المومياءات وتجزّ بحدّ رمحك شمع المتحف ؟
انزويت، رسمتَ بالصلاة بلاداً عفيفةً، وأسدلتَ الدمع على خاصرة رصيف كان يعاقبك بالذكريات. لما جاءتك الهزيمة الأولى مثخنة بالإثم، احترفت النساجة وقلت :

أنا ظل اليأس
الآن، كما نراك الآن، في ركن حظيرة مزدحمة بالسعال والأحلام المشلولة، تحت مظلة مصباح سينضب زيته بعد حين، تجلس لتفتح كتاباً يكتبك، ويأخذك المحيط إلى المحيط حيث الأسماك الغفيرة تحاور البحّارة التائهين في مسرى الأحواض المحّارية، والحوت الأزرق يزيّن نافوراته بأزياء القراصنة المزركشين.
ويأخذك الحلزون، سفير الماء. إلى بلّوط يزخرف بالتوابل أجنحة الأوزّات القطبية، وفي مخازن القمح تسبح البنادق المعبأة بالبارود.
ويأخذك الوهم، إلى وهمٍ أكثر نضارة كما الطفل الخمريّ الذي جلب لك السُمّان هدية من وليمة السحب.
مروّضو المسافات يلوّحون كي تتبعهم. آه، ما أصغر العالم في أحداقهم.. ملوّن وطريّ. الكون مترع بالصهيل. أجنحة الأرض، المرقّشة بالفسيفساء، تصطفق. الكواكب ترتجّ كأهداب أنثى فاجأتها الذروة،

ذلك لأن الطفل الخمريّ كان يمشي على أطراف المجرّة. وكنت تمشي في الفضاء البور حاملاً على كتفك بشارة التناسخ، من زندك يترذرذ عسل الأعراس، وكنت تفشي لبلابل العُنّاب سرّ الأهراء فتنداح وتنسكب الأرض المشاعة بين ساقيك - لك وللأتباع - نعيماً وملاعب. لكن، عندما جلست وفتحت الكتاب، وبّخك البياض فأجفلت وقلت :

أنا ظل البهاء

اقتادوك، سنةً بعد سنةٍ، عبر أرخبيل الغدر، إلى حظائر مزيّنة بالياقوت معطّرة بالياسمين. صدّقت، يا مسربلاً بالسبات، أنك في غوطة وأن السياط ثمار، فمزّقت الكتاب واستبدلت الصراخ بالثغاء.

ظننتَ أنك الأثير، المنتقى للرغد، ولم تدر أنك المصطفى للوأد. هتفت موحلاً لأعلام تجدل ألوانها في مرآة الحكم، خضعت موحلاً لبيانات تحيْون أعضاءك وتدوزن أشياءك، حتى أنك ما رفعت سبّابة أمام حربة كانت تخترق أضلاعك.

في باحة مهجورة، محرومة من ألق النجوم، تمدّدتَ على بساط المحن مانحاً جسدك العاري لغزو حاذق يبعث قوافله رتلاً رتلاً لتقتحم صدرك وتزهر صوراً ورؤى.

خيّل إليك، لوهلة، أن أنهار عدْن تجري في راحتك، وعندما انحنيت لتستطلع رأيت قبيلة من آكلي لحوم البشر تنظر إليك بحقد وضراوة ثم ترميك بسهام تفقأ عينيك على مهل، لكن الذي كان أكثر رعباً من هذا الفتك، أنك سمعت نفسك تضحك منتشياً بالافتراس وتقول :

أنا ظل الفريسة

لا، لم تكن واهماً،
نقذفك بكابوس تلو كابوس،
نهيل عليك أشباحنا الحامضة تكسر فيك حصانة الغيبوبة وتطارد شيخوخة أيامك وتحرثك كما الهلال المنجل يحرث الليل،
نكون فضيحتك في ساحات الدول،
وعن كثب نحصي تشنجات العبودية فيك،

أما تكفيك انهيارات ؟!

بين سياج الخيانة وفضاء البراءة نلمحك جاثياً تحفر وجهك الندوب ومن أكمامك يشرّش النمل، لا العبادة طوق ولا الهرطقة. محض تاريخ قابل للاستهلاك، تنكسر في صحن غرفة مغلّفة بالرياح، وعندما تحدّب زمنك تشبّ فيك الخيبة فيما تتأمل رأسك وقد صار علفاً

لكبش حليم يبارك النعمة.

4

ينحني على زبد السماء، يملأ رأسه الشاغر (إلاّ من مصابيح تستبدّ بها الظلال) بكوكبة من السحب الشامخة، ويمسح بأصابعه المرتعشة على هامات التضاريس الشاهقة، ثم يطلق الوروار في مجالس الأطفال.

ياله من شهق يفضح السفح
يرى إلى كل شيء
مثلما يحدث في يوم ممطر.

كان يرعى قطيع المدن (التي تتدافع نحو كتفها كل ضحى). مرةً جرّب أن يسعف السيل من خطيئته، وكلما حاول أن يرأف بالحظائر، تذكّر أن الغيم سلّة مكنوزة بالعصافير، فيميل ويملأ شاغر الرأس، حين يتعب، يضع مصابيحه أمام القوافل و يقطع عليها الطرق. لعل، فيما يستريح وينام، تصحو المدن، تخرج من قطيعها، وتكتشف - قبل فوات الأوان - أن الأوان قد فات. وأن في الصوّان ماء، ماء كثير، وينبغي لها أن تبسط مائدة الكؤوس وتسأل الخبز.

جاء إلى الوقت الجميل
وكان في شغف لموهبة البكاء

الساعات القليلة، التي كانت شاسعة بحجم دم نبيّ، منحته بكاءً لا يضاهى. للأصدقاء أحضان تكفي، وله أحزان لا تقاس. كأنه قنصل الفجيعة. كان يصد الجيوش، وحده، حتى لم يبق في جسمه فسحة لغير الجراح، جراح لا تندمل، تتطاير كالنحل لتعود أغنى رونقاً ومهابة. كله وجع. جاء إلى هنا، ليس للقيلولة، لكن لتدشين اليقظة ونزهة المكابدات.
لماذا كان الهواء المتسوّس على غير عادته، يغوي بمتعة الشوارع ومشاغبة الشجر ؟
صديق له، قال : هات نشيجك. هذا الصدر لك.
ليس سهلاً أن يأتي، ولم يكن سهلاً أن يغيب. يعرف أن جراحاً كثيرة تنتظره لتغسله بالنزيف، لكنه جاء. حمل كل بكائه وجاء. كأن البكاء ليس مباحاً إلاّ هنا، تحت شجرة تحنو على الشارع وتسند الهواء لئلا يسقط.
هل تذكره، ذلك الفتى : غزير الأحلام، مكسور الشفتين، وحيد الكلمة.
هل تذكره، يوم أقبل مهتوك الفؤاد، مفقوداً من قبيلته، مضرّجاً
بالرؤى.
هل تذكره، يطرق الباب فتسأله، من أنت ؟
يقول : لا أعرف.
(كلما أثقلت عليه بالأجوبة، مات عنك قليلاً. وحين تترع له القلب، ينمو كالنبات، مأخوذاً بك، ويتماثل للموت فيما تتماثل للشفاء.)
هل تذكره، وأنت في طين التجربة يشدّك مثل الأمل. قلبك في يد، وجسدك في اليد الأخرى. ذلك الفتى الرهيف كالومض، الخفيف كالوردة.
هاهو يحلم. إلحق به قبل أن توبّخه الصور ويغتاله المشهد:
لأنه مات قبل أن يولد.
منتحباً يقول :
متى أطفئ ظلمة هذا الكوكب
وأنام ؟

5

تدفعين بي إلى شفرة الكوابيس الناهضة في العراء النابضة بالعواء

بينما
تهبطين
في
نعناع
النوم

تبرأين من الانتظار كمن يسوق المصادفات الجليلة بين سرير يحبس الأحصنة وشكوك تخدع اليقين،
تمرحين في رابية مريّشة بمراهقات ضاحكات يحصدن الذرة وتارة يمشطن شعورهن بسنابل مضيئة،
ومن الليل الواشي، الأكثر بذخاً، تأخذين حقائب الرموز.
ها أنت في النوم
يا امرأة تلهم مياهنا الموحشة
ولا من يقدر على فك ألغاز كوابيسي.

القواميس في اضطراب. واسمك مأخوذ بخجل المجانين الذين هم في هدأة الولوع

لكن،
مَنْ أعطاك هذا الاسم الذي تتدلى من شبابيكه أمطار خائفة وشهيق كأنه تضرّع الروح ؟ من غرّر بأوصالي كي تستباح بمثل هذا البهاء الفاجع ؟
لست بريئة من الدم، فما من قميص إلاّ ورائحة رضابك الغادر ممهورة على أردانه

لكن،
ها أنت في النوم الوابل
وأنا في صهيل الوحش وغربة الذبيح
موعود بفتنة القصل.

كتف في الوجع
جوع في القدم
والعين تبحث مهتاجة عن بَـلبلة

لماذا لا أرى منارةً تخلو منك كي أصرخ :
ها هنا،
في هذا الجزْر المختنق بالفاقة والسِّفاح،
مكان شاغر ينبغي أن يُهدم.

وحدك تمنحين المنظر رخاء المدّ، وتهمسين لأقنعة الرغبة أن تسرح في ردهات الشريان،
وحيدةٌ تذهبين إلى النوم
وحيداً أتصاعد في عطارد الجنيّات كمن يتشبث بالهاوية وينسى

لكن،

كيف يجرؤ جلدك على نسيان أمشاطي الحائمة حول نهديك تقضم، بطيئاً، نور ثمارك وتعصر الذهب على جبين المملكة ؟
ذلك الوجر زاخر بثعالب صغيرة تتمرّغ في أنحائي كل عشيّة. ثعالب حمراء ألقّنها صلاة التضرع لرقبة مصابة بوجل الناسك وتهدج الشبق.
مدججة بالوعود كنتِ. قلتِ : في السَحَر يتألق الجسد.
صدقنا، أيتها الكاذبة الجميلة، ورحنا نزيّن خواصرنا ببهارات جلبتها الجدّات من المخازن البعيدة، ووقفنا عراةً إلاّ من الأمل. فيما كنتِ، أيتها الماكرة الوديعة، تلطخين الوشاح بالنوم

شـجرة في الكلام أنتِ
حنجرة في المياه أنت

مَنْ أعطاك طبيعة النصل وجرأة انتخاب الأسماء ؟
وحدك
وحيدة في النوم
ووحدي

لكن،

قلتُ لك : افتحي النافذة كي أعرف أن لك داراً تشرف على المساءات كلها، فبدون هذه العلامة الرشيقة لن يتسنى للهزيع الأخير أن يتثاءب ويدفق الأحلام في روحي.

قلت لك،
لكنك أوصدت النافذة ومحوت الدار، فهربت المساءات وظل الليل الحزين يلملم أطرافه في عربة لا تقود إلاّ إلى الفناء.

يالك من وحيدة ..
وحيدة مثل نجمة في سديم

آن أن تخلعي هذا المطر الوارف وتسعفي التوابيت المحْدقة بك أشبه بجوقة جاءت لتبطش بالحلم. النوم ليس ملجأك الأخير. تنزلقين من مأتم إلى وليمة عامرة بالقتلى، فيأخذك اليأس إلى ملجأ أشد فتكاً. وأنتِ وحدك.

آن أن تكتملي مثل فراشة المحنة
وتكترثي بطريد الكوابيس المبجلة،
يا الغائبة مثل قناع ينبش في الوجه
يا الغارقة في عسل الغدر،
ارفعي خمارك المطرّز باليقين
وانظري ..

6

أطلّ عليك، أيتها الفاضحة، مذعوراً من هذا الشهيق،
السحيق كما الهاوية.
لم أعرف سريراً بهذا البياض والشسع
أتشبث بذيل المعجزة :
فلربما،
حين يخذلني الحديد،
يسعفني البياض الرحيم.
أطل عليك
مغموراً بالمستحيل كافراً بالنعم :
فلربما،
في سرير رشيق كهذا،
أخرج من جاذبية الموت وتدلّني البوم إلى الجذوة،

آه، أنتِ هناك، في طيّات نجمة داجنة تغوين أصابعي لتسوق - في رواق الغيم - بغلات حنونات تحمل شفاعة البحر. تراودينني كي أقفز في البياض اللامتناهي. بلا طمأنينة، أذعن لمهرجان الوسائد.

آه، هناك أنتِ .. عارية مني
وأنا هنا.. عارياً منك
لا بياضك الوسيع يهب جحيم المغفرة
ولا بياضي المتجزئ يدفق الدم في الثلجة المقدسة
مباغت بالغياب. أرى إليكِ متهاجة، تفقدين أقراطك في غيبوبة الخندق. تقولين عن بهجة الرفقة فأخرّ في نحيب مكبوت. أقول عن السنواتْ الضوئية التي تخلع القلب وتفصل ما بين جسد مرضوض وجمرة متحفزة للهجم بلا هوادة.
كأنكِ لست جنيّة البحيرة
كأني لست الصدفة المبهورة بالضلالة

ذلك الصباح ليس للنسيان
فقد كنت سجين زندك

أباهي بأجمل أخطائي. بأكثرها قدرة على المعصية. أرتقي سديم الطفولات. تحتي السحب وفي رأسي تحتدم الشهب.

في خندق منسي، اغتسلنا بعرق المبارزات. تبادلنا رعب القتال وهزيمة الجسد، مَنْ منا كان فارس الهزيمة ؟
قلتِ لي عن الرفقة
قلت لك عن الفراق
وها أنا أشرد بين سماء ليس لي
وأرض لستُ لها.

عندما يعجز الجسد عن التعبير، ترتعش الروح مثل زلزال

ووئيداً
أتصاعد في شهقة قديس
يحتضر أمام بهجة الحديقة

7

أجلس في حاشية المليكة
كاحلي في جمرة المزيج
أشرد بين هزيمة ومطاردة وليس لي راحة في مكان
تاجها مكلّل بالثلج وبين أردانها ريشة الغرور
انتخبت لها عصير الدوارق لئلا تصاب بسأم الرفقة
ترى إليّ مثلما تنظر في مرآتها المعتمة
هودجها الخفيف برج مراهنات.
كل ملك يبعث سعاته :
يبذل الحب من هنا يبذل الحرب من هناك
والسواعد الخبيرة تحمل الهودج وتحميه
رشيقة مثل قلنسوة البهلول.
جلست في حاشية المليكة
قميصي متروك في مخدعها
وهي تستجوب جسدي عن تاريخي الصغير
من الكاحل حتى الكاهل
هذا هو تاريخي الصغير الذي أدّخره.
- من أين لك كل هذا التراث ؟
سعاة الملوك يلهثون في فيء خطواتي
كنتُ في ذهب السبات، في منجم الليل الزاخر بالغرابة والمجابهات
كنت في حاشية المليكة
وكانت تمنحني كنزها المكنون.

8

ها أنتَ.
جثة حولك، أكثر حضوراً من الحياة
تغتصبك، ولا تصير ذكرى.
جثة طاغية،
تشعّ كلما لامستها بنظرك.
جثة صديقة :
ثمة رفقة لا يأخذهم الموت
ولا يذهبون

ها أنتَ،
كلما شردت في جنون المجابهات
بين سماء ليست لك
وأرض لست لها
طلعت من أقدامك الحمم، وصار للجثة الرفيقة معادن موصولة بعينيك، حتى لكأنك في حضرتها مصلوب في زئبق مرآة لا تغيب ولا تخطئ، ولا تطالها الغفلة.
تضع يدك في المرآة كمن يسأل
يدك القديمة المصابة بالتجربة، تكتسب طاقة النبات، يتدلى من عقابيلها الدم الأخضر، ويتطاير من مسامها الوحش الكامن. يد شرَّشها الموج والملح، شاغلتها خميرة الطين وصلصال الوقت
آن لها أن تذهب إلى ذاكرة المعادن ومكاتبات الشريد
يدك القديمة المفعمة برفقة مكابرة.
ماذا ستأخذ من مرآة مباحة
وجثة تخترق المكان والوقت

ها أنتَ
يسألونك عن النص، فتنسى الكلام
يبغتونك بالمخيّم، فتصاب بالغموض

ها أنتَ
يدك في فتنة الرؤيا
لكنك تزيّن المنظر
بأنخاب جثة
تعال إلى جهاتٍ فاتكةٍ تتبادل الموتى مثلما تدير الرحى
تعال إلى هيبة الناس وهي تهوي
في الكتب والقباب وموائد القنافذ
تعال، ذخيرة العشاء منذورة لفجيعتك
أنت الذي

ما من زنزانة إلاّ ومنحتك دفئها وأشباحها الجدارية
ما من دم إلاّ واتصل بدمك ودنانك المترعات

ها أنتَ، ها أنتَ
لم تزل مقسوماً بين زنزانة لك
وحانة عليك
تلمس قرينتك الجثة فوق ركبتيك
ولا تكاد تقوى على هدهدتها لنوم مؤقت
لعلك في سبات الكلام ها أنت ؟
لعلك في وهدة الصبر ها أنت ؟
لكنك لست جديراً بغير الطريق الغريب
لست / لأنك قنصل المأساة وبغتة الفتك
لست / لأنك رفيق ثورات تتقمط بخيوط الكفن
لست / إلا قرين جثة لا تموت ولا تغادر ولا يغسلها الوقت.

أنظر إليها - إليه
يخطئ الخطى ويضرّج المداخل بلهوه ؟
تتماهى مثل شحرور لها الهواء مسرح وسترة ودرج رشيق /
ما أن يفتح كوّة الذاكرة حتى تعرفه،
تعرفه، تحس به كأنه هنا
وتكاد..
كأنه أنا :

سمّوني صاحب اليد
رحبة. تبعث بالكائنات الصغيرة من مكامنها. صديقة لطفولة يائسة. في راحتها تغفو دواجن المدينة وتمنح الظل قبعّةً لناس الفرار

سمّوني صاحب اليد
أضع اليمامة في تاجها كما في كرسي. يخرّ جاموس السهوب زارعاً قرونه الرهيفة في الذراع والمرفق، ويخضّب الرسغ بقرمزه الفائر.
ليست يداً.. يتمتم الجاموس.
يا صاحب اليد
يا البرزخ بين الزنزانة والحانة
ماذا تسمي حصاة مقذوفة تتصاعد، وتطير بلا أجنحة ؟
ماذا ترى في الأفق غير الفخاخ المنصوبة مثل مشاعل الطرقات الليلية ؟ ماذا تسمع عندما تطاردك الأجراس والقباب والكتاب ؟

سمّوني صاحب اليد
ولستُ إلا نورساً يتدرب على فن الذهاب إلى تلك المصائد كمن يجلس إلى وليمة بحر، أحصي المؤامرات وأقتحمها مغروراً. فعلى هذا الرسغ الآمن كان لهم أن يجربوا كل ضروب القيود، ويطلقوا كل براثن الدغل.
ولستُ إلاّ موجة ترتطم بعظام منسية على خراج الشطآن.
لستٌ إلاّ مجد الهواء الذي يتهدّم عشية كل هزيمة.

وتحتشد أسراب الطير لتنال اللحم المهترئ بفعل النسيان، حيث لا عظام إلاّ وكان للوحش حظوة. مأدبة على شرف البحر.
أجلس إلى الوليمة. الفخاخ كلها لي، وليس لي أن أخذل التوقع وأخيّب الظن.

هذا هو صاحب اليد
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة.

ها أنت
جثة أخرى تشعّ من حولك
وأنت تتخبط في جوقة المجابهات
لستَ في جنون ولا ينتابك الوهم،
إنه هو، إنه هنا،
شخص يختزل التجربة
ماء باسل ينبثق من تحت أظافره
يؤثث الإسفلت بروايات الاغتيال المربكة.

ها أنتَ
في حضرة المواقد، ثلجة، في شرفتها تعبر المواكب.
نسمع في شرايينك رائحة الغسلين
مثل نفط يخلع نكهة الماء عن الطين والغصن
والمجابهات

ها أنتَ
ترى إلى المجابهات كأنها في الكوكب البعيد
وكلما طفر ماء الشهوة من ضفيرة
راح الطهاة يؤججون جمراتهم تحت سفّود البهجة.
شخص يلذّ له أن يبغتك بتحولاته
من طبيعة الجثة إلى شبق الجنين
ويُتاح لك أن تسأل : جثة أم جنين
ويتاح للشرق أن يفقد عادة القتل
ويُقتل.
يخطئ الخطى
كأنه حنجرة البحر موشومة بملح الأقاصي
وأنت
كأنه هو

سمّوني صاحب الرأس
قنديل العرّافات. لم يعرف الخطأ إلاّ ليدفع الصواب إلى التهلكة. انتقل بي من أنين الدروب المغمورة بغبار الغياب إلى زنزانة الليل. ومن طنين الحنجرة المبحوحة إلى حانة المبارزات، قنديل، راق لهم أن يدفعوا به إلى الغيوب والغياهب.

سمّوني صاحب الرأس
لئلا تنقض العذارى لهفتهن لعناق الفتية المخبولين بنطفة الملاك،
لئلا تستفرد الهاوية بأحفادي،

سمّوني، ولم أكن جديداً على الندم،
لئلا أقف على شفرة الرؤية لكنني فعلت
لئلا أتذكر أصغر الطغاة شأنا لكنني فعلت
لئلا أترك أثراً لخطواتي الهاذية لكنني فعلت

سمّوني صاحب الرأس
وكنتُ أجلس في وردة الوقت في كمين المدينة في وحشة الغريب في راحة المطارد في خديعة العشب في شرق الغروب في الرغبة :

أن أنجو من النار
أن أنجو من الجنة

في صلافة اللغم وهو يفتك بي لتبدأ الفتنة
في شهوة اللغز وهي تغوي كل ذي فطنة.

هذا هو صاحب الرأس
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة

ها أنتَ
كيف، من جبّ إلى جنازة إلى جبّانة
كيف، ترى إلى كتائب الضباع تقود الدواجن إلى التنور
وأنت
في شفير الرؤية
لا تمدّ ولا تميد
ويفيض النحل من مقلتيك.

ها أنت
في غيلان تتدافع، تتكاسر على جثة شاعرٍ تكاد تكون جثتك. ولحمك يتخلّع من العظم. ترى، وتسمع
العربات تصهل على أطرافك الثملة

ويقال أنك آت هل أنت ؟
ويقال عنك الكلام هل أنت ؟

سمّوني صاحب النخلة
لكنها ليست لي.
حلمت بأطفال موصولين بالماء والخشب. تنساهم الكتب وترأف بهم وحشة الدار. وما أن أسعفتني الرؤية حتى خذلتني الكلمة.
وفاجأني الوقت
أوشكت أن أعلن خاتمة النحل
اختلج في صدري حيوان الحزن
وفي أرداني الخجولة فاض النرجس
سمّوني صاحب النخل
شامة في حدقة الكلام
لكنها ليست لي
لتشنج الريح وهي تشحب

9

انظروا إليه،
هذا المتوقد الحدقتين مثل أفعى الأساطير
يندفع بي نحو الهذيان الدافئ،
كمن يذهب إلى حضن الأم الرؤوف.
نترنح مثل ملوك الحانات، ويقول :
هذا يكفي
هذا جدير بنا، أنا وأنت
لسنا أقل
نحن العدد الهائل
أحدنا لم يمت
والآخر لم يمت
والآخر لا يموت
نتوغل. راقَ لنا أن نبرأ من خرافة المفؤودين
بفتوى السباع ومنطق الهوام.
لن تلتفت لسلالات تتناسل من جيفة اليقين التي تصعّر خدها لجلافة الأجوبة.
لن تلتفت لمخلوقات تزدوج في كل مرة يرفّ لها جفن، أو نبض في عروقها دم. دم يتعفن كلما ازدوجت.
لماذا تلتفت وأنت مليك حريتك :
تهذي وتهندس
تهدم وتهذي

لماذا إليهم، وأنت سلطان الوحي الوحش
الذي انطلق بك من المخيّلة
لماذا إليهم، وأنت إلى الكوكب الغامض البعيد
يأخذك إلى اللانهائيات المتروكة من ملايين السنين،
لماذا إليهم، وأنت إلى مكبوتاتك الجميلة
تخبّ بك مثل خيل الرياح الخاطفة
لماذا إليهم، وأنت في حرية الثلج الهاطل الحنون
يمنحك دراريعه الأنيقة
تدسّ رأسك العارية في الأبيض المعصوف
لتتسرب حيوانات الجليد الصغيرة إلى غرف الرأس الملتهبة
فلا يزيدك إلا هياجاً وشبقاً.
كأن بالكيان الذي وضعت عليه أعضاءك
العاطلة يهوي بك إلى لذة تنتشل
عناصرك الرخوة من غفلتها

لماذا إليهم،
وأنت إليك.

10

ها أنا في المتاهة، وهو يعبث بي.
يدي في أخمص النار
يدي في خندق في خناق الخديعة
والمتاهة في تمادٍ

أيها الخلد الخجول، خدين الينابيع، المستوحش في أعراس الناس، مروّض الحكايات.. سعت إليك الحباحب كي تسعف شيخوختك الماثلة في نحيبك المكتوم، والتفتت إليك الجنّية في ظهيرة النص كي لا تنال منك الغفوة.

تذكرها ؟!
صديقتنا الجنّية ذات الوبر المترف، التي ما أن ندْعكَ جسدها بفحيح شبقنا، حتى تتفصّد الجنادب من تغضنات لحمها المكتنز، ويتصاعد حريق الوبر من إبطيها متغلغلاً في حجرات القلب السريّة، فيتألق هياجنا ويرمينا الحدس والهجس بنبال الهلوسة تشعل فينا الحمّى الباذخة.

تذكرها؟!
تلك الجنية ذات الوبر الأزرق الذي يغري جوقة العناصر بفتنة الصراخ. يروق لها أن تسمع ذلك النداء كأنه يلامس خبيئتها الملكية، تنتظر خروجك من اختلاج المرتبك المهدّد بالإغماء. تنتظر البراكين المكتومة. وينتابها الشبق الشاهق وهي ملهوجة تبحث فينا عن ملاكٍ شرس تمنحه تاج الخباء، ذلك الجرح الوحيد.

ما من أحد يجلس في حاشيتها إلاّ وينال من ذهبها الشامخ.

تذكر؟!
قلت لي : أية صداقة هذه التي تذهب بنا إلى التهلكة !
وكانت كل الأبعاد محروسة بها.
وقلت : حين أصل ذروة الهذيان
سيكون الدم العاهل دليلي.

صدّقينا أيتها الجنية المشتهاة، إننا لم نترك بوابة من مداخل جسدك إلا وحاولنا اقتحامها. كل بواباتك على الإطلاق، سرية كانت أو مباحة. وكنت المحصنة بشكيمة الأعداء وغفلة الأصدقاء وتخاذل السعاة.

ممنوعة علينا، بعد أن كنا حاشيتك الرافلة في أهدابك.. نحن عشاقك المولعين بك منذ الهديل الأول لهذا الجسد. عرفناك وريداً وريداً وخليّة خليّة. لم يكن يمرّ علينا يوم دون أن نلامس مسامك الملتهبة بأطراف أصابعنا الجائعة.

آه، أيتها الجنّية التي ليست مثل النساء.
منذ أن وقعتِ في يقظة الرقباء، وصرنا في الانتظار، لم يكن لنا شغل سوى إطلاق العنان لمخيلتنا ترسم لنا مشهد اللقاء المنتظر. ومن المنافي رصدنا جسدك الذي يفتن أحلامنا.
حفظنا حركته نأمة نأمة. ولم ننس لحظةً تلك التفاصيل لكل بوابة من بواباتك الخمس :

فنرى الهيكل يتطوّح كالخشب المتسوّس على رؤوس محنية تعبر قوس الهزيمة بلا غطاء.

أنظري يا صديقتنا التي من الجحيم
ها نحن، لم نزل، نتشبث بأعضائنا المشحوذة على بشرتك الثلجية، مستعدين للامتحان الفاتن، حين تنادي مداخلك أنفاسنا لساعة اللقيا.. حيث البداءة الضارية.

أجلسني أمام الورقة

قال لي :
الفتنة نائمة، أيقظها.
وكنت شغوفاً بالأبيض الماكر،
أكاد أن أسأل : مَنْ منا سيغوي الآخر
وهو يصرخ بي من خلف قرمزه المستتر :
أيقظها.

هذه الباهرة المجبولة بحليب الغموض. ما أن أضع عليها رحيق الثمرة المحرّمة حتى ترتعش وتخضلّ أطرافها، ومن كبدها ينبعث ذلك الزفير المثير
ينهرني :
أيقظها

كمن يدفع أشلائي إلى هاوية العناصر التي تنحدر من الكهوف نحو اشتباك العواصم.

اختبار الكتابة في غفلة اللغة
هذا هو النص

ها أنت الآن، أمامك الفتنة :
بياض
خريطة
إغواء

تهفو للملامسة
تقدم وأيقظها
مَنْ أنت حتى تكشف عن الشباك التي أتوارى في سديمها.
مَنْ أنت لتجس حديد القلب وتبذله لفضول الطهاة والصيادين
مَنْ أنت يا من تضع الطريق أمام خطواتي وتسمّي الورقة
خطيئة الصمت

دعني
دع الصخرة المشتعلة تلتهم أحشائي
ولا تسأل عن هندسة الذهاب إلى ماء المعنى
دع لي الجلوس أمام بياض السفر
أهذي ويعصف بي تيه الرفقة الذين يقذفونني بالأحصنة من خلف متاريس الغربة، ويقذفونني بمفاتيح سجونهم لئلا أغفل عن البياض
هكذا هو :
تستحوذ عليه غيبوبة النص ويمضي مثل كبش مقصوف الأظلاف، يسعى إلى اجتياز الأعالي ليصل إلى شهق الجبل، ليقف هناك ويشير بإصبعه النحيلة :
أنظر،
هنا يكمن عسل اللغة وخبزها
خذ قصعتك ولا تخذل رفقة
ينتظرون صوتك

يحلو له دوماً أن يهندس ويهندم ويجترح الخارق
ولا أقوى على شكيمة ذهابه المجنون
أضطرب، أهمس له بوجل :
لكنه الخوف

فيثق أكثر :

جميل الكتابة أنها تجعل القلب يرجف مثل
موجة خائفة تحت وطأة الريح المنبعثة من
جحيم الأعماق.
تشبث بخوفك،
ولا تدع الفتنة نائمة

هيّا،
القتل هناك أقل موتاً.

كلما سهوت عن النص، تسللت إليه الغزالة المصابة بالخبل، متخفية في زيّ غزالة مثلها. تفزّ من شباك الصيادين الوسيمين، تركض نحو داري المثقلة بالتخاريم والنمنمات، وتجلس في هدوء خبيث لترقب فجور الحمّى في ليالٍ لا تنتهي.
تتحيّن غفلتي كي تتسرب من الحبر والحروف والجمل (يحدث كثيراً أن يختلط عليّ شكل الكلمات مع مخلوقات وعناصر لا تحصى) وغزالة مأخوذة كهذه، تقدر على تقمّص الأشياء والحالات، تستعصي على الوصف والأسر بفعل ما ينتابها من هياج، لكنها تحاول اقتحام تخوم النص ببسالة.
صديقي الخلْد يواري ابتسامته الماجنة ويسمعني سخريته المكتومة :
- كيف ستتصرف هذه المرة. إنها تدخل مصيدة النص، وسرعان ما تتخبط بين براثن الدلالات وأخلاط العناصر، حيث المعاني اللامتناهية.
هاهي معجونة بالوجل، لن تتوقف عن الأسئلة، ولن يطالها اليقين.
ماذا ستفعل لها أيها الضبع الأرقط ؟

صديقي الخلد يتقن اقتناص اللحظات الباهرة ببراعة. يتمتع بغريزة الصقر وبموهبة الأصداف. وسوف يداري ابتسامته الماجنة دوماً فيما يتأمل الغزالة وهي تتوغّل في أدغال النص، مفتونة بالهذيان ولا أحد يحسن استدراج غزالة مخبولة مثل خلد ماجن.

لكنني سأقتسم معه سرير الملكة ونستغرق في إغماءة لذيذة بداخلها نتيح للمخيلة حرية الفتح بنص يفقد جواشنه في مجابهة إجتياح باسل.

ماذا تريدين منا أيتها الغزالة المرنة ؟ تركنا لك حرية مراقبة المشهد، صبرنا على سهرك جالسة في حافة الميدان تلملمين الشظايا التي تخلّفها الكواكب ومبعوث السديم، فيما كنا نتبادل العراك.. أنا وصديقي الخلد.

قلنا لك عن فزع النصال ولهب الصلصال
حذّرناك من الشهوة الجارفة
التي تفتك بالغريب في الليل
وأنت وحدك.. وحيدة
أنظري ماذا فعلت بنفسك
ها أنت عرضة لمزاج الطهاة
وهدفاً لقناصين يبدأون تمارينهم للتّو.

من الذي غرّر بالصبية ؟
يسأل صديقي الخلد، وهو الذي يهندس الشراك لقدميها الغامضتين منذ أن تعلمتا حركة الطريق.
يسأل، وهو الذي يمتلك بصيرة السعاة. هو الذي كان يصفّ لها أقداح الخمر على حافة المسالك.
يتقمّص حكمة الذئب ويؤرجح رخام البستان لينشد التهويدات وتراتيل العربدة.

الآن يسأل !
كأنه لم يطلق جياده المخبولة لتخبط بحوافرها المتآكلة عنفوان الصبية وهي تكتشف الجنس. كانت الأسوار عالية والصبية تجهش في صخب المجازفات. وكأنه لم يسدّ عليها الباب ليحتقن جسدها المذعور بين ساعديه.
يسأل، صديقي الخلْد، وهو خدين الفراشات، هاتك أعراض العذارى، منظم رحلات الصيد الملكية، ملك الغواية.

شخص يتقدم في ابتكار أقنعة الساحر. يتميز بمواهب الحاوي ويقظة البهلوان. ما أن يضع أنامله على كتف الصبية حتى ينتابها جنون المغامرة، حيث لجسدها اشتعالات الملاك وهو يبطش بعناصره، فلا تكاد تلتقي برجل حتى تجذبه إلى عشب الغابة وهو في الضرام، تفرك أنحاءه

بالوحل حتى تتصاعد رائحة الأخلاط وهي تتمازج.
ذلك الممسوس يخرج من جحيم الرؤيا، تستغيث به مخلوقات مصابة بشهوة الفقد. حين يدفع بها في تخاريم اللذة، يختلج جسده كأنه سيموت
هذا الذي ليس للموت
لكنه يسأل عن الذي غرر بالصبية.

كانت محاطة بورع الأوزّ وخفر الحدآت. مشغولة عن مكامن الولع في كيانها بتطريز العباءات لنساءٍ يحلو لهنّ الذهاب إلى الحزن بأردية مشغولة بالقصب.

كانت، عندما تغتسل عن حيضها، تتجمع عوانس الحي وعواقره، يركعن ليلمسن بأطراف أنوفهن ذلك الرحيق القرمزي، وروحهن مفعمة برجاء المباركة.

كانت لا تلتفت لجهة إلاّ لتفادي نظرة رجل يتخابث. تبرأ بنفسها من صهوة الفتنة فتصاب بغفوة الرعشة.

كانت .
تلك الصبية التي كانت،
سيملك هذا الخلد الفاتك أن يسأل عمن غرّر بها.. الآن.
يا صديقي الخلد
ها أنت تتخبط بين أجمل طرائدك الهتيكات، وبين أخلاط العناصر القادرة على البطش بمخلوقات تخلقها وتغدر بها.
ها أنت تطاردني بشبق الناسك،
تخدعني بالكتابة، وتخدع الكتابة بي.

هكذا، نتكاسر مثل نمرين على حمل مذعور.

من أين لي أن أد فع بأشلائي في النص وأنت تكتظ به
كوكباً ينتحب، تضيق به حدود المجرّة.

تسأل، والصبية تجهش بكلينا.
وعندما يحين وقت الموت
لا نجد أحداً يموت معنا.

 

 

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى