كلما انتابَ القبيلةُ خارجٌ

(دفتر قاسم)

وَلسْتُ بِحَلاَّلِ التلاعِ مَخَافَةً
وَلكِنْ مَتَى يِسْتَرْفِدِ الَقوْمُ أرْفِدِ


طرفة

حديد

دمٌ أقوى من الحديد من شهوة النار
تخيلت سيفاً يغيّرُ أشكالَه
وله لغةٌ من رماد الأساطير
حرفٌ حديدٌ وأحلامُه لا تحدُّ
تضرعتُ أن يُدركَ النصلُ صوتي
تخطيتُ موتي
حديدٌ
كأن الدماء التي هَربت في الرسائلِ مشحونةٌ بالفناء
تعيد الغناء لأهلي وهُم يغضبون لأطفالهم
في الصليل الثقيل من القيد
مما تبقى لهم في الرماد من الجمر
هذا الحديد يؤاخي دمي
ينتمي للقصيِّ الخفي من الأنبياءِ
دمٌ شاردٌ في السماء

***

تيه

كواكبُ
لا مجرتها في حدودي، وليس لنيازكي تاريخٌ تجهر به الكتبُ
مأزقٌ أن تجدَ كيانك شتاتاً إلى هذا الحد
لا الغابة تصغي ولا للكائنات فهرسٌ يهدي إلى الضلالة
ضياعٌ فاتكٌ أن تعود

***

ما الذي بيننا

لم أعد قادراً أن أميزَ
هل كنتُ حرفَكَ أم إنَ قلبي تَـنَوَّرَ بالكلمات الأخيرة وهي تضيءُ دبيبَ النبيذِ إلى كاحليك
لم أعد قادراً أن أُقَـدِّرَ
هل هذه الفلواتُ الشريدة قنديلُنا في الطريق إلى الشعرِ
أم أنتَ سجنٌ لحريتي
هل كنتَ ناريَ أم جنتي
أينَ حدودُ الزمان
وأي مكانٍ سيفصلُ/ يوصلُ ما بيننا
ما الذي بيننا وردةُ الزعفرانِ
صدفةٌ في الزمانِ
لم يعد بيننا
نحن ما بيننا
خيط أشعارنا
كاسُ أنخابنا
نفسُ أعدائنا
رمز أسرارِنا

ما الذي بيننا بعضُ هذا المزيج
حكمةُ الشعرِ والوحشةُ الأبدية
غربةُ الروحِ والجرحُ يحرسُنا
بيننا كلُ ما بيننا
أنكَ قلتَ للشعرِ أسرارَه وسَميّـته بيتنا
بيننا أنني عاشق خَصَّني الشعرُ بالمحو في الصحن كالزعفران بأسمائهِ
لم اعدْ قادراً أن أفرّق بين احتضاراتنا والحياة التي تولدُ
روحك النارُ والموقدُ
هل الشعر والحب في ريشنا أبدٌ آبدُ؟
هل نشأنا معاً
شَغَفاً واحتمالاً
و أودى بنا خطأٌ واحدُ ؟

***

حصة الشمس

الشمسُ سيدةٌ على حزنِ الصحارى وهي تزدردُ التخوم
الشمسُ تاريخ النجوم
الشمسُ مفترقُ الخطى
بين انتمائي للسلالة وانقطاعي في تجاعيد الغيوم
الشمسُ - كنتُ ميمماً شرقاً- هَوَتْ في مغربٍ ثملٍ
كأن الرمل حلمُ زجاجةٍ في البحر
دارتْ بي مع الأنخاب موجاً عارماً
لا شمس لي لا بحر لي
شعرٌ ونردٌ واحتمالات لقاموس الهموم

***

الأحفاد

قُلْ لهم
إن أحفادنا مستوحشون
وحيدون في غرفة الله
قل إنهم ساهرون على غيمةٍ
منتعشون لفرط التذكر،
أو هائمون على وجههم حولنا
إنهم قادمون، مثل أحفادنا
لن نكون سوى آيةٍ في الكتاب
سوى جنةٍ مشتهاة
سوى غيمة ضائعة
كلما فسَّرَ الفقهاءُ
انتهتْ تآويلهم،
واستعاد المهانون هيبتهم
كلهم يستوون على الماء
أخشابُهم عرشهم
يذهبون إلى الشمس في شاعرٍ لم يزل
يسأل القادمين عن الساهرين على غيمة يمطرون

***

لست معتزلاً

وحيدٌ شاردٌ أغفو على مضضٍ، وقلبي متعبٌ،
وأنين روحي طائرٌ يهذي ولي في رفقة الوحش الصديق طريقة للخوف
لستُ معتزلاً،
لا دارَ لي في بيت أهلي،
لا يدٌ تحنو على كأس يروّي رأسيَ الناريّ
لي في دفتر الأخبار منعطفُ الدليل يقود أخطاءً ملفقة
تَشِي بغموض أسمائي
بكى مائي على ماء الغريبِ
يطيشُ بي لتفيض أخطائي
وحيدٌ شاهقٌ
يبكي معي سفرٌ وترحالٌ
وغيمٌ عابرٌ وإذا بكيتُ
كأنما جبلٌ على أطفاله يحنو

***

كان يعرف

سودُ القلوبِ/ مدرّبو بيتِ الضباعِ/ الضاغنونَ/ مشرّعو وحش الغرائز/
آلُ آوى/ آخرُ الباقين من مرضى إناثِ الخيل/ ينخرطون في مدح النقائضِ

كانَ يعرفُ،
قادةٌ،
ويؤلبون عليه أطرافَ القبائل كي يُساقَ إلى الصليب
سيسبقون الطير قبل الفجر
يشتركون في نصب الشِراك

وكان يعرف،
سادةٌ يستفردون به يَشدُّونَ السيوفَ عليه
يروون القصيدةَ قبله ويؤجلون الماءَ عنه

كان يعرفُ،
قادة، يستنوقون جِمالَهم ويَشونَ بالمعنى لكي ينهار بالتأويل
ماءٌ زئبقٌ شبقٌ ويعرفُ
كلما خاضوا بماء كتابه، وبنوا قصوراً فوق طينةِ شِعره خانوهُ
خلُّوا نجمةً سوداء تبكي في يديه

كان يعرفُ،
ضالعون رمُوه في جُبٍ
يدٌ في الدمّ والأخرى تُجدّفُ
وهو يعرفُ

إنهم يضعونَ حدَّ السيفِ في باب الندى
ودموعهم فوق الذبيحة

سوف يعرف
إخوة يرثونه قبل الغياب
يؤلفون نصيحةً
يَطَأون جثته ويعرفُ

***

إعصار

كلما تهجيتُ كلماته رأيتُ فيها شهوة الحروف والسيوف
وإذا تقرَّيت حجارته المحجوبة في مصادره
قرأتُ فيها الغيبَ مثل العالم المألوف
وإذا أبحرتُ في موجهِ
شَعرتُ بقلبي يتقلقل مثل قلع السفينة في هودج الإعصار،
فتضيع مني الأطرافُ والأسبابُ والوسائط

***

كي يؤلفَ غيرنا

ليس للشعر بيت هنا
بالكاد نبدأ كي يؤلفَ غيرُنا أفقاً جديداً
لا كتاب الموت لا أخباره
ليس الرواةُ ولا أحاديثٌ يكرّسُها القضاةُ
الحب يسأل هل لنا شعرٌ تضاهيه الصلاةُ

***

الأم

هل هذا نحيبُكِ أم حنينٌ تحتمينَ به
هل هذا زفيرُ الروحِ،
أم نحنُ ضحايا جوقةِ النايات
يا أمي لقد فاضَ السَرابُ على الترابِ
وانتهى بي الشكلُ ذو المغزى
وموتي في حدود الموت

2

مَنْ هذا الذي صبَّ الرصاصَ ودَرَّبَ الفولاذَ
واستَـلَّ النِصالَ على عظامكْ
مَنْ جاءَ جيشاً كاملاً مستمهلاً ومشى أمامك
يا آخر الرايات
هل ماتَ احتمالٌ واحدٌ أني إليك
وأنَ لي في عطرك البدويّ ما يبقى على وتدٍ وحيدٍ في خيامكْ
فاض يا أمي غيابُ أبي عليَّ
وجُنَّ بي وحشٌ وأفضى بي النحيبُ
وضاقتْ الصحراءُ وانكسرت نصالٌ في دمي
وبكتْ على قلبي القصائدُ
هل أبي نجمٌ سيأتي في ظلامكْ

***

درس الليل

لا يعرفُ الآخرونَ عن الليل مثلي
لن ينتهي نادلٌ عند طاولةِ الخمرِ
مثل الذي ينتهي بالوصايا إلى النار
تأملتُ في إخوةٍ
أنْ أرى إخوتي يدركون - بعيداً عن البيت-
بيتاً يؤانسني ويَقيني من الوحش
لي إخوةٌ يسهرونَ على الوقت
يبتهلونَ يُصلُّونَ
أن تنتهي وردةٌ في الكتاب
ويبقى لنا عطرُها
تأملتُ في وردةٍ مثلها
تصطفيني وتشرحُ للناس تأويلَها
كنت في حلمهم عابراً
كنت مستنفراً مثل برقٍ يرقُّ على وردةٍ
ويختارني ليلها

***

الصحراء

أيتها الصحراء، يا صديقتي وعدويّ،
أيتها التفاحة الفَجّةُ المفتوحة لضياعي وتيهي ومتاع أيامي
يا فضيحتي وقناعي
لستِ طريقاً لي ولا مكاناً ولا مستقراً لأقدامي
ألبسُكِ وأخلعك مثل القميصِ في الراحة والزَرَدِ في الحرب
أعرفُ رملك نأمةً نأمة
لا أخشى سوى أفقك المشرع الأشداق، مثل وحش يُحْدِقُ بأحلامي
أيتها الصحراء،
هل أنت ماضٍ يمشي قُدّامي؟

***

الصديق

أفدي صديقاً ساحرَ الأحلام صَدَّ الحربَ عني
كلما شدّوا يَردُّهمُ
ويَحمي قلعتي ويموتُ عني
أفديه
كنتُ مضرجاً في الرمل كان الوحشُ ينهشُ، والجوارحُ ترصدُ الأخطاءَ
تختال القوافلُ والقبائلُ فوق أشلائي وتنساني
سأفديه مشى بي كي يردَّ الموتَ عن باقي كتابي وانتحى بي في نبيذ النص يمسح عن جراحي ليلَ أصحابي
يصبُّ الماءَ لي من قلبه ويقول لي
نمْ مرةً، واهدأْ قليلاً، ريثما أمحوكَ من هذا العذاب
هل كان يقرأ في كتابي ؟
أفدي صديقاً مثله
يرتادُ بي ويرتبُ الفوضى ويحضر في غيابي.

***

القتل الملكي

أمشي وأشمُّ العطرَ الأصفرَ يتبع خطوي ويشدُّ قناديلَ الرملِ زنابقَ في صمتِ الصحراء أجسُ الريح بعينينِ جناحينِ أطيرُ من الذعر، فتهوي قدماي كأنَّ الرملَ شِباكٌ شَرَكٌ هذي الصحراءُ بلادٌ غادرةٌ هل في العطر الأصفرِ رائحةُ الفتكِ هل الأنباءُ رياحٌ سُودٌ تهذي هل أحلامُ العطرِ بكاءٌ مكتوم
كأنَّ نجوم الله ثقوبٌ تخدع أقدامي
يا أيامي انتبهي
ليلُ العطر الأصفر يرصدُني
ها إني أهربُ من بيتِ الموتى
فأرى القتلَ الملكيّ أمامي

***

نجمة الكتاب

ليس في السجن ما يُستعادُ سوى جنة الليل
غيرُ السماء التي تحضنُ الروحَ
تلك حريةٌ
ذاك ماءٌ زلالٌ يُطهرني عندما أستفيق
أيهذا الصديق
ليس لي في السجن غيرُك
وحدك تنتابني مثل درسٍ وحيدٍ
ليس في السجن ما يستعادُ
سوى نجمةٍ في كتاب الحريق

***

الشاعر

هل كان يروي أنه سيموت قبل أوانه
ومتى أوان الموتِ
كيف يموتُ؟

***

التوأم

هل أنا أمْ أنتَ
أجَّلنا مراثينا
وسَمَّينا المرايا
رَأَينَا في الله

***

جراح الروح

تلك الجراح الغائرة، محمولة في مستحيل الروح جراحٌ أكنز بها جيوباً غير مرئيةٍ مثل تعاويذ الكتب تطلع لها جذورٌ زرق يجفُّ فيها دمٌ قديمٌ ويَصدُرُ عنها أنينٌ يسمعه الممسوسون بالتحديق في الوصايا

***

رسالة السيف

كتبتُ لمستقبل المستحيلِ
لليلٍ طويلٍ
لمنعطفٍ خاطفٍ
وكتبتُ لكي أحتفي بـالرحيل المحنّى بحرفٍ نحيلٍ

أقدّمُ خطوتي التالية برعشة قلبي
عيناي نحو الأقاصي،
كتبتُ لأن السيوفَ ستتبعني بالقبائل
أو بالرسائل
قبل الحتوفِ التي تسبق الهاوية

***

شال خولة

مَنْ أعطاكَ موهبة التماهي في قميص الضوءِ
ما معنى انهيارِكَ ضارعاً في شالِها
تبكي لها،
أو تصطفيها دون تِسعٍ من نساءٍ يستبقنَ الحب
من أعطاكَ موهبةً لأن تُصغي لها
مثل انتحابة شهوةٍ تنتابنا
هل كنت تنساها وتكتبُ صيغةَ الماضي ضميراً غائباً كي تستعيدَ الماءَ في نارٍ تجللَ وشْمَها
هل كان يكفي أن تزيحَ الضوءَ عن جسدٍ
وتصقله بشعرٍ جامحٍ لتنال خولة شهوةَ المعنى وقاموسَ الدلالةِ
كلما انتابَ القبيلةَ خارجٌ أدخلتَها في الماء
من أعطى يديك السر كي تحنو على أحوالها

***

الصورة

في ندمِ الغريقِ ويقظةِ البحار،
قايضتُ، انتظرتُ مؤجِلا موتي
تُرى ما المستحيل،
وما تفاصيلُ القتيل،
إذا انتهتْ أخبارُنا في ذيل أسطورة
مَنْ أَلَّـفَ الصورة؟
من يستعيد خسارة في الدم
من يفهم غموضَ سجالنا وتناقض الأخبار؟

***

انعتاق الشهوات

دَع للهواءِ طريقةً مُثلى لكي يلهو بنا
دعنا ثلاثة أنهرٍ تهذي بماءٍ طائشٍ
دعنا من الأقداحِ زاخرةً بخمرٍ نائمٍ
دَعْ للهواءِ مسافةً تنتابنا
دع بابَنا الموصود مفتوحاً
ستأتي الريحُ يأتينا الترنحُ
دع مزاجَ الخوفِ يُخرجُنا عن التقويم
دع ثلجَ الرصانةِ وانتخبْ عصفَ الجنون
دع للقبيلة قيدَها واخرُجْ معي حراً من التقليد
هذي البيدُ بيتك
والصعاليكُ الزنادقةُ النجومُ دليلُكَ الليليّ
دعهم يحرثونَ البحرَ أو يَرثونه
وامدحْ لقلبك حزنه
واصقلْ له ختمَ الخروجِ ولا تَعُدْ
تِـهْ في ضياعِكَ واستعدْ حريةَ التأويلِ
خُذْ نفسَ المسافةِ
بين فردوسٍ حبيسٍ أو جحيمٍ مطلقِ الأحلامِ
واتركْ للقصيدةِ أن تقولك
دعْ لها أحوالَها واتبع هواكَ
اشربْ بلا قدحِ
وقلْ شعراً بلا لغةٍ
ودع للأبجدية فرصةً للحب.

حرٌ أن ترى في الرمل تاريخَ الغبار
وسيدٌ في وحشةِ الصحراءِ
وحدَكَ تقتفي ليل النهار

رجفةٌ مُثلى لكي تلهو بنا أحلامُنا
أن نستعيدَ الريشَ في أقدامنا
شعرٌ إذا فاضتْ كؤوسك،
واحتمالٌ طائشٌ، فاحرسْ خطاكْ
اكتبْ لتنسى
وانتخبْ بابَ الرؤى واحضنْ نقيضكَ
ليتَ للصحراء عينا كي تراكْ

***

سهرة الشغف

1

يكفيك يكفيك
ما ينتهي في البقايا سيبدأ مثل الشظايا
لكَ الشخصُ و النص لي
انتهيتُ ابتدأتُ تمثلتك، بعينين شاخصتين، لقدميك مأسورتين، ليديك مغلولتين، للتشهي مختلجاً
الخط والحبر والدواة لك أنت أنت وضعتُ زئبق الوقت في عظامي وانثنيتُ انتميتُ في غصونٍ غضّةٍ
آخيتُ حجراً من جدارٍ سحيقٍ قرأتك رأيتك
تبطنتُ ما ينهض فيكَ وما ينامُ
طار بي حلمٌ
ريشك لي وأجنحتي لريحك الهائمة
يكفيك يكفيكَ

مائدتك ممدودة وشغفي يفيضُ
كلما دارتْ زجاجةٌ طاشَ سهمٌ و صرتُ لك الحبر في الخبز
تنتهي في البقايا بدأتُ الشظايا
لا مسافة
بيننا دَرَجٌ بيننا حوارٌ
ربما امتزجنا اختلجنا ربما تقاطعتْ أعضاؤنا عناصرُ تقرأ تكتبُ أنا الحرف والكلمات ربما انتحلنا الصفات
استحلنا

2

بدأتُ من شخصك اللطيف،
من الهمهمات والوشوشة،
مما يسمى أول الحب بدأت من الطير يخطئ الشراك مما سيكفي من الولع، ويمسّ الشهوة، ويصقل النص نعمةٌ خيطكَ القديم في قميصيَ دفءٌ ودرسٌ لجناحين والريح تسأل
يكفيك يكفي
أقول ما لم تقل ما سهوت وما نسيتَ وما ضاق وقتك عنه كلما أصغيتُ استيقظَ وقامَ بيننا الوقتُ بيننا المكان بيننا ما يشفُّ عن الأشباه والنقائض لستُ لكَ ولستَ مني بيننا الأسلابُ والملوكُ
ولنا الخيطُ والقميص

***

أمل

لم تزلْ أملاً لنا
أحفادُ أحفادٍ هنا
أسلافُنا كتبوكَ في نصِّ الوصايا كلما متنا تذكرنا
كأنك غائبٌ لا تستعاد
كأنما للبحر صحراءٌ تضيّعه
وأنتَ قميصُها المهتوكُ
تطلبك الملوكُ، ويستعيرُ مجازَكَ الصعلوكُ
شعبٌ يائسٌ
أملٌ لنا
- متنا انتظاراً أو تمزقنا شظايا-
أنْ نؤلفَ جنةً
ونخطَّ في قرطاسِها من كأسِك المكسورِ
شعراً أو نبيذاً
فاهدِنا أنْ لا نموتَ قبيلَ موتِك

***

الحرية

يا صديق المسافات
يا لاجئاً للفلكْ
بيتك حرية الروح
في المفازات
أو في المنافي
بلادك
تلك التي كلما جئتَها سوف تعطيك
لا تستبيحك أو تسألكْ

***

طفولة

لم تزل طينةً
هذه الأبجدية
لم تزل بكراً في ماء الخليقة
لم أزل طفلاً ولي حق ابتكار الكلمات
لي شعر البداية
وهي تصحو في سبات البشرية

***

كونشيرتو الضياع

ضاعَ على رسلِه
أغفى على فرسٍ ضائعة
أضاعَ بوصلة الوقت
أرخى خريطته كي يضيع
لم يضع مثله شاعرٌ
لم تضيِّع بلادٌ فتىً مثله
ضَيَعه الضائعونَ
كلما ضاعَ في ليلِ أحلامه
أضاءت له الخطواتُ الطريقَ
على رسله
ضائعٌ ويضيعُ
ويحنو عليه الضياعُ

***

التجربة

عانيتُ ما يكفي،
قلبٌ تَمَزقَ في اندلاعات وفي لُججٍ
وقصيدة تحنو على ضَعفي
وسلاحُ أهلي فاضحٌ أضعافَ ما يُخفي

***

خذلان

لم تكنْ لي في كتابك آيةٌ أمحو بها حزني قبيل الموت
تذْكر؟
كنت وحدي أستعيد الصوتَ
حين انتابني قتلٌ دعوتَك كي تصدَّ السيفَ حولي
لم تكنْ لي

***

من أين ابتدأت

من أي البلاد أتيتَ من أين ابتدأتَ
البيتُ أم زنزانةٌ أم حانةٌ
من أين يبدأ شاعرٌ، فيصير ورداً
هل بلادك جنةٌ مفقودةٌ
من أين تبدأ عادةً ولديك ما يكفي من الأخطاء
بيتٌ أم بلادٌ أم فرارٌ شاسعٌ
من أين أسماءٌ لديك
وإخوة ترثيك قبل الموت
أيان ابتدأتَ لديك ما يكفيك
تيهٌ ضائعٌ
ولديك خيلٌ نافرٌ ولديك كأسٌ تاسعٌ
إذهبْ لتشربْ
وابتدئ من حانةٍ تهذي وتبتكر المكان
هذي بلادٌ سوف تنسى ظلها
فاصرخ بها تصغي إليك

ليست بلاداً
ربما رملٌ غريبٌ ربما جُزرٌ وتنكر أهلها
ارجعْ لها
هذي بلادك
أينما يممتَ وجهك عُدْ لها
بيتٌ ونصفُ زجاجةٍ وثلاث دوراتٍ من التأويل لا امرأةٌ لتهوى لا عدوٌّ صادقٌ والكأسُ لا تمحو فراراً قل لنا من أنتَ من أين ابتدأتَ وكيف طابَ الشعرُ في البحر الطويل
وأنت في الصحراء تزدرد الغيابَ
فقل لنا من أين تبتكر الكتاب .

***

جنة القلق

كنتُ في برزخٍ النار ما أوسعَ العيشَ فيه
أكثر حرية مما يُسمى حياة
يفتح الله لي طاقةً
- كنتُ سميتُها خولةَ الحلم-
أرخي بها جنةً مشتهاة
كأن النجاة أراجيحُ موصولةٌ بالغسقْ
مَنْ رأى جنةً حرةً في القلقْ
نجمةً للجهات

***

نساء

يقول : النساءُ المليكات أغوينني
يقول : ومَلَّكتهنَّ الأغاني الحميمات
من خيط شعريَ
جَرَّدْنَ لي عارياتِ السِهامِ
ليفضَحنني
يقول : ويقتلنني
يقول : أهذا لأني تجرأتُ
شَبَّهتُ ماء المليكات بالسَوْسَنِ

***

الخمر والقدح

وكنتُ إذا ما أمعنتُ في الشعر، وتوغلتُ، وفاضتْ الخمرةُ على القدح، ذهبتُ إلى النثر لأجد نفسي في تخومٍ جديدةٍ والجديدُ غريبٌ وجميلٌ في آن، ما إن أضعَ قدمي على حجرٍ شَبَّ، أو أغمسها في طينٍ هَبَّ، فلا أخرجُ من النص إلا ملطخاً بالأحبار والخطايا، متشظياً مترنحاً مشحوناً بالريح والأجنحة فيسألني بعضُهم
وما النثرُ يا رجل؟
فأقول إنه الشعرُ عائداً إلى البيتِ وحده

***

كأس البحر

إذا طاشَ ماءُ الجنونِ به، وهو في اللجِّ،
جَرَّدَ محارةً حرةً
ليصوغ بها يأسَه
ثمّ يصغي لبحر النحيب الغريب
الذي فاضَ في كأسِه

***

أزل

لا تزال القبائلُ فينا
لا يزالون يستحضرون لنا وقتنا الأزليّ
في خطوهم فوق آثارنا محْونا
لم يعد ممكناً أن نقدِّرَ
هذا الذي قادَ أسلافنا،
شاعرٌ أم نبيّ

***

ماذا تريدون منّي؟

كيف تريدونني أن أراه،
وهو مستوحش في تجاعيده
كيف لي أن أميز إيقاعه
وهو يخرجُ في كل يوم على الوزن
ميزانه أنه واحدٌ والملوكُ كثيرون
أن القبيلة تقتله والقضاة يرون
كيف تسمونه العبدَ وهو على صهوة الريح حرٌ

ماذا ترون بأشعاره النادرة، غير أخباره الخاسرة
تريدونني أن أرى ما ترون
أيها السادرون بعيداً
سيبتعد الآن أكثر
إن الخراب الكبير الذي تشِيدُونَه، دُونَه
شاهقٌ مثل عيد الرماد
أسمع الآن صوت الهشيم
فهل تدركون الذي تفقدون
طفلكم طفلُ أحفادكم
تفقدون الحروف القتيلة في النص

ماذا تريدونني أن أرى،
غير هذا الشهيق الممزق في كبد الطفل،
في وردة الريح يسرقها الآخرون
وحيدٌ ومستوحشٌ
ويشرد مستنفراً
لا أرى في القصيدة حرفاً سواه

***

تَـقـَدَّمْ

ثقة الإشارة فيك
نزوة تصطفيك
وتغنيك
تعطيك أنخابك الباكرة
تَقَدَّمْ وفكّر
صديقٌ ساهرٌ في انتظارك
قُـدْهُ بنارك
واتركْ قصيدتك التي سوف تأتيكَ
تأتيكْ

تَـقـَدّمْ
كلما أخبارك استعصتْ على التفسير
تفديكَ
مثلما ذئبٌ يعبُّ الكأس في صخب
تَـقـَدّمْ،
ينتهي الموتُ الذي يفنيكَ
والمعنى سيغنيك
وتأويلك سُلَّمْ،
فتعلّمْ

***

في رفقة السيد الضخم


(كتاب الشعراء)
نَدَامَايَ بِيْضٌ كالنُّجُومِ

طرفة

"نقلت مرويات العرب أخبار شعراء عرفوا طرفة، سبقوه أو عاصروه أو أعقبوه، عاشوا في أمكنة مختلفة وأزمنة متباينة ذهبنا نختار شذرات من أشعارهم، ونتخيّلهم شركاء في رسم صورته"

(كل ما بين هلالين مزدوجين هو من نصوص الشعراء المشار إليهم)

عدي بن ز يد العبادي

قال : إلبَـسْ جديدَكَ

سيقول
لم يكن ليذهب إلى بلاط الملك نفورُه يتجاوز القصرَ، وأحلامُه أبعد وأغنى سيجدُ في الحيرة من نعمة المعرفة ما يُغنيه عن الجاه والعطايا ليتَ الوقتَ اتسعَ له فقد كان ينهل من نهرين الحروف والحانات غير أن البحرين كانت قاتلة له

***

النابغة الذبياني

قال :فإن يهلك أبو قابوس يهلك
ربيعُ الناس والشهرُ الحرامُ

سيقول
إذا لم تكن تمدح المليكَ
وتصقل جوخته كل يوم،
فمنْ أين للشعر سَطْعُ النجومِ
وأي درسٍ بلا حكمةٍ ستتركه لشعرٍ يليك

***

الأعشى

قال : حتى إذا لَمِع الدليلُ

سيقول
لو أنَّ امرأة طوته بدفئها لكانت حَمَتهُ من جَور الحياة، ومَنَعَتْ الموتَ عنه ليس مثل الحب حِصنٌ ضدّ المكان المعتم والزمان المنصرم
وما كان له أن يموتَ باكراً

***
الحارث بن حلزةّ

قال : لا تخلنا على غرائك إنا
قبل ما قد وشى بنا الأعداءُ

سيقول
والله أن وشايةً قد وضَعت طرفة في مهب نيران آل محرق ملك الحيرة عمرو بن هند الذي لم يكن يصغي لشعرٍ لا يسمعُ فيه مديحاً له

***

أوس بن حجر

قال : نُبئتُ أن دماً حراماً

سيقول
كلما نجا شاعرٌ من مديحٍ، نالَ الرثاءَ الكامل الجميل وحفظ للشعر المكان والمكانة لم نصدر مما جاءَ به طرفة ولن يَذهبَ إلى ما ذهبنا إليه امتدَّ بنا العمرُ للندم أما هو فلا

***

الممزق العبدي

قال : هو الموت خيرٌ للفتى من حياته
إذا لم يثبْ للأمر إلا بقائد

سيقول
لم يعرف الخوفَ
تلك جريرته
والجريئون لا يَسلَمون

***

علباء بن عوف بن وائل

قال : أخذتُ لدينٍ مطمئنٍ صحيفةً
وخالفتُ فيها كل من جارَ أو ظلمْ

سيقول
ننتمي لأرومة طرفة
وتطالنا قصيدته التي رأتْ الموت وهو يحدّقُ
قال لنا الدرسَ باكراً
قلْ ولا تخف أو خَف ولا تقل
أما هو فقد قال

***

سحيم عبد بني الحسحاس

قال : شدّوا وثاقَ العبـد لا يفلتكـمُ إنَ الحياة من الممات قريـبُ
فلكم تحدّرَ من جبيـن فتاتكـم عرقٌ على متن الفِراش وطيبُ

سيقول
شُدّوا وثاقي
هذه ناري وأعرفها
ستكون لي عطرَ العناق
وجنةً تهتاج بي
نارٌ ستطفئني وأحرقها
شدّوا على ليل من الشهوات
خلّوا خولة المقتول
في سجن السرير
وجهزوا لي النار
أبرأ في جحيمي
كلما فاض النبيذ على يدي
شدّوا وثاقي هذه ناري
وشهوتها سعيري والدم الباقي دمي قبل احتراقي

***

عمرو بن كلثوم التغلبي

قال : وإن الضغنَ بعد الضغنِ يفشو
عليك ويخرج الماءَ الدفينا

سيقول
شاعرٌ أجمل من الملوك جميعهم
كيف يجرؤ عمرو بن هند على قتله
لقد أتاحت لي أمي شرفة ذهبية أمنح منها طرفة تاجاً لا يطاله الملوك
لئلا يجرؤ ملكٌ على شاعرٍ بعد ذلك

***

المتلمّس

قال : لعلك يوماً أن يسرك أنني شهدتُ وقد رُمَّتْ عظاميَ في قبري

سيقول
تعرف الآن أنك وحدك
وحدي تركتك
أسلمتك للنص
يروونك
يروون عني بأني
تهجيت في غفلة الراوية
كتاباً سيأخذني هارباً
وفيما تروح إلى الهاوية
تعرف الآن وحدك تعرف
أنك أسلمتني للبلاط
الذي سوف يغتالني
تعرف الآن أنا وحيدين ضعنا
على صفحة نائية

***

يزيد بن الخذاق الشني

قال :فأنظرْ بسيفِك مَنْ به تَردي

سيقول
أعددتُ شموساً أصعدُ بها أوجَ ذلك الفتى الباسل
نضع للسماء سيفاً يعرف من أين يأتي ويدرك إلى أين يذهب
ذلك هو سيف الشمس والغيم غمدٌ له

***

الذَّهاب العجلي

قال : به الْبَقُّ والحمّى وأسْدٌ خَفِيَّةٌ
وعَمْرو بن هند يَعْتَدِى ويَجُورُ

سيقول
لا تقل للهواء إنني هيأتُ للنوم
قل بعض أخبار خولة
وهي الوحيدة في الليل
لا تقل للهواء عن الوله الطفل
عن وحشة طالت الروح
عن مستحيل الفتى
وهو يمضي إلى الموت
مثل الشهيد
لا تقل للوليد
عن المستقبل المرّ
قل للهواء الجديد

***

عبيد بن الأبرص

قال : فكل ذي غيبةٍ يؤوبُ وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ

سيقول
تداركتَ أرواحنا بزهرة الزنجبيل
وبالعنفوان النبيل
بالرفض في العطر والرائحة
بلهجتك الفائحة
وحررتَ صوتاً من الشعر فينا
من الذل و النابغة
من المدح حتى حدود الحضيض
حتى التبذل والكسب بالشعر
حتى خسارتنا الفادحة
لقد كان ختماً كئيباً
فأشرقتَ بالفاتحة

***

لبيد بن ربيعة

قال : سأستمتع بموتي لجدته لكنها جدة غير محبوبة

سيقول
ليس ميتاً، هذا الذي يحضن نحيبك وأنت في وطأة الفقد ليس سوى جمرة في الحنجرة زمنٌ يتمطى مثل عقارب الفولاذ
كأنك في لحظة البدء تفقد روحك في الكلمات والحروف فيما تحترق في أبجدية تخذلك
أبجديةٍ لك كأنها عليك

***

المثقّب العبدي

قال : فإما أن تكون أخي بحقٍ فأعرفُ منك غثي من سميني
وإلا فاطَّرحني واتخذني عدوا أتقيكَ وتتقيني

سيقول
لا تؤلفْ لهم شعرَهم
اقرأ عليهم وصاياكَ
واصقلْ زجاجَ انتظاراتِهم بالرؤى
وانتظرهمْ هنالك
وانفرْ بهم
علهم يستفيقون
وانهرْ بصوتك
قلْ إنّ بيتَ القصيدة والأصدقاء
الذين ستسطعُ شمسُ الحقيقةِ في صمتهم

***

المنخّل اليَشكري

قال : واستلأموا وتلببوا إنّ التلببَ للمُغِير

سيقول
ضاعوا برمل ملوكهم وتذكروني
ونسوا قوافلهم على بِـيــدٍ مسورةِ التخوم
مدانةَ بالقتل شاخصةَ العيون
تركوا الفتى المغدور في حوش الوحوش
ويمَّموا نحو المتاهة
ينهلونَ الرملَ من عطشٍ
يطاردُهمْ جنوني
عشقي يقيدني أنا حرٌ
وهُمْ أسرى ضياعهمُ
وطرفة سيدٌ ضخمٌ
وتقتلني ظنوني

***

الأسود بن يعفر

قال : لمَ الخليُّ

سيقول
ليته نالَ نوماً غير مغصوب صادفتُ خطواته في رمال الليل هائماً شارداً عيناه تشعان في العتمة مذعورتين صادفته في القصيدة في الكلام القصيّ من النص وهو يؤجل أخطاءه كي يموت وحيداً لكنه لم ينم كيف يصغي شاعرٌ مثله لأحلامه وهو في قفص المطاردات والدم الطائر المطلوب
صَحَّ له أن يخسر
ويصحُّ لهم الندمُ على ما يربحون

***

المرقش الأصغر

قال : أمِنْ حُلمٍ أن تسكتَ واجماً
وقد تعتري الأحلامُ من كان نائماً

سيقول
سيدٌ يسعى إليه
ويروي العطاشى بشعرٍ من القلب
لن يعرف الرملُ في نومه
شاعراً ذادَ عن أمه
مثل طرفة
مثل انبثاق التراتيل تسعى إليه
فيسقي السكارى على رسله

***

الحارث بن ظالم

قال : قفا فاسمعا، أخبركما إن سألتما

سيقول
نلتُ كتابَ قتلي من الملك القديم
وها أنتم تقرأون كل يوم كتاب موتكم من ملوككم
دونَ أن تتعظوا أو تفهموا الدرس
لعلكم تستحقون ذلك

***

عنترة بن شداد العبسي

قال : إني امرؤ سأموتُ إنْ لم أقْتَلِ

سيقول
أما بعد،
فبعضُ الحب قتلٌ إذا لم تضع السيف في مكانه وما كان هذا من فعل الفرسان فإن لدى طرفة من بسالة القلب ما يؤهله لأن يقود صعاليك خيمتِه خارجَ مضارب البدو وبعيداً عن أحياء الحضر
رأيتُ أن يأتي شاعرٌ يلجأ إلى الشعر ويلوذ بالقصيدة،
فيجد فيها الحنان المفقود

***

عروة بن الورد

قال : أقسِّمُ جسمي في جُسومٍ كثيرة

سيقول
أطلقْ عبيدَك
أو تحرَّر من عبيدِك
لستَ في ظلٍ
ولا شمسٌ ستحمي شمعك المنذور
دَعْ للنور يفتح كوةً في قصرك المأسور

أطلق قبل أن ينساكَ عبدُكَ
وانتظر وانظر وراءَك
لم يعد أسلافك القتلى يرونك
غيرَ خيطٍ في المدى المحظور
أطلق عبدك الباقي
فثمة شاعرٌ في قيده المكسور

***

المسيب بن علس

قال : ولقد رأيتُ الفاعلين وفعلَهم

سيقول
كأننا في الحلم كلما التفت أحدُنا وجدَ سيفه في غمد الآخر فلا نهُبُّ إلى حربٍ، ولا ينتابنا قتال
ليس بيننا سوى خيط من الشعر هو جسرُ الخرافة التي يؤلفها الناسُ في الليل، وينقضونها في النهار
وما يبقى منا هو الحب

***

قيس بن جروة الطائي

قال : فقد يترك الغدرَ الفتى وطعامُه إذا هو أمسى، حلبةٌ من دم الفصد

سيقول
لعمري إن طرفة قد وضع دمه في موقد النيران من غدر الملوك
والحق أن في ذلك مقتلاً لمن لا يأخذ الشعرَ آلة للتاريخ
وبوصلة للعدل
ومرآة للشمس

***

ابن أبي الرعلاء الضبياني

قال : ليس مَنْ ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ
إنّما الميْت ميّت الأحياء

سيقول
حتى إذا ما استقر القاتلون في وهم راحتهم ثارت في نفوسِهم صورُ الندم الذي يضع لهم العذاب في البيت والوسادة
وما عليهم إلا أن يقتلوا شاعراً فيدركوا ذلك

***

لقيط بن زرارة

قال : إن خير الملوك أفضلهم نعمة في الرقاب

سيقول
فاربأ بكأسك
واشتمل نخبَ النديم
ولا تصدّق أن هذا التاج لك
سيقالُ لك
ولسوفَ تُعطى جنة
وحديقة الأحلام والشمس البعيدة كلها
فيما يُعدونَ المشانقَ والجنازةَ
والرسالات الأجيرة تحتفي كي تقتلك
اهنأ بخمرتك النبيلة لا تصدقهمْ
قضاةٌ، مجرمونَ،
يؤجلون القتلَ حتى تغدرَ النيرانُ
لكن
سوف يُخبرك الحقيقةَ مَنْ هَـلَك

***

الخرنق

قالت : ألَسْتَ تَرى القَطا مُتَوتراتٍ وَلَوْ تُرِكَ القطا لغَفَا وَناما

ستقول
أبكي على شجر الأراك
كأنه طفلي
لم يبق في ماء القصيدة شاعرٌ
يا وردة القتل
أبكيك أم أبكي إليك
كأنني، عند انتظارك،
ثاكلٌ مفقودةُ العينين والأهل
دع لي قميصك
بعضَ أشعارٍ، رقىً مسحورة، ولعاً حزيناً، طيشَ فتيان،
أخبئه هنا، وأموتُ في شجنٍ على مهلي

***

سلامة بن جندل

قال : صَرفٌ ترى قعرَ الإناء وراءها تودي بعقل المرء قبل فواق
ينسى للذتها أصالة حلمه فيظل بين النوم والإطراق

سيقول
طائشاً
كان الفتى في ليل خمرته
ومراهقاً، غِراً صغير الشعر
لا يقوى على الشكوى وجمرته
قليل الخيل غضاً في عريكته
تمادى مولعاً شغفاً
إلى أن فاضت الأقداحُ في دمِه

***

أفنون التغلبي

قال : إن الحتوف كثيرة

سيقول
أن نأخذَ بثأره الآن
وهو في نشوة الموت بالنبيذ

***

الربيع بن زياد العبسي

قال : يرى الشاهدُ الحاضرُ المطمئنُّ من الأمر ما لا يرى الغائبُ

سيقول
تلك الموسيقى الوارفة
ذلك الدم الضاجُّ في الأوردة
كل هذا القلب الجارف كالعاصفة
أمضيتُ العمر كله باحثاً له عن اسم آخر غير القصيدة
فما وجدت غير طرفة

***

زهير بن جناب الكلبي

قال : طحنتهم أرحاؤها بطحونٍ ذات ظفر حديده الأنياب

سيقول
فإذا كان طرفة قد ذهب إلى عمرو بن هند مبعوثاً لاستصدار حق أهله في العيش فقد وقع في الخديعة مثل الطير في الفخ ليس من الحكمة الذهاب الى خصمٍ بوصفه حكماً عدلاً لقد خبرتُ ذلك عندما فعلتها وقد عالجتها بالنبيذ قبله مثله

***

أبو قردودة الطائي

قال : إن الملوك متى تنزل بساحتهم تَطِر برحلك من نيرانهم شرره

سيقول
أما وقد أطعتُ مشورة زوجتي كبيشة فنلتُ الخيبة ولم يسمع صديقي ابن عمار مشورتي فنال القتل إن طرفة لن يكون بحاجة لمشورة شخص مثلي، وهو العارف بغرائز الملوك، القابض على جمرة الشعر وهي الأرحم على الشعراء

***

عمرو بن قميئة

قال : أتاك عدوٌ فصدّقته فهلاّ نظرت، هُديتَ السؤالا
فإن كان حقاً كما خبّروا فلا وصبتْ لي يمينٌ شمالا

سيقول
لكأن في الأحفاد دماً شارداً في البرية صوته ساطعٌ وجريحٌ يحق أن تمدحه الملوك وينالُ التاجَ والتختَ والصولجان في الأحفاد جرسٌ أيقظ الأسلافَ من سباتهم أحفادٌ يتوهجون كلما توغلوا في الموت يمضون باكراً مثل الشمس في يوم غائم دمهم في كتابنا والقراءة في الناس

***

شريح بن الحارث اليربوعي

قال : همُ ملكوا الأملاك آل محرّق وزادوا إلى قابوس رغماً على رغم
علا جدهم جد الملوك وأطلقوا بطخفة أبناء الملوك على حكم

سيقول
المديح تاج الشعر
والشعر إنما هو لتبجيل الملوك
وتمجيد السلالة درة الرسالة

***

باعث بن صريم بن ثعلبة

قال : سائل أسيد هل ثأرتَ بوائلٍ أم هل شفيتَ النفسَ من بلبالها
إذ أرسلوني ماتحاً لدلائهم فملأتها علقاً إلى أسبالها

سيقول
غير أن الدلاء لا تمتلئ
والدم لا ينتهي

***

عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر

قال، بعد أن رمى رمحه في رقبة حصان النعمان بن المنذر :
وراءك أيها الملك الضروط فلو شئتُ أن أضعه في غير هذا الموضع لوضعته

سيقول
كان عمرو بن هند يرى عبيداً يذهبون إلى مديحه،
ولم يكن طرفة عبداً،
فلم يمدح ولم يذهب إلى ملك
واكتفى بالشعر عن كل ما يحط من شأنه

***

حجر بن خالد

قال : فلم أجد كمثل أبي قابوس حزماً ولا نائلا

سيقول
لم أكن أمدح
لقد كنت أصف كرماً ونعمة، يغمرنا بها أولئك الملوك، الذين توارثوا الرفعة، والاحتفاء بكل من يقصدهم من الشعراء
تلك هي تحية من يدعوك ويلبيك ويذهب إليك

***

جابر بن حني

قال : نعاطي الملوك الحق ما قصدوا بنا وليس علينا قتلهم بمحرم

سيقول
كنا قتلنا جميع الملوك
غير أن الدم لا يعيد الدم
لكنه يفتح دماً آخر

***

حسان بن ثابت

قال : لسانِـي صـارمٌ لا عيـبَ فيـهِ وبَـحـري لا تكـدرهُ الـدلاءُ

سيقول
لقد كنتُ أحضرُ مجلسَ النبي وجبرائيل ينصرني،
فيما النبي يستشهد بشعر طرفة

***
عمر بن الأطنابه

قال : يُشفون بالأحلام داءَ الجاهل

سيقول
كلما اختلفَ النحاة على خلقه
أخفقَ الرواةُ في قتله،
يجتازه الغافلون لفرط المسافة بين الرمح والرماة
ويتمجّد به الحالمون لخروجه الشاهق
عن الخلق والخالق والخليقة

***

عمرو بن ملقط

قال : إنك قد يكفيك بغيُ الفتى

سيقول
لم يزل في مستهل الشعر،
قال لنا وقال عنا
فتىً جاء كي يسألَ الله ويؤنس المستوحشين
بكتابٍ تعزفُ الجنُّ به

***

أبو دؤاد الأيادي

قال : لا يرسل الساقَ إلا ممسكاً ساقاً

سيقول
كان سفره يشقُّ حبابَ الماءِ ، غير أن البحر أضيق من سفينته، تفيض سهرته بالنبيذ، كأنه كلما انتهى من كأسٍ طلب كأساً ثانية، لكأنما الخمرة هي خيره المنتخب في عالم الشرور الذي يحوط به ويطارده ويطلب دمه حتى قال :أيأسني من كل خيرٍ طلبتهُ

***

عبد القيس بن خفاف البرجمي

قال: واجذذ حبالَ الخائن المتبدلِ

سيقول
قَـلَّ كلامُه،
فقيلَ الكثيرُ عنه،
وقيلَ كثيراً عليه

***

علقمة بن عبدة الفحل

قال : لم أدر بالبين حتى أزمعوا ظعنا

سيقول
خرج عن جنة مسورة بأحداق زجاجية وآلات ثملة تنداح في ماء مخمور في سماء حائرة تتطوح لفرط الأخلاط المهتاجة وفرط الشهوات بَشَرٌ يرحلون في موتٍ وشيكٍ بلا اكتراث يضيئون عتماتهم بالرماد ويضللون الخيل والسابلة

***

ورقاء بن زهير

قال : يُريدان نصلَ السيفَ والسيفُ نادر

سيقول
كلما اكترثَ الموتُ به،
جَدَّتْ الأشعارُ تحميه وتحرسه

***

ضمرة بن ضمرة

قال :مهلاً أيها الملك، إن الرجال لا يكالون بالصيعان، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه؛ إن قاتلَ قاتلَ بجنان، وإن نطقَ نطقَ ببيان

سيقول
تعفَّفَ عن موائد طهاةٍ يمدحون المراثي، أحداقهم تشق الأفق وترخي الأستار على تسع نساءٍ في خدور الليل نسخوا لنا الكلام الأخير للباطل عن بغاة العرب وبغاياه، في تاريخٍ يشير لحقوق الغيم المهدورة تعـفَّـفَ طرفة فتخفَّفَ من أوزارهم

***

عدي بن مرينا

قال : فلا تجزع وإن رثَّتْ قواكا

سيقول
لولا ذئابٌ تحرسُ الميزان له لانهارت أفلاكنا، وتصدعت أبراج شيدناها لنصدَّ عالماً نطل عليه من الأعالي
صادفته في وحشٍ بين القصيدة وحانة شهلاء، هائماً في سديم المعنى،
فلم تكن الأبجدية تكفيه

***

أمرؤ القيس

قال : أصاح تَرى برقاً أريك وميضه

سيقول
لن يسعى الى مُلْكٍ مثلما سعيتُ
لقد كان يرى وميضاً أحلى وسوف يذهب إليه
وسيغبطه الملوك على حريته،
كأني أقرأ له ما كتبتُ

*****

نحيب الجبل وهو يحنو

(كتاب الشهادات )

يَجُوْرُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْرَاً وَيَهْتَدِي

طرفة

إفساد لا إصلاح معه

رواةٌ يرتجلون الشعرَ قبل الخبر أشهرُهم حمّاد الراوية أضعفُهم ثقةً كلما تعلقَ الأمرُ بتماسك الرواية وصِدقِ المصادرِ ونزاهة الضمير كان أهلُ البصرة يُضَعِّفونَ أخباره، ويذكرونه مضطربَ الصنيع مسارعاً لارتجال المنسوب
سأله شخصٌ ذاتَ مجلسٍ عن قصيدة لم يتفق الآخرونَ على صاحبها فقال ? اجعلوها لطرفة
قال عنه أبو فرج الأصفهاني ? كان ينتحل دون حياء
ووصفَ المفضّل الضبّي عملَ حمّادٍ بأنه إفسادٌ لا إصلاح معه

***

عبدالمنان بن المتلمس الشعر كان هناك

رُويَ عن عبدالمنان بن جرير بن عبدالمسيح ، ابن المتلمس، أنه قال عن أبيه كان حين تقدَّمَ به العمرُ أخذ يهجر ويهذي فسمعته يقول عن ابن أختٍ له اسمه عمرو بن العبد أنه مات صغيراً وأعطاه بقية عمره ليعيش طويلاً عقاباً له على وشايته به وتركه ضحيةَ ظلامين القبيلة وعمرو بن هند
وسمعته يردد
إنما الشعر كان هناك حيث تركته

***

ابن رشيق كان يصف ما يحب

كان طرفة وَصّافاً يَصدر عن أغوار العاطفة ويلمس الحجر الكريم في جواهره داخله أكثر جمالاً من ظواهره ومن الدرجات القصية في غموضهِ يرى إلى الوحش الصديق الوحش الجميل الآتي، مما يفسّر لنا الصورة التي يصفُ بها ناقة من سلالة الإبل لتصير في شعره كائناً يشبه الحيوان وليس له صلة بالمألوف من النوق لقد كان يصفُ ما يراه بعين قلبه، وهو النقيض كاملاً لما ينظر إليه الآخرون بأبصارهم فإنما هو يصف ما يحب، والشعر في جوهره فنُّ الوصف وكلما كان القلب محباً فسوف يحسن وصف الجميل بجمال أكثر

***

أبو فرج الأصفهاني لم يرحم هذا الشاعر أحدٌ

يورد الأصفهاني في كتابه الأغاني قسماً صغيراً عن أخبار المتلمس ونسبه في ما لا يزيد عن صفحة واحدة، ثم يختم الكتاب أما طرفة فلا سيرة له في الكتاب كله وهذا أمر أثارنا وأيقظ وحشتنا ونحن في سفرٍ شاسعٍ غزيرٍ مثل الأغاني ودفعنا لمساءلة صاحب الكتاب فأباح لنا بما ضاعف شعورنا بالظلم الذي وقع على الشاعر وتخيلنا أن الأصفهاني قال
(ليس سهلاً الدفاعُ عن نقصٍ كهذا في كتاب الأغاني، الذي حضر فيه شعرُ العرب قاطبة، سيكون ظلماً غياب الكلام عن شاعر مثل طرفة، لكن هذا ليس صحيحاً ليس صحيحاً على الإطلاق فالحقُ أنني كتبتُ عنه كتاباً كاملاً هو من بين أطرف ما دونت فقد جمعتُ فيه رواياتٍ شتى، وسهرتُ على تقصي ما استعصى على التدوين والتقدير والنسخ والتحبير قبل ذلك ففي الروايات عن هذا الشاعر ما تشيب له الولدان وتقشعر الأبدان، لفرط اشتماله على قدرٍ كبيرٍ من المفارقات، ودخول بعضه في تخوم الأسطورة وتماهيه مع كثير من القصص والسير التي تتصل بآخرين ليس هذا فحسب بل إن ثمة نزوعاً غامضاً في معظم الروايات لجعل شخصية الشاعر في حياته نقيضاً مثيراً لصورته في قصيدته فكيف يعقل أن يذهب شاعرٌ، فاضتْ قصيدته بخبرة الحياة حدّ الحكمة، متوجهاً لبلاط ملكٍ لم يجفّ بعد حبرُ قصيدة هجائه آملاً في خلعه وعطاياه؟ ثم كيف يراد لنا أن نقبل شخصاً بليداً إلى حد أنه يحمل بنفسه الرسالة التي تنطوي على أمر قتله بالرغم من تنبيهه وتحذيره من مضمونها الخطير بالذات؟ ولشد ما استوقفني أيضاً ذلك الاختلاف البيّن في النصوص التي تنسب إلى طرفة قياساً لقصيدته الوحيدة حتى إن بعض تلك النصوص من الركاكة بحيث لم أجد بداً من طرحها خارج نصوصه حين كنتُ أقولُ عن الشعر
غير أن ما استحوذ على حواسي وانشغل به فكري وخيالي، في سيرة وأخبار هذا الشاعر، تلك الروايات المتصلة بحياته في حانات الحيرة وانغماسه الفاتن في اللهو والمتع، متحرراً من أعراف قبائل العرب في عصره فمن خلال تلك الأخبار تيسر لي أن أعرف الكثير من فنون الموسيقى والغناء حيث كانت الحيرة تزخر بما كان يسعى إليه طرفة بعيدًا عن تجهم مجتمعه ومحافظة محيطه وتلك طبيعة تقارب جانب الفتنة وجريء العبارة وكان في تلك الأخبار ما يستهويني وما يتصل بكتابي في آن واحد
الحق أن ذلك، وغيره كثير، جعلني أنكبُّ طويلاً على الجمع والتنقيب والدرس والفرز بغية إنصاف الشاعر مظهراً مواقع اختلافي وأطراف خلافي مع العديد من الرواة الذين كانوا أمعنوا وعياً وجهلاً ، في تشويه صورة طرفة وهو أحد أجمل شعراء العرب من الرواية حتى الكتاب
وحين أنجزتُ كتابي عنه، ظننتُ أنه سيكون بيضة الميزان في ?الأغاني غير أن ما حدث بعد ذلك جعلني استشعر خطراً سوف يحدق بمن يشتغل في استكشاف كوامن النصوص واستظهار جواهر الشخوص، في صيغة بحثٍ شَكاكٍ طارقٍ للأسئلة أكثر منه طارحاً للأجوبة.
غير أن لكل سيرة وتجربة شرطاً يصعب تجاوزه وليس من الحكمة تفاديه وهذا أمرٌ خصَّتني به تجربتي مع سيرة طرفة وشعره وما حدث بعد ذلك مصداقٌ يؤكد حدسي
انتهيت من وضع المخطوط الأول لكتابي وذاع خبر طرحه الوشيك في سوق الخطاطين وفي اليوم المحدد المشهود من أجل اجتماع أهل الأدب والنقد، من أجل النظر في الكتاب، وتبادل الرأي حوله تمهيداً لتقدير قيمته الأدبية والثمن الذي يستحقه أمام راغبي اقتناء نسخة منه وكنتُ قد حدثتُ بعضهم عن الفصل الذي يخصُّ طرفة والذي كان سبب تأخري في إنجاز الكتاب ليس فقط لحرصي على استكمال الشوارد واستقصاء الهوامل وتوثيق المصادر وتحري الروايات، ولكنه استغراقي في تلك اللذة النادرة بالعمل والكتابة في مثل هذا الفصل الشيق الذي فاض بالمُتع والطُرف والمفارقات الفذة واللحظات العبقرية
وقد عَرفَ بعضهم أنني قلتُ عن طرفة ما لم أقله عن شاعر غيره مستخلصاً، في شكٍ واضحٍ، أنه إذا كان تاريخنا الأدبي عرضة للخفّة والتلفيق من ارتجال الروايات وتهافت المصادر والوثائق ومجاورة الخرافة فكيف سيكون عليه حالُ تاريخنا في حقل المجتمع والسياسة وسير الملوك وأخبار الناس وقد قلتُ أيضاً إن في سيرة الشاعر، التي يتناقلها العامة من الرواة ويتبادلون تناقضاتها، نموذجاً فاضحاً لتاريخ أدبيّ هو ضربٌ من الحكايات التي يرتجلها رواة جهلة عن سياق مجهول وبمعلومات معطوبة الوثائق وقلت كذلك أن هذا يدفعنا الى الاعتقاد بأن معظم ما يتصل بتاريخ العرب هو أقرب الى الزيف والبهتان، لبؤس حقائقه وانعدام وثائقه وضَعف روايات وقائعه المرصودة
وكل ما دونته من سيرة هذا الشاعر في الأغاني لهو اجتهادٌ يَسألُ أكثر منه سرداً يُخبِر فلقد كنتُ، فيما أنا أعمل على كتاب طرفة، أسمع أنين الشاعر وألمس ما يقع عليه من الظلم والحيف من كل حدب وصوب فلم يرحم هذا الشاعر أحدٌ، لا من أهله ولا من أصحابه ولا من قبيلته ولا من حكام زمانه ليأتي عليه بعد ذلك الرواة بالانتحال والقسر والنفي والنقض والإكراه والتلفيق
نعم، لقد قلتُ هذا وأكثر منه عن طرفة ولعلي بتلك الإشارات عن المخطوطة قد نَبَّهتُ مستشعرات الحكام، وأيقظتُ عسس السلطان، فاستنفروا لوقف الكتاب بما يبتكرون من أسباب
ولا أحسبُ أن ما تيسر لي وأمتعني من ضروب الغناء في حانات الحيرة، حيث أخذني إليها طرفة، هي من بين الأمور التي أثارت حفيظة أولئك في بغداد، فليس في ذلك ما استثار أصحاب الهيبة والسَمْت المتربعة على المنابر والدست
ولكن الذي استرابهم وأقلقَ راحتهم هو انحرافُ اجتهادي نحو سبل الشك في الأخبار والروايات، واستجوابي للرواة ومنسياتهم مما أدى بي الى المسِّ بخزائن ملوك الحيرة المحروسة بالجوخ الممسوح بالمدائح، وإطلاقي نواصي الغناء في المنتن من الروائح، بغية إنصاف الغلام القتيل، وكفّ أيدي الممعنين في نفيه وقتله المتواصلين
كان ذلك هو ما أخرجَ الغافلين من سكرتهم، وأيقظَ النائمين من أوهامهم فما إن عرفوا عن اقتراب يوم سوق الوراقين من كتابي، حتى بدأت تردُني الرسُلُ من جهاتٍ جمةٍ محملة بالرجاء والنصح بالتريث وعدم التسرع حيناً، وبالترهيبات والترغيبات حيناً آخر، على أن أعيدَ النظرَ في نصِّ المخطوط وعدم طرحه بما فيه من القول عن ترجمة طرفة وسيرته، لأن في ذلك، حسب زعمهم، مسّاً بملوك العرب وهيبتهم وجَرحاً لسلوك العرب وأخلاقهم
وكنتُ حين سمعتُ إشارتهم عن هيبة ملوك العرب، صَفَنتُ حتى أصابتني الغيبوبة لفرط العجبْ وحين سمعتُ إشارتهم عن سلوك العرب وأخلاقهم، قهقهتُ حتى استلقيتُ على قفاي لفرط الطربْ
غير أني في نهاية الحال لم أعبأ بالأمر فقد أنهيتُ دور الكاتب واستسلمتُ لحال من ترك الحبل على الغارب، معتقداً أن لكتاب الأغاني قوته الكفيلة بالدفاع عن نفسه، والذود عن حقه في النفاذ إلى سوق الوراقين بكامل أجزائه، على أن يقول فيه أصحاب النقد والأدب والكتابة كلمتهم التي يعتقدون
لكن هذا، ويا للأسف، لم يحدث فما إن حان اليوم المحسوب لسوق الوراقين، وفيما كنا نستعد للخروج من الدار الى السوق، إذا بعمال الوراقة يهرعون مهرولين ينادون بأن المخطوطة قد فُـقدتْ من مستقرها المعلوم دون أن يعرف أحدٌ كيف حدث ذلك
واحتجنا وقتاً لنعرف كيف حدث ذلك
ففي بغداد الخلافة لا يحدث مثل ذلك إلا بفعل محترفين لصوص يسهرون على ليل بغداد قبل نهارها ومجريات الأحداث فيها

بلغني خبر فقد المخطوطة قبل تركي الدار، فجلستُ على عتبة الدار بعض الوقت، متأرجحا بين الصَـفْـنَـة والقهقهة ثم بعد ذلك توجهتُ إلى سوق الوراقين مستمهلاً العمال أن لا يعلنوا الخبر في السوق ويا للعجب العجاب ما حدث لهذا الكتاب لكأن المسافة بين الدار والسوق كافية لظهور الأغاني ثانية سائراً على عربةٍ تجرها دابةٌ معصوبةٌ غير مركوبة، لتقف في ساحة الوراقين، مصحوبة برقعة مكتوب فيها ?هذا كتاب الأغاني بعد تحقيق الأماني?

بعد أن تلقف العمال المخطوطة سوف نحتاج بعض الوقت ليكتشف الآخرون من القراء ما كنت قد عرفته في ساعتها من النقصان في متن الكتاب فقد سارع مختطفو الأغاني إلى استقطاع الكتاب المشتمل على ترجمة طرفة دون أن نعرف إلى يومكم هذا مصير الفصل المقطوع ولم يكن لديّ نسخة منه من قبل ليأتي اللاحقون يراجعون عملي بشغف التأويل، دونَ أن يدور بخلد أحد أن ضرباً متقدماً من الرقابة والمصادرات ربما كانت تحدث بطرق كثيرة، لتحجب جانباً من حقائق الحياة وأفكارها
أقول لكم هذا، والله على ما أقول شهيد، لئلا يقالَ في أزمانكم المتأخرة إن تراثكم قد خلا مما يتصل بأمور الحجب والمصادرة، صدوراً من الدوافع نفسها والأسباب ذاتها التي لا تتغير إلا بمقدار:كلُ ما يمسُّ ملوك العرب وهيبتهم، أو يخدش سلوك العرب وأخلاقهم

2

كنتُ حين أقبلُ على الكتابة، أكون في حال من الدقة والتأمل والحرص كأني أصنع الأمر للمرة الأولى والأخيرة فالكتابة أمرٌ موصولٌ بالمتعة والمعرفة إذا أنت أخلصتَ، ومحفوفٌ بالمحاذير والأخطار إذا أنت استهترت أما أنا فكنت أجلسُ الى الكتابة كمن يجلس إلى صلاة في محراب
كنتُ أفحصُ الحروفَ قبل أن أضعها في الكلمات كنت أمتحنُ الكلمات وإيقاعها في الحبر قبل أن أضعها في الجملة والسطر كنت أقيس السطرَ بالمسافة بين النقطة وأختها قبل أن أضعه في الصفحة كنت أضع الصفحة تحت الوَهج والبَهج لكي أعرف اكتمال القول فيها قبل أن أضعها في النص كنت أعرضُ النص أمام الله قبل أن أضعه في الكتاب كنت أزنُ الكتاب بالياقوت قبل أن أضعه بين يدي الخطاط كنت أسهر الليالي بين يديّ الخطاط وهو يخطّ الحروف والكلمات حتى الفجر أسمع صريرَ القصبة وهي في أديم الورق كنت أطلبُ الورقَ من حقول الوراقين وأنتخبُ الطريَّ منه حتى يَصْلَب والرطبَ حتى يجفّ والناصعَ حتى يعتم فللورق عندي طبيعة وحياة وفطنة تقرأ النصَ معي وتحسّه وتعيه? وكنت كأن الحروف والكلمات حيّة تسعى على الورق مثل الناس في الأرض
فاعلم أيها الكاتب، إذا أنتَ لم تفعل ذلك، فلا كتبتَ ولا استمتعتَ ولا أمتعتَ

وأختم فأقول،
إنْ كنتم لا تزالون تأخذون الشعرَ عن حمّاد ، فإنما أنتم تصدِّقونَ الكذبَ الصراح فليسَ مثلَ ذلك رجلٌ يُحسنُ تسويدَ البياض وحبس الورق لاختلاق القصائد، ولعل في كتابيَ حشدٌ شاهدٌ مما قاله هذا الرجل ونَسَبَه إلى رجالٍ كثيرين، قد لا يكون بينهم شاعرٌ، وربما كان خالد القسري قد قسره على بعض ذلك، ولكنه فعلَ ذلك من غيره أيضاً فكيف نقسُر شاعراً على شعرٍ لم يقله

***

الأصمعي رواة يمحون

كانوا ربما اختلفوا
وهم بالشام في بيتٍ من الشعر
فهل حفظوا لطرفة حقَّه في النص
هل أدُّوا تحيتَهم لـ خولة
كلما قرأوا قصيدتَه الوحيدة
أيقنوا أنْ الرواةَ مَحُوا الكتابَ
ولفقوا الأشعار
لا شامٌ ولا نجدٌ ولا نخلُ الحجازِ ذريعةٌ للقول

***

رواية مجهولة ذهب بثمالته

ذكر أن رواةً نقلوا عن ثقةٍ يؤكد ذهاب طرفة إلى بلاط الحيرة لمقابلة الملك غير أن ذلك اللقاء لم يكن سعياً من الشاعر كسعي باقي الشعراء الذين قصدوا البلاط بقصائد المديح طمعاً في العطايا والخلع فثمة من يقول أن الشاعر كان قد نزل عند رغبة رجالات قومه، الذين وجدوا فيه المنافح المحتمل عن حقوقهم التي صادرها عمرو بن هند ونهبتها بطانات البلاط وذوو النفوذ، والدفع إلى تخفيف الجزية وإطلاق الأسرى فوجد طرفة نفسه مضطراً أن يرى نفسه في غير ما اعتاد عليه من أعمال ويُذكر أن المتلمس قد جاء لإقناع طرفة بمرافقته من هذا الجانب الأخلاقي الذي لم يصمد أمامه الشاعر، غافلا أو مستهيناً بالصعوبات والدسائس التي تنتظره في قصر الملك وحوله ويؤكد الراوي نفسه أن طرفة، لكي يقوى على فعل ذلك الصنيع الصعب على نفسه، احتاج لأن يقضي الليل كله في صحبة الخمر الأمر الذي يشي بأن طرفة ساعة ذهابه إلى البلاط كان على درجة من الثمل بحيث سيبدو مترنح الخطوات، وهذا ما سيصفه المتلمس بالتخلّج في مشيته، ويحسبه الملك استهتاراً وخفة
وهذه رواية، على وجاهة منطقها وتخيل احتمالها، ستحتاج دعماً موثقاً يظل غير متاح، شأنه شأن الروايات الكثيرة المختلفة الأخرى

***

وردة ما كان ليذهب

كان كثير الرحيل، اتجه ناحية الحيرة، وأحبَ تلك البلاد وتعلم القراءة والكتابة هناك وتولع بنسائها وحاناتها، وطالما ذهب إلى هناك وحده وفي المرة التي زارها مع المتلمس عاد منها وحده وجاءني حزيناً غاضباً، يشكو المتلمس الذي ظلَّ يزيِّن له الذهابَ معه إلى بلاط الحيرة حيث اعتاد المتلمس ذلك مع غيره من الشعراء وقد دأب هذه المرة على أن يستفرد بطرفة هناك ويستدرجه للذهاب معه، زاعماً له أن الشاعر صوتُ الناس، ينبغي له ويصحُّ ويتوجب أن يذهب إلى كل مكان لإيصال هذا الصوت
فجاءني طرفة فائضَ القلب، وكان يعلم أنني لم أكنْ لأقبلَ له أن يستجيبَ لذلك، وكنتُ أعرفُ أنه ما كان له أن يذهبَ إلى بلاطٍ ولا يسعى إلى ملك
فكيف لمن تمرد على أهله وقبيلته أن يخضع لسلطة ما
فجاءني،
وضعَ رأسَه الحارّ في حضني وراحَ يبوحُ لي، ثم غَرِقَ في بكاء لم يبكه من قبل وعندما أدركنا الفجرُ وأوشكَ طرفة أن يغفو، إذا بطرقٍ صاعقٍ على باب الدار، لم يلبث معه أن اقتحم الجندُ المكان وداهموا إغفاءة طرفة، لقد كانوا يطلبونه فأخذوه انتهبوه من حضني وذهبوا به فانقطعت أخباره
ولم يمرّ المتلمس في نواحينا بعد ذلك اليوم حتى إذا سمعنا عن مصرع طرفة، لم نعد نسمع عن المتلمس خبراً قط

***

السجان نوم الطفل العليل

أقسمُ إنني لم أصادف سجيناً مثله، ولم يمر بي شخصٌ شبيه له كان قليلَ الكلام، دمثَ الطبيعة، كثير التأمل، يسهر الليل كله، تذوبُ الشموعُ من حوله وترتجف ذؤابة الضوء، يظل منكباً على تخت كتابته مسترسلاً كأنه يدوّن نصوصاَ تملى عليه بصوتٍ لا يسمعه أحدٌ سواه، وهو لا يتوقفُ عن طلبِ المزيد من الورق، فكنتُ أحضرُ له طباقَ الكاغد كلَ حينٍ، وأزوِّدُ دواتَه بالحبر كلما نَفَد، كمن يُسقي شجرةَ الكتابة، وأصبُّ له الشرابَ الذي يحب، فيرشفه مثل حالمٍ، وتارةً يعبُّه كمن يروي أرومة الجسد. وكنتُ عندما أدخلُ عليه في الصباح أراهُ مستغرقاً في نومِه مثل طفلٍ عليل، وحوله الأوراق مستيقظة نشيطة في غير انتظام، فإذا ما رفعتُ الأوراق أرتبُها أذهلني أنها بيضاء ناصعة لا تزالُ، ولا أثرَ للكتابة فيها فأعجبُ أين ذهبَ كل ذلك الحبر وماذا كان يفعل بالحروف والكلمات، دون أن أعرف

***

المنخل اليشكري توبيخ الولع الطائش

لعل عمرو بن هند هو قاتِلُ الشعراء بالحُجج وبغيرها فلم تكنْ الأسبابُ تعوزه ربما لنقصٍ فيهِ تجاه الشعر والشعراء ولسوفَ يكونُ طرفة قد ذهبَ إلى حتفه منذ لحظة دخوله حيرة الملك فقد رأيتُ القتل يوم علمت أنه يبعث خلفي لقد كان يحاول شعراً لا يطاله فلم يسمعه أحد، ولم تكترثْ به الكتب فرأى في كل شاعرٍ مشروعاً ينقضُه أما إذا هجاهُ شاعرٌ فقد ماتَ منذ البيت الأول في قصيدته وإذا أخذنا حجته على طرفة بتغزله في أخته، فإن هنداً جديرة بأن يموت المرء في سبيلها وكان على الملك أن يكسو أخته قبل أن يقتل شاعراً مثل طرفة كلما نظر إليها، كمن يوبِّخ ولعاً طائشاً ويربّتُ على كتف نمرٍ جريح

***

عروة بن الورد خلوده في القتل

سعى إلى الحقِ فأجهده
وطلبَ الحب فاكتفى به،
وزيّنَ الترفَ بالشرف
وكان أكثر الفتيان خلوداً كلما قُـتِلْ

***

علي الرزاز كان أدخلُ إلى الأسطورة

حدَّثَ علي بن أحمد الرزاز تلميذ أبي فرج الأصفهاني قال خَلَطَ أبو فرج قبل وفاته وأبدى شيئاً من الهجر وهَذى ببعض ارتجالاته في فصولٍ ومواقعَ كثيرة من كتابه وقد شكا أبو فرج من أن ثمة من كان يشترط في نسخته من الأغاني وأن الوزير المهلبي لم يكن يحب طرفة لتجرئه على الملوك، وكان يتدخل في كتابة بعض التراجم
سمعته يهذي ويوصي في يومه الأخير بأن ليس من الحكمة اعتماد الأغاني مصدراً لمعرفة التاريخ ، لأنه لم يُكتب الا لتسلية السلطان بالطرف واللطائف، وليس لتدوين التاريخ لما فيه من ضعاف العلوم والمعارف فالأصل في تأليفه للمؤانسة وقال إن فيه نقصاً كبيراً، فليس مقبولاً الكلام، مثلاً، عن شعرِ العربِ القدماء دون إظهار الحق الأكمل لطرفة
وحين سألته عن سبب تخلفه عن ذكر ذلك، قال الظنُّ أن طرفة كان أدخلَ إلى الأسطورةِ منه إلى الحقيقة، والعربُ لم يستأمنوا حقيقةً لم يُحبوا الأساطير

***

شاهد أيهما أذهبَ مثلاً؟

كيف تذهبُ صحيفةُ المتلمس مثلاً،
وهو الذي نجا منها،
ولا تذهبُ صحيفةُ طرفة مثلاً،
وهي التي قتلته؟

***

ناقته "الرقلاء" شمعة تشك في الشمس

لم تكن له طريقٌ له خطواتٌ وخمرٌ واثنتا عشرة بئراً مطويةً بأحجارٍ صقلتها كواحلُ فلاحين يجُسُّون مكامنَ الماء حواسُّ مشحونةٌ بالعطش وترّهات الرمل فلاحون وضعوا آبارَهم قناديلَ لمواقع الخطى الشريدة لم يكن له قرينٌ غير كلماته وحبره ودماثة قطاةٍ رحيمةٍ به كنتُ قرينته التائهة لم يترك الهيامُ والغيمُ شرفة شاغرة لأحلامه شباك النسائم ترصده وتقرأ له النوم والقصيدة تقرأه مثلَ الترنح، مثلَ اللهب، مثلَ شلال شمعة تشكُّ في الشمس كنتُ أعبرُ معه المفازات كمن يتدرب على جحيمٍ موعود
كنا نتبادلُ القيادَ، في سجال لا ينقطع
وكان أخف من ريشة القلب عندما أطير به، وأمضى من شفرة السيف حين يهيم بي، وأشفّ من زجاج الخمر كلما باح لي قصيدته أطول من حياته

***

ابن سلام الجمحي
المكتوب في عتمة المنسوب

ليس في الشك رذيلة إن هو أعاننا على النص، كتابةً وقراءة فإذا كنتُ قد اضطربتُ في الرواية، فإنما كنتُ أرى في ضوءٍ شاحبٍ في صحراءَ شاسعةٍ، وأصدرُ عن صوتٍ تائهٍ في بريةٍ لا تنتهي ولم تكن قبائلُ العرب أقلَ شهوة في الصِيتِ من قريش فلما نظرتْ إلى حظها القليل من الشعر، عملتْ على تكثيرِه رغبةً في الدفع والإسناد ولم يتأخر عن ذلك رواةٌ يسهرون على مضاعفة القصائد العشر للشاعر، بغية تمتين أرومة القبيلة لدى كل منكم العقل الذي يساعده على معرفة المكتوب في عتمة المنسوب وإذا كنتُ لم أجد للمتلمس قصيدة واحدة، فكيف لي الجزم بأنه شقيق وردة الأكيد وخال ابنها؟ والله إن في الطبقات خروقاً عظيمة لا تخطئها البصيرة الثاقبة وإني لأعجبُ كيف أن عربَ العصور كلها لا يزالون يصدرون عن ذلك الكتاب كأنّه اليقين

***

الشَنتمري أبجديته أكثر حروفاً

شاعرٌ يُقتلُ في طفولة حياته
كيف يتسنى له أن يكتبَ كلَ هذا الشعر الذي يروونه عنه
إنه والله قد عاش أقل بكثير من كل هذا الكلام الذي ينسبونه إليه
حتى إن أبجديته تبدو أكثر حروفاً من النصوص المحبرة باسمه

***

الله مكسبٌ للجنة

وضعتُ حبي على قلبها وقلتُ لها
أيتها الوردة،
خسارةٌ لك أن يموتَ طفلك،
لكنه مكسبٌ للجنة،
فليس في الجنة قصيدة مثل التي يكتبها ذلك الطفل

***

خولة القصيدة قبل الحب

كيف يمكنك أن تحب شخصاً إلى هذا الحد، يقترب إلى روحك إلى هذا الحد قريباً ولا تراه ولا تلتقيه، حتى يكاد يكون حلماً هل هو الحلم، أم إنه كان موجوداً بالفعل؟
أحببت أن أعرف،
أنا التي لم ألتقه أبدا. لكن دون أن أشك في وجوده اتصلتْ بيننا الأخبار والوسائل ونشأتْ بيننا المواعيد غير أننا لم نلتق، حيث لم نتمكن من المسافة كنت محرومة معه بغموضي، وكان محروماً مني بشعره كلما أوشكنا على لقاءٍ أغرق نفسه في ثمالات الخمر واكتفى بذلك، حتى أصبح الموتُ أسرع إليه أعرف كم كان طائراً إليّ، وكم تأخر عني أي نوع من العشق كان، القصيدة عنده أهم من الحبيبة وها أنتم ترون قلما عُرفتْ امرأةٌ في حياته مثلما أصبحتُ وأظن انه فعل ما وعدني به سأجعلك تاجاً على شعري
فها أنا الملكة في قصيدته ولأنه لم يرني، ولم يقدر على وصفي فهو لا يقول إلا ما يراه وربما رأى ناقته وتحدث عنها كثيراً هل ترى صدفة أنه قال عن رقلاء كل ذلك، فهل كان يرى فيها ما يريد؟ لا أعرف كيف كان ذلك الحب وكل تلك الرسائل وهو لا يسعى إلى لقائي أنا التي كنت أعطي الباقي من عمري عوض ساعةٍ معه
كنتُ في شعرهِ أكثرَ مما كنتُ في حياته

***

ابن يامن نحيب الوحوش الجريحة

ذلك النحيبُ الجماعيّ كان يعرفه حتى إذا ما انخطفَ شراعٌ في ظاهرِ الزرقةِ، نهضَ مثلَ جبلٍ يطرح الصوتَ في الأفق، معلناً عن خشبٍ في موجٍ عظيمٍ يتوجبُ خوضَ البحرِ لملاقاته كان يضعُ أعضاءه كاملةً في نبضِ الموجِ كأنه يسمع وقعَ خطواتِ الفلك كلما أقبلتُ بسفينةٍ لمحته جالساً في السهوب يؤرجحُ قدميه في الزرقة، ويؤلفُ بهمهمات ناعمة دَرَجَ الإيقاع الكونيّ لحشرجاتٍ صريحةٍ لا يسمعها شخصٌ سواه، كأنه يستجوبُ المجرات نلوِّحُ له بالمجاديف المشرشة لفرطِ الموجِ والنوءِ الضاري، فيشير بملحٍ يتكاثفُ في عتبات الدرج الذي يشتغلُ عليه وحين نخطف الأبيض الكبير يشهقُ معه تالعاً عنقه النحيلةَ وأطرافُه تلبطُ في الماء العظيم لا يكاد يغادر البحرَ حتى يعود إليه. يلهجُ متهدجاً كمن يعانق كائناً غير مرئيّ وغير مدرك.
لم أعرف شخصاً من بُداةِ البحرين عَرَفَ البحرَ مثله، وعشقه مثله، وما أحد من مثله يُحسن درسَ الأنواء والمواسم، هو الذي لم يُحسن العومَ ولم يدخل غوصاً ولم يقفْ على خشبةٍ في بحر كلما سألته عن مكانٍ يعرفه بدأ في تأليف الحكايات، صادراً عن البحر أو ذاهباً إليه حتى إنه قال لي ذاتَ مرة ليستْ الهجرة أن تغيبَ في البحرِ، الهجرةُ أن تغيبَ عنه
لقد كان وقته مكاناً شاملاً، والبحرُ كونه الأثير يحرسُ السفنَ في استراحة السواحل يَسهر على المجاديف، يصقلها، ويدهن ظاهرَ السفن بكبد الحوت المفدوحة، ويعالجُ مَسَامَّ الجَمَّةِ ومسارِبها كلما سَمِعَ خشبةً تئِنُّ أو لوحاً يَصِرُّ، انحنى مربِّـتاً مستعيناً بأدق الآلات وأكثرها رأفةً ليخفِّفَ عنها عبءَ السفرِ ووحشةِ الرحيل سيعرفُ في كل مرةٍ كيفَ يصوغُ لتحية القوم كلماتٍ تؤجِجُ الروحَ وجمرة العمل وتمسح الجهدَ في الأبدان
كان يعرف ذلك النحيب الجماعيّ ويسمعه ويراه صوتُ الوحوش الجريحة في الصدور العارية ينحدر من أطراف السهوب، يلحق بأثر النحيب ويشهقُ معه كلما تسنى له التمرّغ بالحبال المتروكة في الرمل كان يلوّح لنا أن كفُّوا عن الذهاب بهذه الكائنات المأخوذة إلى المزيد من العذاب يضع كأسَه الزاخرةَ على صخرةِ البحرِ، ويطلقُ فينا صوتَه الجارح
دعوها فهي منذورة، فللخشب في السفن نبضُ المغامر، يخطفُ قبلتَه الأولى كأنها فاكهة الجنة من حبيبةٍ جاءتْ تؤدي طقسَ وداعٍ غامض أعيدوا لها الرجل أعيدوه وفُـكُّوا عنه أسرَ لطائم البحر أيهذا الماءُ العظيم الذي يفتح أفقه الأزرق السحيق مثل الأشداق

كنا نشفق على ذلك الولع،
وكلما أعاد نشيدَه تجاوبتْ معه الصرخاتُ الفادحة، ذؤابات الصواري، متأرجحةً مثل الهودج الثمل بأجسادٍ غضةٍ مهاجرة بلا هوادة يترنحُ بكيان مضطرب لفرط الذعر، كمن يمنح الميزان مواهبَ جديدةً لأجل إنعاش القلب الواهن فيما يغادر بهو الكوكب ليس من البدو، ولا الحضرُ بيته، والغجرُ يزعمُونه وهو من هؤلاء جميعاً قرينُ الغجرِ في الحلِّ والترحال وشبيههم في السفر والإقامة

وقفَ ذاتَ عودةٍ يسألني
كيف يمكنكَ أن تصفَ لي ما يحدثُ هناك في ذلك الأفق الأزرق الذي تذهبونَ إليه وتأتونَ منه، وهو قابعٌ هناك لا يسمع إلينا ولا يكترث بنا هل أعرف ما تعرفون؟

وها نحن مأخوذون بذهابه المباغت الفادح الغريب
لكأني به قد أضحى يعرف ما يريد

***

"جابر بن شمعون" أسقف الحيرة يضع الغار والبهار

في موسمه الذي لا يتأخرُ عنه، يدخلُ علينا محملاً بِصُرَرٍ مكنوزةٍ بأبازيره العجيبة، فيدورُ علينا ويَضَعُ بهارَه في تجاعيد ثيابنا ومواعيد مآكلنا، يغرس أوراق الغار في أكتافنا مثل أوسمة ويمسح أعضاءنا المنسية في أقبية النبيذ بتوابله الفاتنة فيوقظها، وتنشأ فينا شهوة غامضة تغمر الدير حتى إذا ما اطمأن على أن الفتنة قد عَمَّتْ الإقليم، خرجَ ملوحاً لنا بمناديله المضمخةِ بالنبيذ، لا يقبل كلمات الامتنان والشكر ولا يأخذ الهدايا، لكنه لا يكفُّ عن صقل السيوف الغادرة بالمغفرة والتسامح والنسيان لم يتقدمْ الى صلاةٍ ولم يعترضْ عليها

***

الخرنق ذهب الى الأفق

لم يتركوه لحياته، ولم تكنْ الأفاق تسعه كان يبعثُ لي شعره في غيمة الصباح قصيدة تنوِّرُ لي عتمة الوقت
قتلوه قبل أن يكمل شعره ثم أضافوا إليه الضعيف من الكلام فهو لا يَرِكُّ في الشعرِ ولا يَـلْحَنُ في الصوتِ، ولم يمدح غير الرقلاء

***

قيس بن الحدادية له في كتاب الصعاليك

صادفتُه في ليلٍ باردٍ يتقمَّصُ غيمةً حيناً ويؤرجحُ عُنقَ ناقته حيناً ويذوبُ في خطوات المطرِ يستبدل أقداحَه بقواقعَ نشيطةٍ تسعى خارجةً من السواحل يتبادل القناديلَ مع عسسٍ يقتفُونَ خُطاه طوالَ البرد حتى تدبَّ الحرارةُ في أوصالهم سمعتُ مثل الأنين المكتوم يأتي من ناحيته وهو يتصفَّحُ كتابَ الصعاليك، كمن يبحث عن ورقةٍ يكتبُ فيها القلقَ المعروفَ، في فهرسٍ مشحونٍ بالخارجين عن تخوم البدو والحضر سمعته في بلورٍ يتكسَّرُ يسألني عن عروة بن الورد، ويَسِرُّ لي طريقاً لم تعرفها خطى الطرائدِ، ويمحو خلفي الخطى لئلا ينالني صيادو الجوائز وقصاصو الأثر قال إنه يحمل لعروةَ قصيدةً سوفَ يبحثُ عنها الأعلم الشنتمري في بلاد الروم حتى يعثر عليها لعل عروة يرى في هذا ما يشفع لكي يجد في ليلةٍ مكاناً يَسعُ شاعراً وُضِعتْ لرأسه الجوائز

***

ورقة بن نوفل عزلته النبوية

كان مخفوراً بهدوئين يُخفِّفانِ عليه حصارَهم الفظّ. هدوءِ روحِه الهائمة على رسلها في الأقاصي خفيفةً خفيِّةً خائفةْ. وهدوء انخطافِه الغامضِ برؤية شعرية لقصيدةٍ ترافقه وتحرسُه وتحصِّنه وتحميه مما يتهدده في السفر والإقامة رؤيةٌ هي حياتُه بمعزلٍ عن عيشهم فربما كان طرفة قد اعتزلهم قبل أن يستفردونه
ومن شعره أخذ الإسلامُ شيئاً من أخلاق الحكمة

2

ما تقرأه وحدَكَ، أنتَ والنصّ، وتحبُه وحدك فهو لكَ وحدك وما استعجمَ عليك واستعنتَ عليه بالقواميس، فهو من وضْع النحاة والرواة ورسل الملوك وكَتَبة القبائل غير أنه مرجعٌ صادقٌ للكتاب

***

طرفة عن الملك

لا أخافُه على نفسي
فليس له ما يغلبني به،
وليس لديَّ ما يُضْعِفُني إليه

***

أبو بكر محمد الأنباري أرادتـه القبائل التي تبرأت منه

نبذوه في حياته وتناهبوه في موته
كل قبيلةٍ تبرأتْ منه أرادته لها
يزيدون به شِعرَهم ينتحلونه وينتحلون به وينتحلون عليه لم يمدح ولم يهجع في بلاط عفيفُ الكلمة والقلب لا يطلب شيئاً من أحد
لم يكتبْ سوى واحدةٍ، لكنه قال غيرها

شهلاء ليلتُها

أشهدُ أنّه لم يذهبْ ليلتَها الى أحدٍ سواي، ولم يكن إلى مكانٍ غير داري،، فيومَ قَصَدَ المتلمسُ بلاطَ الملك كان طرفة في أحضاني، في دفءِ ليلةٍ لم أعرف مثلها قط، وما انطويتُ على رجلٍ مثله فقد ذهبنا في ليلٍ طويلٍ عميقٍ. أتغلغلُ به ويتوغل فيّ، كنا كمن يبحث عن المنسيات الحميمة جميعها وكان ليلتَها قد تزوجني، وكنتُ تزوجتُه، تلك ليلةٌ أقصرُ عن وصفِها، فذلك أمرٌ من الأمور التي تحدثُ وتُعاشُ ولا توصفْ، فالمرأة لا تعرف شاعراً مثله كل يوم أشهدُ أنها الليلة التي كان فيها الشاعر في لحظة الانخطاف العظيمة، كأنه في حالة الانعتاق الحاسمة كنت ليلتها مع روحٍ من الأثير، مثل فراشةٍ تغادر قميصَها إلى نارٍ أليفةٍ، تعرفها وتذهب إليها كأنني به ليلتَها يستعيضُ بالحب عن حربٍ كان الملك يعدُّها للشاعر ويطارده بها.

***

المتلمس كان يعرف

أقول لكم الصدق عني وعنه لم يكن معي سواه كنت هناك وكان هو كنت ظله طوال الوقت ولكنني أفقد أثره تارةً ويسبقني تارةً، وأحياناً كثيرة أسمع وقعَ خطاه بجانبي، وحين ألتفتُ لا أرى سوى شبحٍ نائم
أقول له هذا ملكٌ يضمر لك الضغينة
فيقول لا يجرؤ ملكٌ على شاعرٍ
وحين عرفَ صحيفتي صعقني بضحكته الماجنة،
قائلاً هذا دليلٌ آخر ضد شاعريتك
وحين رميتُ الصحيفة في النهر فاضَ بحمرة فاضحة لم يشهد الخلق نهراً مثل ذلك لكن طرفة لم يصدق وسمعته يبتعد قائلاً
لك النهر وألوانه ولي البحر، ولا يلتقي العذب بالأجاج
لقد كان يعرف كان يذهب لأمر كان يعرفه، ولم يكن يرى الموت إلا بوابةً شاهقةً لحياة جديدة، يعرفها ويقبل عليها بطريقته فلم يكن أحد يقول مثله :أرى الموت
وظني أنه قد قرأ صحيفته، فهو كان يحسن القراءة
أقول لكم الصدق عنه وعني

***

أمين صالح كيف فعلوا ذلك بنا

ثمةَ شاعرٌ
قال قليلا من الشعر أدركنا بعضه. واخترعوا كلاماً كثيراً لا يتصل بشاعرٍ في مكانٍ نعرفه ومادامَ المنسوبُ ليس قرآناً فنحن في حلٍ من قبوله ناهيك عن تصديقه، فالشعر تجربة لا تكتمل في شخصٍ واحدٍ واضحٍ على التعيين فلا هو مكتملٌ في الأسطورة ولا يثبته تاريخٌ معروفٌ، وليس لنصه اتصالٌ يتجانس ويشي بشخصية مستقرة فكيفَ يريدونَ لنا أن نطمئنَ لرواةٍ يقدُّونَ النصوصَ قدّا،ً على قياس فهارس المفسرين وأهل الدين ومصالح مروِّجي أهل السياسة كيف استقامَ لهم عقلٌ يظنُّ بنا الجهلَ ويسعى للإطاحة بعقولنا فلا نشكُّ في ما يلفِّقونَ، عاصفينَ بالأدب منكّلينَ بالشاعر حتى إذا ما أضيئتْ لهم قناديلُ الأعمى، لكشف مواقعِ خَبْطِهم، استنفروا وثاروا وبالغوا، ذاهبينَ إلى مضاهاةِ الشعرِ بالقرآن، ليتساويا في التقديس والحصانة فكيف فعلوا ذلك بنا؟

***

أمرؤ القيس ملوك مثل الموت

كان الملوكُ إذا جاءتْ رسائلُهم
يُهدُوننا للقتل أحيانا
يمضون فينا أرغناً وَجِلاً
كان الملوكُ غداةَ الموتِ
مثلَ الموتِ ألحانا

***

كلام الله في فمه

(فصوص الحلم)

«كبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ»

طرفة

سؤال

يا أيها الموت
ماذا ستفعل بي
أكثر مما فعل الأقربون/

***

أطلال

لخولة أطلالٌ مددتُ لها يدي
أزيحُ رمادَ الأمس
عن غامضِ الغد
لخولة، لو تدري،
نجومٌ شريدةٌ
تضيء ظلام الوقت في قلب شاردِ/

***

ظلام

ينتابكم وهمُ الظلام كأنه قمرٌ
وكأن جباناتِكم، في حزنِها، عيدُ /

***

خلود

لم يبق موتٌ لم أُجرَّ له
مَنْ يعطني قتلاً بلا موتِ
«إِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ»
لكأن غيماً لا قيادَ له
غير انثيال الحلم في وحشة الصمت /

***

وطن

«على موطنٍ يخشى الفتى»
ويضيعُ ملءَ عيونه الأملُ

***

لهو

كيفَ له أن يخلقَ الخلقَ.. ويفنيه/

***

ذئب

« كسيد الغضا» نارٌ له
يغفو قبيل الموت شريد، أليفُ الحزن
والخوف حوله
أخشى من الفقد موجودٌ مثله،
قتيلٌ مثله /

***

اصطفاء

كأنَّ الله خَصَّ لشاعرٍ حباً
وقال له /

***

كلام

السيدُ الضخمُ
في العشرين من دمِه
يمضي سريعاً ناهضاً وجلاً
قلبي له
قلبي على يده
أصغي، كلامُ الله في فمه /

***

كلمة

بأقل مما ينثني خطّ الندى
في آخر النجمة
تأتي ليَ الكلمة /

***

خيال

كلما بدأتُ في الشعر نسيتُ اللغات
كانت الريحُ تسألني لا القلبُ يكفي، وليس للعقل
غير الخيالِ.. الخيالُ
كأن المسافات مستنفرات
كأن الحياة
ستنتابني مثلما يستعاد الجمالُ/

***

تاريخ

«فإن كنتَ لا تسطيع دفع منيَّتي»
دعني أصبُ الماء في مكانه
والنار في كياني
فلا أقل أن يكون الشعر
كأس الخمر والأغاني/

***

شاعر

منذ ستين نوماً من الله
أوحى لنا
أن احتمالاتنا ماكرة
وأن انتظارات أحفادنا
يقظة باكرة /

***

يدان

«ولقد بدا لي أنه سيغولني وحشٌ»
إذا امتدتْ يدٌ
قَـفَّـتْ يد /

***

المُحَّرق

ليستْ من باب أعمال الملوك
فإنها في موقد الأوثان /

***

نأي

ليتني صنيعُ هذه الكلمة كاملةً /

***

آلهة

أعرفُ الآلهة
تلك النصّوص التي يصبّونها في رؤانا
كما الزئبق المستثار
كأن النهار هو الليل
هل نحن في فُلكٍ تائهة /

***

انتماء

«تحامتني العشيرة»
رحتُ في حريتي القصوى
مضى بي حبي المسحور
نحو النور كي أمحو القبيلة من أرومتها
رسمت الباب في قلبي
دخلتُ به وأخطأت الخطيئة وانتميتُ /

***

تحوّل

« فإن متُ»
ابتدأتُ،
وطار بي ريشُ الغريب
كأن خولة جانحي،
لي وردةٌ وُلدتْ معي
لي حزنها البدوي،
تفقدني
إذا ماتَ الغريبُ
بدأتُ في أسطورتي.
يأتي بكل قصيدةٍ حلمٌ
ويأتي شاعرٌ - إن متُ - بعدي
ينتمي لدمي
ويروي من معيني /

***

حصة الله

ليس لله في ما أقولُ وما أفعلُ
سوى أنه الحلم والشعر والمَقتلُ /

***

ثمالة

«ماذا تقولون في شاربٍ»
كلما فاضَ كأسٌ به ضاعَ في ضوئه
ما الذي ينتهي كلما صَبَّت الآلهة
كأسها الوالهة
نَخْبَها، وانتشى شاعرٌ هاربٌ
واحتسى حبَها،
ما الذي، في التلاشي النهائي
بعد الثمالات يبقى لها/

***

سجال

«يقولون لا تهلك»
وهم يذبحونني /

***

ذاكرة

يا سيد النسيانِ تذكرني
اذا نَسِيَتْ بنو بكرٍ قصائدَها/

***

عدل

خذ المُلكَ و المملكة
خذ الوهم و الفذلكة
واتركْ ليَ الشعرَ
والخمرَ والتهلكة /

***

نبي

كلما أغفى نبيٌ في رعيته
سيأخذني المهبُّ
أنا نبيٌّ لا رعيةَ لي
ولي إرثُ السلالةِ كي أقـوّضه
ولي في الشعرِ ربُّ /

***

نقد

«جراءتي عليهم،
وصدقي»
حصةٌ الحق تصعدُ
وقسطي من الحب
تيهٌ الى الغيم
حقي مضاعٌ وفي جثتي موعدُ /

***

عدم

وثنٌ أم صَنمْ
هذا الذي نستجيرُ،
هل الموت
حصتُنا في العدمْ /

***

أبد

«نداماي بيضٌ كالنجوم»
ورفقتي مستوحشون
وليلهم أبدُ
يجلون كأساً كلما وفدوا
جاءت غيومٌ
واشتهى روحٌ مريضٌ وارتوتْ كبدُ /

***

حراسة

صنمٍ يحرسُ الملوكَ
أممٍ تصقل الوثنْ /

***

المديح في البهو

(دفتر الملك)

ألا هَلَكَ الملوكُ وعَبدُ عمروٍ

الخرنق

الأرض ذات النشيد

الأرض ذات الغرف الضيقة،
تدَّخرُ الثمالات الأخيرة لمليكها الجالس يهيئ المراجل للأسرى، والسمّ الخفيف للنساء
أرضٌ محروسة بالبحار وفهارس الأسماك، تكبت بكاءها فيما ترقب المليك يحنو على شعبه باقتناص الأحلام
أرضٌ غنيةٌ بالخطط والضغائن والمؤامرات
أرض صقلتْ مراياها بالكبد ونيلج القلب وفضة الخوف
أرضٌ ضائعة، مشحونة بالرؤى
بلادٌ تضيق بي وتغفل عني وتنساني

***

صفو الملك

لا تعَكّرْ صفوَ الملك بنصائحك الفَذَّة لديه من المشاغل ما يكفيه وهو في غِنىً عن هذيان أفكارك حوله من المستشارين ما ينوبُ عنك، حراسةً له من أحلامك، وصيانةً لتاجه الجديد من أطماعك القديمة إصرفْ نظرَك عن عتبات الحجر الكريم، واذهبْ إلى صقل كبدكَ بانتظارٍ آخر واخفضْ صوتَك كلما تضرَّعتَ لئلا تقلق راحته سوف يتولى حجّابُه عبءَ الإصغاء لدعائك بآذانٍ صَمّاء، فالْجُمْ جامَ غضبِك إذا استثارته بطانة الحَجب والجَمع. ولا تفكّرْ في صياغة العرائضَ فتخدش صمتَ البلاط وتؤذي أوركسترا الشخير وتفسدُ يقينَ البهائم في حدائق القصر
فكرْ ثانية فكرْ للمرة المائة، قبل الظنّ بأن لدى الملك الوقتَ ليسأم من فلسفتك ثمة جناحٌ كاملٌ مشحونٌ بفلاسفةٍ يسهرونَ على تسليةِ جلالته لئلا يسأمْ
تذكرْ، كلما هممتَ بتقديم النصيحة للملك، يتوجبُ أن يكونَ صفو الملك من أقدس مهماتك (*)

***

ملك

ملكٌ واحدُ
كلما كنتُ في حيرةٍ
سطعت فكرةٌ
ملكٌ حانةٌ
ملكٌ حيرةٌ
كلما سطعتْ نجمةٌ
جاء لي شاهدٌ واحدُ

***

قصرٌ أقصرُ من القصيدة

ليتَ لنا مكانه موجةً لا تبلى ولا تموت
ملكٌ اختلطَ عليه العذبُ بالأجاج بَحران وهو لا يُحسنُ العومَ حكمٌ بلا عدلٍ ولا حكمةٍ وضعَ التاجَ واستمر يكتبُ الكتبَ في بيت الزجاج غير مكترثٍ بالملتبس من أحوال الناس وهم عراةٌ ينبحون لفرط الحبسة مُلكٌ لو كانَ يدومْ
رأيته في حديقته وأصغيتُ لغفلته يسألني
هل رأيت قصيدةً أجملَ من هذا القصر أيها الشاعر؟
فقلت ليتَ شعري أيهما يدوم، القصر أم القصيدة ؟

***

الوهم

بيني وبينك مستحيلٌ صاغه وهمُ القبيلة
وارتجالات الملوك

***

ملك يتماثل بالمديح

نرى الآن
كم أن عمرو بن هندٍ لا يزال يتماثلُ بيننا كلما كتبَ شاعرٌ مادحاً ملكاً في مكانْ
فيما الشاعر لا يزال يجوب الفضاء يدعو بحق وردة، ويتعرض للعسف وينال حصته من القتل بالأشكال جميعها
نرقب. غير طرفة كثيرون
ليس صدفة أن يرى تاريخنا نموذجاً يُحتذى، ففي ذلك صيانة دائمة للظلم بظلامٍ دامسٍ مستمرْ

***

ذهاب

سأذهبُ،
إما هُـلكٌ وإما مُـلكْ

***

رحمة الملوك

مغسولةٌ بانتظاراتٍ مبكرةٍ، تحتَ شمسٍ متعامدةٍ في كيسِ عظامي الهائم في حمى الجزيرة، مهصوراً بالبَهار المسحوق بالصخرة الصقيلة شمسٌ/ مقصلةٌ تأويلُها للجسد الواهنِ بلا ريبةٍ ولا ضَغينةْ عرفتُ معها عتمةَ المحاكمات عرفتُ حجراً حاكماً يتركنا تحتَ شرفتِه وينسى في انتظارِ مَنْ لا ينتظرُ أحداً انتظاراتُنا وحدَها، ويأسُنا من النوم وحده، ووحدنا نذرَعُ مآدبَ الجحيمْ، بين حيرةِ القصورِ وإسطبلاتِ الملائكة
عرفتُ آلهةً تُصغي لمديحِها في المراثي وملوكاً تبطشُ غيرَ مكترثةٍ بشعبِها
عرفتُ جوقةً تحرسُ أشلائي تحتَ رحمةِ الملوك

***

الشاعر / الملك

يذهب الشاعر إلى الملوك ليقول : أنا ملكٌ أيضاً
ويحاول أن ينال المجدَ
وإذا تسنى له ذلك، سينال مجداً بتخوم السلطة وليس بأفق الشعر، فتكون الخسارة مضاعفة نخسر الشعر ويخسر الشاعرُ نفسَه ويخسرُ المجدَ
ترى، لماذا يذهب الشعراء إلى ملوكٍ فيما يملكون القصيدة؟

***

قلب الحديد

بَكتْ القبرة
واستيقظ الطينُ في المقبرة
دارُ مَنْ هذه
ومَنْ يا تُرى سوف يختارها حانةً
ويقضي بها الليل زنزانة
مثلما يسهر العرشُ في المخمرة

جنةٌ ساهرة
جَلَّها الله في عنفوان الخليقة
مثل الذي أسكنَ القلب في مجمرة

بكتِ القُبُّرة
واستيقظ الحلم في الطين
كي تستوي وردة في العذاب
كأن الكتاب
تؤلفه غصةُ الحرف في الحنجرة

لغةٌ نافرة
فخذوا حِذْرَكُمْ
هذه جنةٌ داثرة
سوف يأتي إليها الملوكُ
وتأتي الأساطير والشعر والنثر
والمستحيلات
كي يكشف الله
ما الفرق بين الحريق القديم
وبين الجحيم
الذي يفضح الآخرة
سعيتُ بها في القصيدة
مزدهراً
أمزجُ الخمر بالمحبرة
سَمِّها ما تريد
رئةً في الحديد
عاشقاً ذاب في حبه
خارجاً
هارباً طاردته الجيوش
ستدركه جمرة غادرة
سَمِّها ما تريد
جنةً حائرة
أثر الحب في الخاصرة
حتى إذا أخطأ الشَرَكُ القُبراتِ
نالني ما ينال المغامر ضد المدى
ملكٌ غارزٌ خنجره
بِنْتُ مَنْ هذه الفاجرة
خرجتْ بالشظايا من الغيم
واشتهتْ فارساً
نافراً
واستجارت من النار بالهاجرة
بِنتُ مَنْ هذه
مهرة الليل في الفجر
ليست بلاداً
وليست نجاةً من القتل
لكنها فكرةٌ عابرة
خرجتْ من صلاة الإله
خرجت عن ملوك الأساطير
عن مشتهيات الضغائن
كي توقظ السحرَ في الساحرة

***

النصف الثالث للولع

(كتاب التأويل)

«ويأتيك بالأخبار من لم تزود»

طرفة

لخولة أطلال:

أجملُ ما وَلدَتْ امرأةٌ في البحرين.
تخالها الشعرَ بين الكلام والكتابة. وتنظرُ إلى وشاحها فتعرفُ شراعاً في مهب الزرقة. يقرأ كتاب الريح في البحر ويُحسنُ التأويل. امرأة تنفر في القصيدة وتترك وشمها كوكباً في المجرة. تطلعُ فَتُنْسِيكَ الأطلالَ.

***

ظللتُ بها أبكي:

سيبكي حتى تقطرَ عيناهُ دماً. هذا الفارسُ العاشقُ الذي لا يكفُّ عن الشِعر ولا يترك صهوة حصانه ولا يتوقف عن السهر. كأسُه أكثرُ حمرةً من فم الوليد. ولن يكفيه البكاءُ. كلامه تأويلٌ ماكرٌ للموت. والقتلُ كامنٌ له في عشية البيت والقصيدة.
يبكي ويكتب ويجلو ما يستعصي على اللغة.

***

وقوفاً بها صحبي:

حزنُ الحديدِ يثقل كاهلي. فيما يعبر أصدقاءٌ أجلاءُ غير مكترثين. وَقْعُ أقدامهم الرهيبة مستخفٌّ برجع الأنين الكونيّ المنبعث من منابت الجسور. أكزُّ على فهارس الأسى. الطرائدُ إخوةٌ لي، والمباغتات غيمة أيامي. فألجأ لأعداءٍ يمدحون موتي ويحثُّونَ خُطى الأصدقاء لئلا تبطئ.
فتقفْ.

***

باقي الوشم:

حِرزكَ.
دليلكَ في الغيم. لونُ أحلامِكَ ساعةَ التأويل. خزانةُ عطرك وأنتَ تهذي. الشهقةُ لحظةَ الاختطافة الباسلة. بستانُ نجدٍ يفقدك وينساك.
الدمُ الدمُ الدمُ نهرٌ يتقصّى خطاك

تغفو.
ويقرأون النصَّ عليك
تحولاتٍ ترتعشُ لها الفرائصُ.
ترنحكَ لفرط ما يبقى
وفقد ما يضيع.

***

يقولون لا تهلك:

سَفرٌ في فُـلكٍ تقودُها مشيئةُ الهلاك. لستُ إلى فَـناءٍ. ثمةَ البهجةُ وهي تُعيدُ الخلق. تضعون الجحيمَ في خطواتي. تظنون هذا امتحانَ نهايتي. من يهلك في طريقي يمنح الزيتَ للهب. لكن. مَنْ يقول. ومن الذي يهلك.
أيتها الفُـلكُ التي تأخذني أقدارُها
هل كتبتِ هذا الدرس لتفسير المجد؟

***

وفي الحي أحوى:

ليس أقلَّ من قميص نبيٍّ مأخوذٍ بحمرة الذئب في شفتين تموجان بالشهوة. حكمةُ أن يشطركَ العشقُ نصفين. وينال الولعُ نصفك الثالث. حتى إذا ما انهمرَ جسدُكَ بالروايات في جمرٍ وفي شظايا. تيقنتَ أن نبياً يخلعُ عليك قميصَه
ينهرُ الموتَ عنك
يصونـك ويحرسُ خطاك.

***

أياةُ الشمس:

فقد الظلمة الفادح. حتى إذا ما تأخر النهارُ أدركَ الخلقُ نعمةَ الشمسِ في غير أوانِها. فالليل آيةٌ يقرأها الضوءُ.
وكنتَ إذا جئتَ البحرين،
وضعتَ مفتاحَ الجنةِ في بحرٍ ومفتاح النار في بحرٍ
وتركتَ للناس حريةَ النحيبِ. يذرعونَ المدينة متضرعين لشمسٍ غير موجودةٍ.

***

يجورُ بها الملّاح:

إذا رأيتَ الكتابَ عرفتَ أن شاعراً موغلاً في الزرقة يكتشفُ البحرَ بوصفه الماءَ الكثيرَ في النزهة. يخرج من قصيدته يحصي الموجَ ويمنح الفلك أسماءها
يحرّر الجُزرَ من سورة الصحراء
شاعرٌ يقود جوقة المياه
بخبرة ملاحٍ يبحر على هواه ويحلم.

***

الشمسُ حَـلَّتْ رداءَها:

عُريكَ سِترُ النقصِ في الكمال.
حَلاّلُ عروةِ القميصِ عند الكتف والخاصرة. فإذا حلَّ ليلٌ وأنتَ في الخباء وبادرتك الشمسُ بالأجنحة. فأنت في حِلٍّ من البحرِ والرحيل.
تطفو فيصقلك الضوءُ الشاهق
وتغوصُ فتغسلك الأقاصي العميقة.
أرخِ فورةَ الجسد وتبَطَّنْ عُريَّه.

***

مَورٌ بعيدٌ:

ليستْ هذه طريقك. وقدماك لا تطآن أرضاً.
أجنحةٌ
والفضاءُ أفقٌ يقرأ لك مواقعَ أحلامك. تفتح البواكيرَ لمن يتبعك. لخطواتك ذئابٌ تبرأُ من الدم. وتكتشفُ لك ما تتيه به. يضغنك الملوكُ. لكأن التيجانَ قلائدُ قدميكَ. قدمان تسعيان بك مثل هودج الشمس.

***

حبَاب الماء:

الأنفاس الكريمة لملائكة يؤدون صلاتهم في جوقةِ الله، مثل قدحٍ كلما شَفَّ الزجاجُ. أجنحةٌ طائشةٌ تخفق فتسبق النشوة. تَعِدُ القلبَ بالسرور وتعرف الدمَ والنصل.
تجلو درجات البلور فيمنح الماءَ طبيعة الريح والحلم.

***

موّارة اليد:

يأتيها الموجُ من بين يديها ومن خلفها
فتلك من صفات الكواكب التائهة في مجرة الله.
تبدو كأنها تعومُ فيما هي تغرق.

***

نداماي بيضٌ كالنجوم:

كلما أنعمتَ نظركَ في الحلكة تبدّى لك الفجرُ. فليس سهرك بلا جدوى. ولا تخذلك الكلمات حين تطلعها من قصيّ صدرك. قصيدتك حصنك وشعرك يحميك ويستعيد لك الحيوان الشارد والشجر المغدور. تنجو من خسارة المفقود
ولا تندم في حضرة نديم هو نجمك في الليل
ونارك في البرد ورقصك في النشيد.

***

قنطرة الرومي:

أيّها الماء قُمْ.
جلسَ الماءُ تحت الجسر كمن يلجأ لدفءٍ من بردٍ، وأخذ يلهج باللغات الغريبة، وراحَ يثغو مثل ماعزٍ، والمراكبُ تتدفق في حريرٍ، والمسافرون ينظرون إلى الحقائب تدبُّ على الأقدام.
كان ذلك عهدي الأول بالنهر وهو يستيقظ فيخرج الشجرُ من سباته.

***

وقَيْنةٌ تروح إلينا:

أسعى إليها بخطوات الحلم وقدمين مغسولتين بالكلمات. تقول لي الأخبارَ غاديةً رائحة، فأضعُ رأسي على تخت الخمر أكتبُ لها الوصايا. كل قدحٍ قصيدةٌ. كل سفر فضيحةٌ يتبادل أنخابَها فتيةٌ يخرجون عن حلكة الناموس وغيمة القاموس، فيأخذ الشعرُ في كشف القمصان فتظهرُ أسماءٌ تتفاقمُ حيث تبدأ النشوةُ في العمل.

***

رحيبٌ قطابُ الجيب:

جسدٌ يفيضُ على ثوبه ويطيشُ مثل زَبَدِ الكأس. وحوشٌ أليفةٌ تندلع كلما صَبَّتْ الطبيعةُ عطرَها عليك. وهي لكَ. لكَ. تمنحك حقَ الموت والحياة. أقانيمُ ثلاثةٌ تُخَرِّجُ لك الجنةَ من النار.

***

قميصٌ مقدَّد:

يعفو عنك الليلُ. فتعرف أن عُريكَ عقابٌ. ففي الغفلة رقعةٌ للغناء. شرائطُ البروق تحرسُ لك الحركة، وتزنُ ضغائنَ القوم وهم في سهوٍ وفي ضلالةٍ عن مواقع خيلك. يفقدونك، ويحبسون فتيانَهم عنكَ، ويضعون الزينة في سياطهم على لحم طفل، ويتشبثون بأذيال الليل.

***

رفيقةٌ بجسّ الندامى :

هو السديمُ في الأديم. مزيجٌ من الفضّة والذهب. كلما لمستَه أعطاكَ. لكَ منه النهدُ والعنقُ وما دونهما.
سعيتُ إلى تلك السهرة مأخوذاً شغفاً فأدركتني حيرةُ الولع. ولم تكن للقصيدة هاويةٌ، غير تلك الحانة القصيّة بنادلتها ذات الكتف الموشومة بالأوسمة. وإرثها المكنوز بالخطّ والكتابة.

***

صهابية العثنون:

إذا أنت انحنيتَ إلى هذا الحدّ. طابَ لك عطرٌ يتفصَّدُ كأنه عُودُ الندِّ في الخمر. قهوتك الغنية ممتزجةٌ بالعسل من الإحساء وباللؤلؤ من البحرين. تقرأ ويدُكَ في المجامر. تبالغ في الولع وتكاد تركع. فتنهض لك أكثرُ الحيوانات رأفةً تحفُّ بك وتصقل المرايا لك. تسقيك الصهباء في الأصباغ والترنح.

***

أتلعُ نهّاض :

الرشيقُ من الوَشَقِ الأدهم. عرشٌ لك في الحزن الشريف. يؤرجحُ الهودجَ ويحضن أجراسَ الناس ساعة الندم. تضاهيه أعناقُ الكواكب منتورةً. يَـشبُّ بهيبة الفارس ويسعى لإدراك الوحش قُبيل الفطنة.

***

النواصفُ من دَدِ:

وكنتُ إذا ما خُيرتُ بين المدينة والدين اخترتُ المدينة. وإذا خُيرتُ بين الدولة والدين اخترتُ الدولة. وإذا خيرتُ بين الدنيا والدين اخترتُ الدنيا.
فلا قِـبَلَ لي بشيءٍ يملكني ويمنعني ويؤجل المتعة عني.

***

حرفٌ مبرد:

تشفُّ الشظية عن القلب. هل اختبرتك المباردُ. أمِ إن حواف الكلمات دَرَج الأبجدية. هل تكلمتَ أم انتابتك النمورُ بالنواجذ. قلْ إنها القافية مشحوذة بخبرة الشِعر. قلْ إن فهارسَ العذابِ شُرفتكَ على السفن وهي تقرأ البحر وترسمُ حركة الموج.

***

سيدُ الغضا:

صديقُ النجوم أيها الذئبُ يا سيد الجمر
جرحك جرحي
وأحلم أن تشتهيني دماً
أن تروّي حناياك روحي
سمعتك من بئر زنزانتي تصطفيني

سمعتك شَكُّ اليقين
صديقك،
ينتابني ولعُ الشاردين
تعالَ اسقنِي واسقنِي
أيتها النارُ هل تسمعين.

***

الدجن:

غيمٌ يشفُّ
تقمَّصه شاعرٌ لئلا يناله حرسٌ يسهرون على منعه في المنام عن الحلم
غيمٌ يشي بالجنون إذا جَـنَّ ليلٌ
غيمٌ. هو الماء في صلوات التحول
يسعى بخولة بالمرأة المستحيلة كي تلتقي
هو الغيم، والشعر يهطل
إنْ جُنَّ عِشقٌ تجلى له الغيمُ كالأرق المُشرقِ.

***

قرطاس الشآم:

كتبتُ قرأتُ.
لذةٌ يقاتلنا عليها الملوكُ
أنتَ في النص في تخت عرشِكَ
في الشامخ من حصنك
قلعتك القانعة.

فقيرٌ عن الآخرين غنيٌ عليهم
مُلككَ لا شيء لا شيء يملك قلبك
كتبتَ قرأتَ ويكفيك.

***

كريمٌ يروّي:

لستُ من عطشٍ
ولم يعطني الرملُ غيرَ الطريق التي تنتهي
والقِرى أن تَرى في زجاجِ المسافة ما تشتهي
أن ينالَ الترنحُ حصتَه في الكتاب
ليست حياتك إن مُتَّ من خمرةٍ

ماؤكَ قنديلكَ قبل أن تنتشي
قبل أن يعتريك التهدجُ
قبل الكتابة
هذا هو النهر.

***

مخافة شرب في الممات:

يقظة الجمر في موجِ الشهوة قبل البحر. ففي اليمِّ أنت عبد الدفة والشراع، ورقيق ربّانٍ لا يرحم، فاصقل تاجك بكأسك. ولا تصدق أن هناك غير العطش الأجاج. يؤوّلونك لتبحِرَ ضعيفَ العظم هشَّ المخيلة. حتى إذا ما استحوذ عليك نيلوفرُ الأعماق، ونترتَ حبلك كي يصعدوا بكَ نحو الهواء، لا يكترث بكَ أحدٌ ولا تجدُ غيرَ الموت.

***

إن شئتَ لم ترقلْ:

رقصةُ الإبل فوق الأديم. رقشٌ برشاقة القوائم الدِقاق. قفصُ الكون وهو يكبو، فيسعفه الحزام بحنانه. لترى الحيوانَ الأليف في الطاعة والوحشَ الصديق في النَّـفْـر. قرينُ الغياب والغربة. يقودك فتتبعه. يعرفك ويعرف طريقك ويأخذك إليه خَبَبَاً، لا سريعاً ولا هَوْنا.

***

ليتني أفديك:

واقفٌ سرادُقه الكونُ والعشقُ بابٌ له
ماذا يريد الدمُ من بحرٍ أرحب من سماءٍ وأطول من ليل. يداه ضارعتان في الأفق. عيناه شاخصتان وبدنه تحت رحمة الوحش والجوارح. ولا يكاد يشعر بجسدٍ يذهبُ شلواً شلواً. فمن يفدي بهذا الهشيم. من يفدي بهذا اللهب. ليتني أفتديه.

***

أدوا الحقوق:

والحقُ حفرةٌ، كلما عَمَّقْتَ نَـهْـبَـكَ صارتْ قبراً لك. فاحذر وانتبه ودَعْ الحقَ في مكانه. لا تصدقْ صلاةً تسكتُ عن هدرٍ. كل من أمعنَ في حفرته، أوشَكَ على هاويته.

***

ثلاثٌ هُـنَّ من عيشة الفتى:

عرشٌ شاهقٌ. حتى إن الغيمة تدخل أنفاس جسدينا، وتمسح الظلال المتأرجحة فوق رأسينا بفعل الخمرة الشريفة. امرأةٌ فسفورية ورجلٌ يطغى على المعادن.
فداء العرش وضدّه.

***

جاشتْ إليه النفسُ:

تلك جيوشٌ لا تهزم وأعداؤها لا يحصون. ما إن تَطِشْ بزبدها حتى تَقْصُرَ عنها الروحُ ويشهق لها الجسد. تقودك نحو القتال وحدك.
يستفرد بك الشغفُ فتضعف
تهزكَ الشهوةُ فتضعف
تنالك الرعشة فتضعف
تضعفُ وأنت في الجيوشِ تضعفُ .. وأنت الجيوشُ.

***

إذا القوم قالوا من فتىً:

هو المعدنُ الحيُّ. يسمعُ ويرى ويسعى. يعرفُ الطريقَ ويذهبُ. تخطئونه فيصيحُ ويُصِيبُ. تهملونه فيشعُّ ويرقى. الملماتُ عربته الذهبية وبيته التجربة.
ومكتوبٌ له النشيدُ:
«ليتَ الفتى حجرٌ ».

الصدق يألفه اللبيبُ:

فإذا نالت الوساوسُ منكَ. فَرَطَ لبُّكَ وفَشَتْ النارُ في قميصك وكَفَّ عنك اليقينُ. لن تعودَ تدركُ المسافة بين عقل الأحمق وجنون الحكيم. فتبرأَ من المُلك والضغينة. تسمو على قاتلك وتصيبك نجمةٌ الأقاصي وتسكنُ المعرفةِ.

***

حَلال التِلاع:

مكانٌ يطغى. كلما انحلتْ عُرى القميصِ وانبثقَ زمنُ الروحِ في التلاشي. يذهبُ الشخصُ مشرفاً على موتٍ وشيكٍ والولعُ مجدٌ له. المكان الأعلى والزمان النافر. تشرف على الكون وتسبق الريح. لا يحلُّ لك الموتُ إلا هناك.
لا يغفلُ عنكَ ولا تتأخرُ عنه.

***

الظلمُ فَـرَّقَ:

تقشعر ضمائرُ الحيوانِ الأليف. حَيفٌ يُحدِقُ بالخلق. يقع فيمزق البيتَ والعائلة ويفسد الخلق. يضع الفضيحة في المواعين وتكفُّ البراءةُ عن النوم. يهمُّ الليلُ على الناسِ بآلة الكوابيسِ، فلا يكادُ الأطفال يبلغون الكتابَ أو يفكُّون الحرفَ في ظلامٍ ظالم.

***

ظلم ذوي القربى:

مرضٌ أهونُ منه الموتُ.

***

في الحوانيت:

أن تحسنَ المسافة بين الحانةِ والزنزانة. فضاءٌ تمضِي فيه قسطاً من حياتك. حتى إنكَ لن تعرفَ أيهما جنتـك وأيهما جحيمُكْ. وكلما تقدَّمَ بك الوقتُ لن تدرك أيٌ منهما حريتُك وأيٌ قيدُك. لكن عليكَ أن تتدربَ على ذلك وتحسوه في كأسٍ وفي مرايا.

***

حَقُّ وردة:

شَعرُها الأصهبُ
وبحرُها الأخضرُ
وكنزها القديمُ
ونخلُها الكريمُ
وطينها الذهب.

يتعاورون عليها بالرُفوش والجنازير. يَغرفُونَ منها بالقُفَّةِ والخُرْجِ. وكلما أمعنوا وبالغوا في الجمع والمنع فاضتْ عليهم بالعطرِ والمغانم وبالمسكِ والعنبر.
وأنتَ في الفَـقـر
تعرفُ أن لكَ في الحق ما يكفي ويزيد
فهي تمسِكُ وهُمْ يعبَثُونَ ويعيثون.

***

ولو حَلَّ بيتٌ:

فإذا رَسَمْتَ خطَّ الأفق، وانحنيتَ نصف قوسٍ. فسوفَ تجِدُ من يأخذك للمكان. ليستْ عُزلةً. لكنها نزهةُ المريضِ بعد الجَرح. وكلما عَمُقَ جرحُ المريضِ طالتْ غربتُه واستخفى مكانه. وبعدَ الأفقِ بقليلِ قبلَ القوسِ ببرهةٍ. يظلُ للشاعرِ مكانٌ فيه يسهرُ مريضاً على الكلمات النشيطة. فإذا طالته الأيدي القاسية قبل القصيدة. سوفَ نراهُ في حسرةٍ وهو ينأى.

***

بَضَّةُ المتجرد:

بِنتُ اللبن العاري واللذة الطائشة. تُقَسِّمُ ضوءَها في الأقداح. وتسَمِّي رعشةً للجسدِ وتنسكبُ في سرير الأقاصي.
فاتنةٌ وتعرفُ
فاجرةٌ وتعرفُ

تُبِيحُ جيبَ صدرها لعبث أخطائي
وتقول: اشربْ.
فأعرفُ أن اليومَ خمرٌ
وغداً خمرٌ
وخمرٌ إلى الأبد.
فأذهبُ في لبنٍ فاجرٍ حتى مطلعِ الفجرْ.

***

انبرتْ على رسِلها:

تلك هي حياةٌ تنالُها كلما منحتَها بياضَ عينيك وقُرمزَ قلبك وزهرةَ دَمِكْ. تأتيكَ. تأتيكَ. تُغنِّي لك النشيدَ. صوتها يعالجُ المرضَ ويصدُّ عنكَ العدوّ. حياةٌ تشدُّ ما يتلاشى تَنْهمرُ ما يَفنى. لبكائِكَ عندها مكانةُ الحكمةِ. وللشكوى رحمةُ الكليم.
اسمعْ الصوتَ. أسمعْهُ.
حياة أعطيتها، كما أعطيتَها .. خُذْها.

***

الموتُ ما أخطأ الفتى:

وكلما داريتَه وَسِعَت أرديتُه وطالت أطرافُه واندلعَ معناه. لسهمِه أحداقٌ صارمةٌ. أسماؤه لا تحصى وَخَبرُه واحدٌ، تقصرُ عنه المعاجمُ. يعرفُ ماذا يريدُ. يُمعِنُ ولا يكترث.

***

تشرابي الخمور:

أشربُ عشراً وألتذُّ بتسعٍ وأبذخُ بما طاب. الخمرةُ قنديلُ ندمي ونديمي في الحزن والمسرَّة. وحكمةُ القلبِ دليلُ فتىً شاردٍ في تجاعيد طغاةٍ لا ينقرضون ولا يكفُّونَ عن الناس.
أنفُرُ،
فأضعُ الكأسَ في الرأسِ وأمجِّدُ الخيال.

***

جَرأتي عليهم:

على أنْ لا تصدقَ ملكاً قبل أن يموت، ولا تجرّدَ آلةً قبل أن تعمل، ولا تقايض على دمك. فجرحك لا يلتئمُ بملحٍ فاسدٍ. فلا تفرّط في جرأةِ السؤال فهو سلاحٌ لا يصدأ. وما عليك إلا أن تصغي إلى حركة البلور وهو يتفصَّدُ في روحك. تؤلفُ به الكتبَ وتوزعه في القناديل. وتنأى بنفسكَ تِسعِينَ يقظةً عن المال والسلطان.

***

أرى الموت:

مثل نايٍ تصغي إليه فيستحوذ على لـُـبِّـكَ ويأخذك محملقاً في عيونه. ولا تعرف هل ترى إليه أم يرى إليك.
أنت وموتُك، تدخلان معاً في الرؤية والرواية. في نزهة المرايا، يغلبك بالنظر وتغلبه بالتحديق. تسبقه بالبصر ويسبقك بالبصيرة. لاتعرفان أيكما العُريُ وأيكما الكساء.

***

بنو غبراء لا ينكرونني:

ذلك هو الإكليل. أصقلُه كلما تبادلتُ أنخابَ الخروج مع الكائنات المستوحشة. هناك تسمعُ وجيبَ فراشاتِ قلبي وإلى هناك تنتمي عضلةُ روحي. وحين تخلعني القبائلُ أجدُ في الأرض حضناً يعرفني. إلى هناك أنتمي. والبريقُ الذي تراه يصدر من ناحية الأوج إنما هو تاجُ الصداقة يمنحني إياه صعاليكُ الأرض. فتحتُ لهم مائدتي وقلبي فجاءوا.

***

هل أنت مخلدي:

للملكِ أن يأخذَ الدرسَ من حقائب الندم في كتب الضغينة. للمشتهيات. للماء وهو يبرأ من طبيعته فيأخذ الموعظة.

مَنْ أنتَ لكي تقولَ لي مَنْ أنت.

شخصٌ ينشأ من الكلمات الكتابةُ تمحوه.

«عجبتُ لمن يمرّ من مجرى البول مرتين كيف يغترّ».

فصلُ النهاية أيها الملك.

***

جُـنَّ الفتى

(الإشراقات)

أَرَى العَيْشَ كَنْزاً نَاقِصاً كُلَّ لَيْلَةٍ
وَمَا تَنْقُصِ الأيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَـدِ

طرفة

نخب الماء

أشعلْ سراجك وانتخبْ ماءً وقلْ لي
هل رأيتَ الخيلَ وهي شريدةٌ
مذعورة
وتَخفُّ عن أرضِ العدوّ
وهل عرفتَ الليل مثلي
أشعلْ سراجك
دَعْ ظلامَكَ يسمعُ الإيقاعَ
هل أصغيتَ للصحراء وهي تطاردُ البدويَّ منزوعاً فتخطفه من الأفق البعيدِ
وهل شعرتَ بأن ثمة جوقةَ الأشباحِ تُحصي نحوكَ الكلماتِ كلُ قصيدةٍ دَرَجٌ الى موتٍ
فتكتبُ مثلما قبرٌ تُعمِّقه يداكَ.

***

صلاة

أخذ الله يصغي لشعره مثلَ الصلاة
كأنَّ الله يُصدِّقُ شاعراً يرأف بأحلام أقرانه
يحنو عليهم ويقدمهم على خلقه

***

قصيدة / قبر

ستهبُطه ويَصعَدُ
هذه الصحراءُ صوتٌ صارخٌ كالدم
كنتُ طريدةً مهتوكةً أسعى على خوفِ الرمادِ
وكان لي أهلٌ وكل قبيلةٍ تنتابُني كالسيف
هل صادفتَ أهلاً أسْلمُوكَ إلى العدوّ
وبالغوا في القتل تاهوا
أغلقوا زنزانةَ الصحراء في عينيكَ
أعطوا لحظةَ الصَلصَال تاريخاً لكي يمحوكَ
هل أعطوكَ من رملٍ بلاداً
زوَّجوكَ إلى الغبار وعلقوا أشعارَكَ الحَسرى على أنصابهم
ورموك في النيران لا تطفئ سراجك

***

الأقاصي

في موضعٍ غامضٍ
في القصيّ من أرجاءِ روحي
وأدْتُ جروحي

سيحسُدني القاتلون على الحزن وهو يَحزُّ الحياةَ ويهزمني في الخفيّ من الحلم
ليس لهم فرصة يكشفونَ ارتجافَ يدي لحظة الكأس فاليأسُ سِرّي
ولن يعرفوا أنني أرِقٌ لفرط انهيارات روحي
فهذي جروحي
وليس لهم حجةٌ أن يكفُّوا عن الظنِّ
أني أباغتهم بالمزيد من البرق
تًشُقُّ عليَّ الهمومُ التي مَزَّقتني
أنا العاشقُ الهشُ
روحي هشيمٌ إلى النار
غضٌ على القتل مثلَ النجوم
أنا النزفُ والنازفُ
ولن يعرفوا
أنني ولِعٌ خائفُ
ففي موضعٍ غامضٍ كالوجومْ
في القصيّ من الروح
أجلسُ في خجلٍ باسلٍ
حيث لا يعرف الآخرون
سوى أنني كامنٌ للدفاع
لكي يبدأوا في الهجومْ

***

الأيام

حكمةٌ أن تسألَ الأيامَ عن أخبارِها
حكمةٌ تصغي لها
إن كانَ كنزُك عامراً بالوقت

عَلّني حريقٌ أن جمرَ العُمر يشربُ من كؤوسٍ صَبَّها رَبُ العذابِ، وصاغها حكمُ القبيلة، كي أرى في حكمةِ الأيامِ درساً سوف يقتلني قبيلَ الحانة الأخرى
وكأسُ الحكمة المكسور
نخبٌ للذي يبقى من العمر القصير
ثلاثُ جناتٍ رَسمتُ لمنتهى الأيام
إنْ تسالْ تَجدْ،
وإذا محوتَ حكايتي من دفتر التاريخ، يبقى عطر خولة والروايات الغريبة واحتمال الغدر في بيت الضغينة
مثل ناقوس الكنيسة وهو يبكي
كلما تسأل تجدْ،
لا تترك الأيامَ في أخبارِها
يكفيكَ أن تُحصي جراحي كي تؤثثَ منجماً للضوء
كي تتلو مديحاً في ظلام الرمل

تسألُ أو تجدْ،
دعني أغني خولة الأيام بعض الوقت
هل قلتُ الحقيقةَ
أم دمي في حكمةِ المعنى البعيد
قصيدتي ممحوةٌ
ونجومُ أخباري محاصرةٌ بظلٍ شاحبٍ
اسألْ تجدْ
يأتيك خمسونَ احتمالاً وارتعاشةُ جنةٍ في الروح
تأتيكَ الجروحُ كنايةً عن سَلَّةِ الرؤيا بعصفٍ صاخبٍ
يأتيك بالأخبارٍ شخصٌ شاخصٌ في الموت
فاسأله
تجدْ كنزاً يَزُولُ وجنّةً تفنى ومحتملان للشعراء
قتلٌ صادقٌ
وذرائعٌ للموت في أسطورةٍ تأتي بها الأيام

***

شمس ثانية

مثلَ شمسٍ ثانيةٍ تَشعُّ في سريرِها وكلما صَدَرت الإشارات الحية في أعطافها اعتدل طقسٌ واكتستْ أعضاءٌ خضراء بألوان شتى
شمسٌ ثانيةٌ تَهَبُ الثلجَ بهجتَه ورجفة الأزاهير نشوة الفارغ تواً من لازورد القلب الأصفى
شمس ثانية تمنح الفصول ذخيرة الأسلحة الحانية، تغفو كلما اشتهت الكائنات نزهة الأحلام
بمثل هذه الشمس فقط
نقوى على الزعم بصداقة الطبيعة ورفقة الفيزياء

***

البكاء

وبكيتُ من ويل انتظاري
كلما طالَ انتحرتُ
أردَّ الموتَ عنك وما أتيت

بكيتُ أصقلُ دفتر الصحراء في دمع القصيدةِ
في يدي وعدٌ لديك وما أتيت
بكيتُ في ليلٍ نحيلِ الضوء في شغفٍ
بكيتُ كأن لي فيك احتمالاً نادراً يحنو عليك وما أتيت
بكيت مثل طفولة الأشياء
مثل الأخضر الوحشيّ في الغابات
مثل الحزنِ في الناياتِ
وما أتيت
بكيتُ في بيت الطبيعة وهي تكتب شِعرَها
تفشي لي الأسرارَ مأسوراً بها
لكأنها تبكي عليَّ وما أتيت
بكيتُ وحدي والقصيدة وحدها ودمي وحيدٌ
وانتظاراتي هنا
تمحو يداً وتمدُّ أخرى
مثلما يحنو كلامُ الله من ولهٍ عليك
وما أتيتُ
بكيت أكرز في شعوب الله كي تأتي
فهل يكفي بكاءٌ صارخٌ في وحشة الصحراء
هل حبي نبيٌ في رعيته وقلبكُ خارجٌ في الشك
هل أبكي عليك

***

أسباب الجَرح والتعديل

سببٌ أن في هجر بيتا لأخبارها
يتقصاه أو يصطفيه الجنونْ
سببٌ أنني لستُ خصماً ولستُ عدواً
سوى للسماء التي تهبط الآن حتى العيون
سببي جارفٌ كي أرى بيتَ هجر سبيلي إلى الخمر
أسعى وأمحو خطاي وأوقظ في هجر أطفالها كي تكونْ
جرساً ناهراً للسكونْ

2

لستُ في حيرةٍ
أنا جمر النهار والليل
أعرفُ أن الرمادَ خطواتي وفي الكشف ما يَشِعُّ من الغدر أعرفُ كم أموتُ وكم أقتَلُ وكيف تفتك بي خطواتُ الرماد غير أن في الحيرة من الحوانيت ما يمحو عطشَ الروح، ومن الحانات ما يصقل ماء الجسد تهيأت قبل كلماتي
وجدفتُ في حضرة الربّ كي يصغي لبوحي
يصدق صلاتي ويصطفيني صديقاً له
حيرتي أنني لستُ عبداً له
لستُ في حيرةٍ
تحللتُ من حصة الرمل
حقي من الجمر والنارُ في خمرتي

3

فاضَ ظلمٌ عليها
واستخفَّ بها الأقربون
فانتهى زعفرانٌ في المزيج
صمتٌ سيذبحني أنني لم أمتْ عندها
وردةُ البيتِ، والبيتُ في الغدرِ في شهواتِ القتال
فاضَ ظلمٌ على قدحي المستريب
فغنيتُ في ليل وردة
إني أموتُ بعيداً على دمعِها
دمعها سوفَ ينتابني كلما فاضَ عطرٌ على ضوئها
ما الذي ينبغي أن أفعل الآن عبر الضجيج

4

لم أكنْ في مكانٍ
ولا يسعُ الوقتُ وقتي ولم تنتظرني الأغاني
رأيتُ القميصَ المهلهل في العرش
مزقته بالكلام عن الشمس
والشمعُ في الشمس مثلُ الأماني
لم أكنْ في الفهارسِ أجَّلتُ خولة للعُرسِ
لكنني لم أنمْ كي أهيئَ للحلم أسبابَه
كنتُ في أول الليل يفتحُ لي بابه كي أموتَ بطيئاً
أموتُ وخولة تفقدني في كتاب الأغاني
كتابٌ سينسى دمي في الصباح ويغتالني
لم أكنْ في القليل الأخير من النص إلا قليلاً من الصمت
أملكُ أن أستعيدَ الرواية
أحتالُ بالأبجدية
بالمستحيل من النار بعد الرؤى الحالكة

5

هو الموتُ
لكنني سوف أجتازه في رحيلي
دَمي وردةٌ للخلود
لمجدٍ تؤلفه الكلماتُ
وللعشق جمرٌ يُنوّرُ بعض سبيلي
هو الموت حبي بعيدٌ
وأقرب لي شاهقُ الشعر مما يرون
ويروون لي في الطريق الطويل
أيها الموت يا هامةً كالصدى
سوف تبقى تئجُّ وتبقى تضجُّ
وأبقى بِحريةِ الحلم والمستحيل

6

تحررتُ من مقتلي في الكتاب وأطلقتُ بابَ السماء
لتخرج كل النجوم
تُعيدُ السديمَ وتمزجُ ضوءَ المجراتِ
تمنح أخبارَها للخليقة من أوّلٍ
تحررتُ حررتُها من كلام الحَلك
تملكتها في المسافة بين الحقيقة والحلم
ساءلتها قبل أن يستحيل الجواب
أيها الحزن يا سيد الكون
يا شاهداً عند باب السماء
هل رأيت الدماء
حيث سَمَّيتُ لك
خطواتِ الفلكْ

7

أخرجُ من زرقة الجزر المشتهاة راغباً هارباً للنجاة
ففي كل بيتٍ بنيتُ له نجمة ضللتني
وفي كل سجنٍ رسمتُ به حانةً خانني الندماءُ
انتهيتُ
اشتهيتُ
حدودَ الحياة

8

أصلحتُ كأساً كي أرى بزجاجها طبيعة الوحش في الحيوان فرأيت الشخص في غابةٍ يتشهى بها يتقمصها ويَخبُّ بها عابراً سنوات القرون الخمرة ذاتها صقلتْ لي المرآة وشفَّتْ عن بشرٍ يدَّخرُ النواجذ والأشداق ويتناسل ويمتد وكلما انتخبتُ نجمةً في قدح انكشفتِ المخلوقات وفاض الإناء بالدم وسحقني امتحان العدم خمرة في مقام اللغة وتفعل فعل النبي
تعيد الخلق وتكشف السرّ
وها أنذا
كلما أصلحتُ كأساً جرحتُ الحياة وعَدَّلتُها

***

الجنون

هل كنتُ مجنوناً قليلاً
وهي تحدو بي وراء الريح مذهولاً كأني طفلها
ويداي في أرجوحة التلويح
هل ضاعَ الكلامُ وبالغتْ في غيِّها
مثل احتمالاتي الوحيدة وانتحاري الحرِّ
مجنونٌ يُـجَنُّ
تطير بي في عزلة الفلوات
سيدتي
ولي في حزنها الرمليّ ما يُغري الحُداةَ
تهجُّ بي في غيمةٍ
ستظل تصغي للزفير
الشعر والجرح القديم
وخمرةُ النسيان وهي تفرُّ بي
تهذي بما يجلو الشغافَ
وهودجُ الذكرى بعيدٌ
تستزيدُ فيصعد الهذيانُ بي

جُـنَّ الفتى
ينتابني سحرُ المديح الحر
رقلاء انتحتْ بي خلف هذي البيدِ فازدادَ الوحيدُ
شعرتُ أن مليكتي مُلْكِي
فهل جُـنَّ الفتى عبثاً وهل طاشَ القصيدُ

رقلاء هاتي كأسي الأخرى
لقد ضاءَ المديحُ
وآنَ للصحراء أن تحنو علينا مرةً
وحدي على ريش الفرار
وجنتي عطفُ الغريبةِ
والغريبُ مشتتٌ في التيه
والغيمُ الشفيفُ رسالتي
هل كنتُ مجنوناً وأهلي ليسَ أهلي
والكواكبُ جمةٌ
والشمسُ أنثى
كلما طابَ القصيدُ؟

***

أوسمة السفر

حروفٌ، غيومٌ هشةٌ تتصاعد في نواحِ كبدٍ تتكاثف في غرفة الروح عطشى يقرأها ماءٌ صغيرٌ ويمنحها الشكلَ والحركة ويصبُّ عليها القميص
حروفٌ، أصابعُ آلهةٍ تحسنُ ابتكارَ لغةٍ تؤنس الغريب
يبدأ المطرُ بإيقاظ الرمل في الصحراء، وكنز الكمأ في المخابئ،
فتكشف الحروفُ المعنى وتصقل الدلالات
حروفٌ،
خطواتُ الأدلاء في التيه
حروفٌ
أوسمة الصعاليك في ليل السفر

***

درس الكحول


ماذا يريد الآخرون من الفتى المجنون مكتهلاً سريعاً
مثل نسرين الجبال
ماذا يريد بقية الماضي من المستقبل المغدور
وهو يلوبُ في الذكرى من الجرح القديم
هو السديمُ
يعيدُ خلقَ الكوكبِ البدويِّ كي ينسى ملامحه،
وذاكرة لتوقظ ميتاً في النص
هذا الشخصُ مكتهلٌ يشيخ وينتحي ويؤلفُ الملكوت
سوف يموت حراً طائشاً
ماذا يريد الآخرون من الجنون
لم أتعظ،
ولقد سَللتُ من السماء الكأسَ
ساءلتُ انخطافاً شدَّني في صخرة النسرين
أغرى دفتري بالموت في العشرين شيخاً شامخاً
وانهرتُ في بيت الكنيسة
كنتُ في المحراب كنتُ البابَ
فَـلْـيَـلْهُ معي نَرْدُ العذاب

لم أتعظ،
راهنتُ بالباقي من الموت القديم
لكي ينام بقية الموتى وتصحو يقظةُ الأحياء
هذا الماءُ مجنونٌ يرى درس الكحول
فهل أنا في كوكبٍ ثملٍ؟
ترى ماذا يريد الآخرون

***

تجليات الحارس

لا بابٌ ولا زنزانةٌ هذي تخاريمُ السماءْ
والماءُ فيها ليس في قدحٍ فلا للماء أسماءٌ ولا للماء ماءْ

هل كنت أسهرُ عند باب الحلم
هل كان النشيدُ حفيف أجنحة الكتابةِ
هل حَرَسْتُ خرافةً من دون أن أدري؟

غيومٌ تعبر الشُبّاكَ والأفلاكُ تخطئ دربَها
تنثالُ مثل مجرةٍ في حائطٍ يحنو
بكى في الليل يطلبُ كاغداً
ودواةَ حبرٍ دافئٍ
ويعود يبكي ساعةَ الرؤيا
كأن الله قال له
فيكتبُ كي يرى ورقاً يطير وغيمةً في السقف
مثل يمامةٍ مذعورةٍ

هل كان طرفة شاعراً أمْ ساحراً
والله كلَّفَهُ وألَّفَهُ
لكي نلقاهُ مثل الحلم

كنتُ الحارس الكونيّ
أغفو، دون أن أدري،
على حلم الخليقة وهي تسهر كي أنام
فكلما رفَّتْ ملائكةٌ عرفتُ
وكلما صليتُ خُـفْـتُ
هذه زنزانة وَسِعَتْ سماءً
واستضاءت بالدم الورديّ
كانت أبجديته تَشِعُّ
إذا هَفَتْ كلماته في الكاغد الشفّاف
أسمعُ ضوءه
فأذوبُ في ولعٍ
قصيدتُه صديقتُه
وحين يريدُ بعض الماء كان الماءُ يسمَعهُ
إذا تعبتْ عناصره جَرَتْ أخلاطُه
فبكى قليلاً ريثما تستيقظ الشهوات
يُنشِدُ ساعةً فيهذِّبُ الأخطاء
أفتحُ بابَه فيكون في جلبابِه
ويقول لي هاتِ النبيذ

***

العبء

كتفاي
أم مقعدٌ وثيرٌ لعبء زمنٍ يمضي تختُ عظامٍ واهنٌ يتكئ عليه جيش العابرين يتصاعد إيقاعٌ ويحتدم جدلٌ ويتقدم سجالٌ فيما كتفاي تصدران الصوت المألوف عندما تتحطم كواثل السفن فوق صلادة الصخور المتلفعة بالموج الطائش كتفاي تنطويان متدرعتين بهشيم الجسد كتفان تكتمان الأنين الضاري لئلا يرتاع المسافرون الأسرى وهم يعبرون الأنواء مكنوزين بأحلامهم الطرية الكتفان بالوجع ذي الأوسمة الدامية المحفورة بأنياب السنوات
كتفان شقيقتان للوقت

العرار

أشمُّ رائحةَ العرارِ محملقاً في ضوء أحلامي
وأبكي ضائعاً كستارةٍ تهمي على جرح الطبيعة وهي تنفي طفلها، فتغيب شمعة ظلها محسورةً لم تبق في غيمِ المسافة نجمةٌ، إلا أضاءت لي طريقَ الوقت في ليل الغبارِ
أجَّلتُ أخطائي
أُصَلِّي كي أتوبَ، فلا أتوبُ
خمرٌ وشهقةُ شاردٍ وصداقة المظلوم يا عطرَ العرارِ
خذني إليك بحانةٍ أُحصِي مراياها، وأكتبُ في زجاج بكائها شعري
وخذني مثلَ أخذِ العِشقِ
عطركَ غامرٌ
والحيرة البيضاء غير بعيدةٍ عني
ولي فيها اشتهاءٌ واحتمالاتٌ ونخبٌ صارمٌ قبل الفرار

***

الغريب

أيهذا الغريبُ
فُجِعَ الرملُ وهو يهذي لفرط وقعكَ في ليلهِ، في البرد
في خطوك المستوحش المستريب
أيهذا الغريبُ
لا مكانٌ هنا لا زمانٌ، وليس يؤويكَ بيتُ
ينتابكَ الشغفُ المرُّ مثل الغزال الشريد
تفرُّ من الريح من طيفِ سهمٍ طائشٍ
من صدىً يحرسُ الماءَ
من طائرٍ مرهقٍ بالرحيلِ الطويلِ
أيهذا الغريبُ
اطمأنتْ لكَ الخيلُ
تصقلُ صهوتَها بالصهيلِ الأصيلِ
وبالصهدِ
كلما جئتَ أرضاً حللتَ مثلَ الطريدِ
انتقلتَ لأرضٍ سواها
أيهذا الغريبُ
ما الذي تفعلُ الآنَ في لا مكانٍ
وجوهُكَ في كلِ ضوءٍ من الأرضِ
ثوبٌ لأجسادنا و روحٌ لنا
كلما انتابنا شغفٌ عارمٌ
حَلِلتَ بنا
أيهذا الغريب
اهْدِنا أن نخفِفَ عن روحكَ العبء
أن نمسح الغربة عن خطاك
ونجلو مثل الصلاة
شَـقَّ أن نتبع رؤاكَ
انتهينا قُبيلكَ، فاشفقْ علينا
نُغنِّيك يا ذا الغريبُ المعذبُ بالحب
حتى إذا الموتُ
حتى إذا مـتَّ وحدك نرثيك بالمستحيل
ونبكيك نبكيك
أيهذا الحبيبُ الغريبُ

***

معنى الموت

لم اكتشف سِرَّ ابتسامتكِ الغريبةِ وقتَها
كنا نذوبُ عذوبةً وأنوثةً
كانَ العناقُ الحرُّ والمجنونُ يأخذنا هنالك
كانت الكلمات لا تقوى على المعنى
يدانا ريشة في الغيم نلهو عن مشاغلها

كتفان في شغفٍ، ووشمُكَ نافرٌ
أسماؤنا في الأرض
نكبحُ شهقنا ونعالج البركان
نغفو في شظايانا فنوقظها بصمتٍ طائشٍ ونَفُزُّ في خيلِ القبائل حولنا نارُ العناقات الوشيكة لا نؤجلُ ما يحضّ على الرهائن بغتةً تبدو ابتسامتك الغريبة ضحكة مكبوتة
كنتِ تدارين انتظاراً ما
فألمحُ عابراً يجتازنا
سرُّ الغريبة فيِكِ لا يخفيك
شيءٌ شابحٌ عبرَ احتضانتنا
أرى عينيكِ لا تريانني
ويداكِ تلتمسان أشياءً
وصوت الناي يأتي من مكانٍ ما
كخيطٍ غامضٍ يمتدُّ فينا الآن

أذكرُ أنني حاولتُ شَدَّكِ فانتفضتِ
كأنما شخصٌ غريبٌ يعتريك
نهرتِني
فصرختُ في الشهوات عن نوم القبيلة وانتباه الخيل
أنْ يكفي جنوناً
وابتسمتِ
لم أكتشفْ سرَّ ابتسامتكِ
فما الشيء الذي تخفينَه ويُخيفُ
مرَّتْ غيمةٌ
فارتجَّ في الجسدين برقٌ وانتبهتُ لكل أعضائي تكابر
بغتةً غابَ الهواءُ
وكَفَّتْ الأنفاسُ عن جريانها

لم أدرك المعنى ولكني شعرتُ بأننا مِتنا فهل كنتِ ترينَ بأننا في شرفةٍ تهوي بنا، من دون أن ندري؟ فهل في لحظةِ الحبِ انتهاءٌ موشكٌ
هل للقبيلة للسلالة لاحتقانِ الدمّ
شكلٌ شاخصٌ يطغى علينا عندما نفنى
وهل كنا نموتُ؟

***

النبيذ

هذا نبيذك فاستعده واستعدَّ له
لا جنةٌ
إلا إذا كان النبيذُ شفيعكَ لابتكارٍ ثالثٍ
هذا جحيمٌ أم جناحٌ شامخٌ
يتفصَّدُ الترتيلُ من شريانكِ الكونيِّ
عرشك في الغيوم وكاحلاك يؤلفان النهر
للهِ ابتكارٌ آخر
يخفي ملاكاً في قميص الشعر
يوحي للنبي بأن يبشِّرَ بانتخابٍ فادحٍ في الموت

هل هذا نبيذك أم دمٌ حرٌ من الترهيب
أكمل كأسك الأخرى
ودَعْ شعراً ومُتْ حُراً من الموت
انتخبْ خمراً وتِـهْ في غيبةِ الملكوت
نحن في انتظار خروجك الكونيِّ
لا ماءٌ لنا في جنةٍ
هذا نبيذك فاستعده
واستعد له

***

الندماء

صَدَّ عني الرعاةُ تصانيفَهم
وانتحوا بي إلى حانةٍ يسردونَ بها فهرساً للخسارات
لستَ الذي يفقدُ الإبلَ وحدكَ
لستَ سليلَ الغبار ومستوحش الريح وحدك
ليستْ بلادكَ وحدكَ
تلكَ التي شردتك وأعطتك للغرباء
نحنُ مَعَكْ
ننتمي للنشيد الوحيد معك
ونرعى نجومَ الإشارة في آخر الليل والمستحيل معك
ومعك في انتخاب الكؤوس
نداماكَ نحنُ
ومستوحشون
نؤانسُ وحشَ انتظارِكَ في البردِ
نُخفي كتابَكَ عن عسسٍ يخفرونك كي نتبعكْ
وحدنا
نحن بيتُ القصيدةِ
نجلو التصانيفَ في النص نحصي اللصوصَ
يسوقون أنعامَنا في الظهيرة
نخسَرُها بمزاجٍ يروقُ لنا
ونُـفرِّطُ في حقنا المستباح
نضاهيكَ في الفقدِ كي نستحقَ الذهابَ معك
فلستَ الوحيد الذي يقتلونك
نحن معك

***

كتابة الحلم

أكتبُ كي أمنعَ الرملَ عن وشمِها
وهي مرتاحة في غريبِ الكلام
أرى الريح أقوى قليلاً من الشِعر
والساحرات يهدهدنَ خولة،
والوشمُ تاريخُها
أكتبُ،
تختارني هامشاً في سديم الخيام
أكتُبها كي أرى شاهداً واحداً يقرأ الوشمَ عني
كأنّي أصدُّ عن الحب رملَ الظلام
فينتابني حلمها

***

عين في الموت

عيناي في عين الكلام ولا أرى
عيناي تِسعُ شواخصَ ارتاعتْ
وقلبٌ واحدٌ وقبيلةٌ تسعى لتفسير الخيام
عيناي تائهتان في غيمٍ وخلفي إخوةٌ يسعونَ
لو أني أرى في الموت غيرَ الموت كنت ارتحتُ
وانتاب الفتى المقتولَ تسعُ نوادمَ انهارت
تَرى عيناي في بعض البكاء نقيصةً
وتَرى ظلاماً في الكلام
عيناي في عين القبيلة
وهي تمحو نجمةً في عتمة القنديل
شاهدتان
لا عيناي زنبقة المرايا كي تنام،
ولا السلامُ جريرةٌ في الحرب
خمسُ ثواكلٍ يبكينني لأعيشَ فاتحةَ الصدى
وأموت وحدي في الختام

***

تضرع

قال لي
مطرٌ علينا نحن في الصحراء
هل نبكي قليلاً كي نؤانس حزنه نصغي إليه
يقول هل نتركه يبكي وهل نخفي له في الطين كمأته
لكي ينسى اكتشاف الماء
حيٌ ميتٌ
وعليه أن يبكي طويلاً دون أن ينسى
البكاءُ يعالج الأخطاءَ
أن يبكي طويلا قبل أن تعفو الطبيعة عن خليقتها
مطرٌ علينا كلما متنا قليلا، جاء من يبكي لنا
يبكي ويرعى كمأة في الطين
حيٌ ميتٌ مطرٌ
كأن الله يبكي شاعراً سيموت في العشرين

***

جنة الكأس

حين انحسرتُ إلى حدود الله، كانت جنتي كأسي،
وقافيتي دليلي في سؤال الليل أبذلُ من دمِي،
ومن القصيدة ما تولاهُ الجنونُ
لو بدأتُ الشعرَ خمراً
لانتحرتُ ثلاثَ مراتٍ قبيلَ الموت كي
أهجو الحياة وأستعير زجاجة التأويل
أعطي للملوك ذريعة أخرى
لأعرف أن أكون مغامراً أو ساهراً أغوي الندامى
أوقظ الفتن الشهية أنتمي للضالعين،
وأطلق الأسرى ليبتدئ المجونُ
كنت في حلم الجناح
أرى غيوماً كلما حدقت في حريتي حراً
ولي مستقبل القتلى
فلا أملٌ بقافلةٍ تخونُ

***
زائرون

لم يكن قيدُهم يحجبُ الغيبَ عني
كأني بجدران سجني زجاجٌ يشفُّ
هنا كان عروة يأتي
ووردة مثل حياء الأميرات تأتي
وأختي تؤثثُ لي بالقصائد أشهى الموائد
تأتي التآويلُ
أدعو النبيذَ فيأتي بأقداحه المترعات
ويكشفُ لي السرّ ما كان في الغيب
أعرف عتمة هذا القميص الممزق ضوءاً يشعُّ
أرى الموتَ منتظراً ذاوياً في القصيِّ من الوقت
أضعف من خطوات البريد وأنأى
أرى الموتَ أقصر من أن يراني
أرى كل شيء هنا
برزخاً يسبق المنحنى

جناح خولة

لخولة رَفُّ جناحٍ،
لها وهي تفتتح الشعرَ بالوشم شالٌ من الضوء ينثال مثل الهلال
لها أن تؤجلَ أطلالَها كلما آنَ وقتُ الزوال
لها الشعرُ والنثرُ
تشهدُ لي أنني لم أمتْ بعد قتلي
لها حبها بيتُ شعريَ أنْ تهملَ الضوء حولي
وتحفظ لي أنني ذاهبٌ في جنوني حراً
وتشهدُ أن الذي سوف يغتالني ماتَ قبلي

***

شهوة الخلق

هل قلتَ عن باب الخليقة وهو موصودٌ
وعن طُرقٍ يصادفُ أنها صِفةٌ لآلهة تعثر خلقها
هل قلتَ إن طبيعة التكوين تخذلنا
إذا متنا جزافاً وانتهتْ أخبارُنا في النص
في كتبٍ وفي غيم الحقيقة وهو يجتاز انتحاري
كي يظل الباب موصوداً وتبقى جنة وطريقة للخلق تبقى خولة
قالت لنا ما يرفع المعنى لنا ويُحرّرُ الرؤيا
يجيز الشك أن الله موجودٌ
لكي يملي قصيدته على ماءٍ وصلصالٍ وشهوة خالقٍ فينا

***

صارخ في الكون

هذا هو الكون
غرفتي الاثيرة وخزانة أخباري وصفحة كتابي الأخير ليستْ البيوتُ منازلي ولا مستقرات العيش سكناً لي
لي أن أرى السديم حبرَ أقلامي وطين الخلق سداةَ أشعاري
مواقع أقدامي أبهى وأبعدُ وجهتي إلى خارجٍ
أكتبهم في مجازات الأفق ويقرأونني متعثرين بالتخوم
أنتخبُ لهم الكأسَ فيترنحون بلا انتشاءٍ ولا لذَّةٍ
يتقصّون صوتي
يرصدونه ويصِفونه لصائدي الجوائز
أيها الموت يا صديقي
غرفة الكون لك
ولك الشخص والكتابة

***

مكاشفة

انظر إليَّ وخَلّصنِي وداوِ دمي
ودعْ لي حجةً أسعى بها
فأفُكُّ حبسَ الناس
روحي غيمةٌ وجميع أسمائي أدلاءُ الضياع
وردةٌ أمي مشاعٌ عطرُها ويداك فوقي
هل ذكرتَ الله هل أنتَ الإله
وهل حقيقتك انتهتْ في دفترٍ
دعْ لي رواقاً أشتهي فيه وأفجُرُ كلما جدَّفتُ
كي أنجو بروحي من سلالتكَ
انتظرْ وانظرْ
دعِ الأخطاءَ لي وامسحْ جراحي
لا تصدّقْ أن صلباناً سترفعُ كاحليك إلى سديم العرش
مَنْ يرقى إليكَ وأنت مأسورٌ بصمتك
سيدٌ في العرس خلصني من الشك
انفصلْ عن خرقةِ التاريخ دعْ أسطورةً تنساكَ
دع لي أن أعالجَ حيرتي بدمي وعطر الوردة المنهوب
دعني أقرأ المكتوب

***

النقائض

ليس لهذا السعي ولا لهذا الدعاء قدماي متعثرتان بما لا تعرف. كيف تسعى لما تجهل ويداي ضارعتان في غيم تائهٍ وليس لهما التشبث بهيكل الوهن أنظرْ إليهم وهم يرسمون دوائرهم حول وثنٍ وأنصاب يصنعونها آلهةً يخضعون لها ويؤلفون لها صلاةً وقرابين آلهةٌ ينبغي أن تخلق ليست لسعي ولا طواف جئتُ أسأل
أين أضع الكلمة وكيف أكتبها ومتى يَصحُّ أن أقرأ
شعرٌ خالقٌ ينشأ مثل العذب في الأجاج
مبدعٌ فاتنٌ يضع القلادة في عنق الشمس يأتيه المكان يصوغ له الوقت لازورداً ونيلجاً في البحر والبحيرة أراهم يتراكمون حول حجرٍ يَجبُّ حجراً. ولا يرد النيازك عن البيت
ليس لهذا جئتُ
جئت أكتب القصيدة وأقول للأيام
يا أخباري الآتية
لستُ لآلهةٍ
ولا قدماي في جنةٍ
وليستْ النارُ في يديّ

***

مديح النعش

أوقفْ جنودكَ عند حد العرش
واحرسنا بعيداً
نحن في أسرٍ
أضئ ناراً وجرِّدْ وحشَكَ المحبوس
لا تغفل. جباةٌ يمدحونَ النعش

أوقفْ جنودَكَ عند حق العرش
فالرومُ انتهوا من درسهم ورَمُوكَ
والفرسُ استعاروا من خيامك ما يَليقُ بقصرهم
كي يصقلوا بك سيفهم
فافهمْ غموضاً واضحاً واخلعْ نياشينَ الولايةِ من دمائك
واستعدْ شعباً بلا جندٍ
ودعْ للشعر أن يهجوكَ
كي يفضح ضلوعك
لا تقفْ واسبقْ دموعك
سوف تبكي مثلما فَقْدٌ على حكمٍ يزولُ
وسوف تنسى كيف كان الشاعرُ المقتولُ يمحوكَ ارتجالاً قبل أن يأتي الأفولُ
دَعْ جنودك وانتحرْ بالشعر أو دعني أقولُ

منعطف الكلام

لم أشدّ السرجَ قبل الكأس
لم أشحذْ سيوفاً قبل أقلامي
لماذا حانةٌ ريّانةٌ تحنو، وتنهرني خيامي

لمَ انتفضتْ ضعافُ الخيل حين انتابني شغفُ القصيدة
وانتضتْ فرسٌ جناحاً شاهقاً وسردتُ أخطائي
لماذا لم أمتْ قبل انتحاري كي أُريحَ القومَ من قتلي
وهل يومي مضى،
أم إن حتفي عند منعطف الكلام

***

لو أنّ خولة

لو أن خولة، وهي تهملُ ما تركتُ من الرسائل،
تَقبلُ الأعذار
كنتُ ارتحتُ قبل القتل
قبَّـلتُ ارتعاشة شالها وبكى لها قلبي قليلا وانتشى ولعاً بها
لو أن خولة، وهي تعلم أن وشماً لم يزل في زندها،
تروي دماً يلتاعُ بالباقي من الكلمات
لو ضوءٌ لها
لو أن معجمها يَحنُّ
كتبتُ عن أسمائها لو أنها
لكنني وحدي هنا وقصيدتي
والأبجدية قد تخون

لو أن خولة، كلما لاحتْ لها نارٌ وَرَتْ في وردة الأسرار، مالتْ بي على نهر الفرات وأطفأتني. وانحنتْ تحنو. وسرتْ لي بما يمحو العذابَ ويكتبُ الأشجارَ

***

مجاز

لولا ثلاثتكَ التي تحيا بها لمَ تَكْفِنِي تِسعٌ
فلا خمرٌ ولا امرأةٌ
وليس بطولة الفرسان لي
لم يبق لي غير انتظارٍ فادحٍ في ملتقى النهرين
شعبٌ شطَّ عن ميزانِه
فجنائزُ الأسرى تجوبُ البيت أصحابٌ يصحُّ لهم وشمسٌ في الشراك
ونسوة يبكينَ، كي أحظى بسطرٍ واحدٍ في لحظةِ التكوين
هل بيني وبينك ما يَشِي بالخوف من موتٍ وشيكٍ
من شريكٍ خائنٍ في غيمة الميزان
هل بيني وبينك شاهدٌ في شبهة الأسرى
وتحرير القصيدة وانفجار الذات بالشهوات
لولا نزهةٌ نالَ الفتى منها ثلاثاً
جنةٌ وجنونُ قلبٍ واشتهاءُ الجمر
لم يُكتبْ لنا في دفتر التكوين
لم يُقرأ لنا نصٌ ولم نسكرْ معاً
أكملْ كتابكَ
سوف يكفيني مجازٌ واحدٌ أحظى به ليضلّل التأويل

***

نزهة السجين

ليس للنوم معنى هنا
جسدٌ خفيفٌ يخدع الفيزياء ويبتكر الوقت
أعضاؤك تتلو تراتيلها وعيناك في قبة الحلم
كنيسة أخطائك مصقولة
يأتيك حلمٌ وتأتي جنةٌ
ويذهب عنك الجحيم وتعرف أن الملاك سيحرس أحلامك
وتخدمك أجراس المعاني
تصح لك الدلالات فتبوح وتغمض وتحظى بحبر البدايات
ويدور الكاغد بين يديك
تهذي وتكتب
زنزانة الليل وهجٌ يشعُّ والفراشات تنساب في كاغدٍ في كتابٍ
وتهذي
كما يطلق الطفل ألوانه في العصافير والريش
تبكي وتهذي

***

هجاء العبيد

حَطُّوا دفاترَهم على رملِ الصحارى، وانتحوا يبكونَ
كنتُ هُمُو وكان الأهلُ أقسى من عدوٍ صارمٍ
تاهوا
وباعوني رخيصاً للملوك وأعرضوا عني
وأسلَمني رفاقُ الأمسِ تحت الشمسِ
جيشٌ خادمٌ يهجو العبيدَ ويَمدحُ الصحراء
كي تحنو على مرض النصوص
كأن في قلب اللصوص شرارةً تحنو علينا

آه مِنْ نحنُ
إذا أهلٌ لنا ظنوا بأن دفاترَ الأخبارِ فوق الرمل تمحونا
إذا غفلوا وباعونا إلى أعدائنا
ضاعوا نسوا أحلامنا
وضعوا دفاترَهم على مستقبل الصحراء
ما اختلطوا
وما من حكمةٍ فينا إذا جُـنّـوا

***

الوشم

هل كلما ارتاحتْ يدٌ
تعبتْ يدُ
هل كل وشمٍ أخضرٍ
يخفيه وشمٌ أسودُ

***

ترنمية القتلى

جاءني أصحابي القتلى ومدُّوا لي يداً مقطوعةً
«خُذها،
فَـدَينا نصفَ أشعارٍ لك،
احتلنا لكي نحميكَ من أخبارِهم
خُذْها، يدٌ مأخوذة بنبوءة المعنى
فَـدَينا حلمَكَ المغدور قاتلنا قُتلنا
وانتهتْ أشلاؤنا مكتوبةً عنا
تولعنا بما يختارنا من شِعرِكَ المنهوب
خُذْ يدَنا لماء الشعر
تفدي شاعراً، وتضيع في أخطائنا لتوبّخ الكسلى"

يدُ القتلى تلوّحُ لي، كأن الشعر جوهرة المراصد
كلما حدَّقتَ فيها حاورتني مثل عين الليل
لا تغفو ولا تبلى

الرواة

جُـنَّ الرواةُ فلم أعُدْ أدري
أكنتُ حقيقةً
هل كنت في أسطورة التأويل
في التاريخ يهذي شارداً

كَذبَ الرواةُ وبالغوا حدّ الجنون
ولم أعد أدري
أكنتُ سرادقَ السلوى
لما يُروى عن الشعراء عند خروجهم في الليل عن نص الحياة
جُـنَّ الرواةُ
فكيف أعرفُ أن لي إرثَ القبائل
أن لي في وردة الشعر احتمالاً صارماً في الموت
يحرسه الرماةُ

***

سورة الخمر

الحمدُ للخمر
أرخَتْ ليَ الموتَ، سَـلَّـتـه مثل الحرير من الليل
خمرةُ الروح جاءتْ على رسلها في دمي،
تنتمي للرحيل النحيل، فتنتابني مثل أرجوحةٍ
ألفُ حَمْدٍ لها،
على مهلها
مثل نسغ النخيل التراتيلُ والنومُ والسلسبيل
وعشرون قافيةً سوف ترثي غيابي
إذا متُّ وحدي، وأرخيتُ نهرَ الدم المستحيل،
وعبأته في القوارير وزَّعتُه في القبائل شعراً لمن كاد ينسى
عشرون قافيةً سوف تكفي
سأحمد للخمر تأويلَها الملكيّ وأجثو لها
أنها بالغتْ في الكحول لتخلطَ موتيَ بالنوم أحمدُ خمراً تُـغـيِّرُ أحوالها

***

وحشة الفقد

التفاصيلُ لا تنتهي والسهوبُ الموحشة مثل قلب الضبع مكانٌ موغلٌ في الطبيعة أصغي لوجيب الدم وهو يطفرُ ويتناثر ويطيرُ في أروقة القلب أخرج من بيت القبيلة وأنتهي في وحشة الفقد غرفة الكون مدخرة منذ الأزل أكثر اتساعاً من أبجدية التأويل هذه زجاجة تحضن رعشة ذبالتها دليلُ لبوءات مذعوراتٍ حيث التفاصيل لا تنتهي كلما خرجتُ من قومٍ نفرتُ من أقوام
ليس ثمة فرقٌ بينهم إلا فرق الناب عن الناب

***

الحجارة

جلبوا الحجارة من حيرة الناس
من محاجرهم للقصور التي ضاهت الشمس وانتخبتْ بابها الملكيّ
الحجارة في الماء
في ورق الغار
في مستهل الحديقة وهي انتحابتنا التالية
الحجارة في الماء
حنجرة في الصهيل
كأن التراتيل حجتنا الواهية

***

أيقونة السفر

للسفر قنديلٌ يقرأهُ العابرون
له زهرةٌ في الضلالة له فراشة العتم وتجاعيدُ تتعثر بها الأقدامُ
وله أدلاء ثملون يأخذون بأيدي المسافرين
يدربونهم على الترنح
ويتركون أعضاءهم ترتخي وتسيل في مقاعد حجرية
للسفر معاجم تتهجى المسافة وتختم أفئدة المسافرين بطبيعة الصبر
وله خبزٌ تعدّه ملائكة الطريق
يضعه المسافر في فمه فيعرف أنه يوشك على الوصول
غير أنه لا يصل
فالسفر ليس لكي تصل
السفر لئلا تقف
سفرٌ له خرائط وإشارات ونصائح تأخذك إلى المداخل
وله شموعٌ في العتمة الكثيفة
وله صديق ينتظرك هناك

***

انقراض

مشرقٌ وَجِلٌ على مستقبلٍ يأتي
وتنقرضون

أشْخَصُ
ملءَ أحداقي رؤى البلور تبحر نحو عشاقٍ
وتنحدرون
أستعصي على تفسيركم
ودمي بعيدٌ عن سيوف خيولكم
وأغضُّ شِعري عن خطاياكم
وتبتذلون
صوتُ صلاتكم سَقْطُ الصواري وهي تنكسر
انتهتْ أسطورةٌ وهَوَتْ بلادٌ
واستعارت أمةٌ أخبارَها من دفترٍ يمضي
وعند أصابعي خيطٌ
كأن النجم يسمعُ والأقاصي في انتظاري
والمدى مستقبلي وتفاؤلي حولي
وتنقرضون

***

نار زرقاء

فتحتُ بابَ السجن يا جنتي
فاندلعت شمسٌ وطاشتْ نمور
فتحتُ كان الوقتُ أرجوحتي
فازرورقتْ نارٌ وفاضتْ بحور

***

صقل الحق

طفقَ الخطاطون يجوبون الحانات
يصوغون الأيقونات بشعرٍ وقصائدَ تصقل أخطاءَ ملوك الحيرة
تكشف أسماءَ الشعراء المقتولين
تفهرسها وتؤجّجُ نطق الحكمةِ فيها
خطاطون يؤدون الحق الأبيض بالحبر الأسود

***

على رسلها

وهي تنهال بالصوت
هل كان في صوتها بعضُ عمري
هل كان فجري يغني لها
أيها البحرُ يا سيدي يا قريني بعد الرحيل
على رسلها
سوف تبقى وردة الكأس تتركني
- على رسلها-
كالقتيل

***

على ماءٍ مشيتُ

على ماءٍ مشيتُ أقيس ما ينتابني من قسوة الصحراء كان الماءُ محض خرافةٍ ورأيتُ عن كثبٍ مراياه الأكاذيب الخدائع والشراك لكي يراك الموتُ لكني مشيتُ كأنه في الخطوة الأخرى أقيس ضراوة الصحراء وهي تهيبُ بالأسرى وتمكُرُ بالضحايا بالمرايا تعكس العطشى جنائز راكضاتٍ كانت الصحراء ناعسة الحديث تفيضُ أخطاءً وتأخذني لما لا يُستهان به من الإغراء كنت ذريعة الصحراء وهي تخاتل العطشى وتمحو ماءها كي يستمر السعيُ نحو الأفق كان الرمل بوصلةَ المسافرِ والغريبِ وضاربٍ في التيه كنت متيماً وجلاً وأعرف أن أشعاري قرينتهم لقتلي غير أن الماء يسمعني ويكتبني على الأسماء أمشي فوقه ويدي جناحُ فراشةٍ في النار أقداري مؤجلةٌ وصوتي طائشٌ يهذي وعيني في تفاصيل الخريطة كلما ناديتُ في ليلِ القبيلة رَدتْ الصحراء ردَّ الماءُ في جرح الزجاج وضاعت الأنواء لن يأتي سوى خبرٍ بأن الماء طاقية المهرج وهو يصعد ضاعت الأنباء هذا الماء محضُ خرافةٍ منذورةٍ لدلالة الأخطاء

***

قميص النبيّ

فلما ركع في المذبح لكي يقول صلاته
فاح من ثوبه عطرٌ غريبٌ جعل المصلين يلتفتون صوبه مأخوذين
لم يكن يصلي،
كان يقول شعره،
فطفق المصلون يرددون كلامه وهم عن صلاتهم ساهون
وكان الله يسمع ويغفر
ويصغي لكلام الشاعر أكثر مما يصغي لصلاتهم

***

المقتول بالأحباب

على مضضٍ تجرعتُ الضواري من ذوي القربى
وأرخيتُ الخيامَ لكي أنامْ
قدحي تفيضُ بماء قلبي
والندامى يحصدون الجمرَ في صدري
وأهلي يغدرون
هل اكتفيتَ؟
مضاضةُ المقتول بالأحباب أين الباب
قبرٌ أو جدارٌ أم جنائزُ مشرفاتٌ في السديمِ
يا نديمي أيها الحجر الكريم
وما اكتفيتُ
رأيتُ في وحش الرحيل مرارةً تغري بما يشفي
فأرخيتُ القصيدة في اليمامْ

***

كيف له

كيف للربّ أن يغفلَ الآنَ عن رسولٍ له
كيف يُهملنا بين أيدي الطغاة
أذلاء
كيف انتهينا نؤدي صلاةً له
وهو في غيهِ
يسأل العابد الكافر عن دربه
ذائباً في الصلاة؟

***

قل له

لا تقلْ للهواء إنني هيأتُ للنوم
قل له أخبار خولة
وهي الوحيدة في الليل
لا تقل للهواء عن الوله الطفل عن وحشة طالت الروح
عن مستحيل الفتى وهو في الذبح
قل له علّه

***

ماء يفسد

كيف ستحجب شمس الحق الواضح
كيف تنام على ماء يَفسُدُ
مثل الخوف على ساقيك وكيف يسوق الفطر إليك غنائمه
فطرٌ فاجرٌ يكمن كي يغدر بالحق الواضح
كيف تقول لنا إنك تحمينا
وأنت تنام على ماءٍ يفسد

***

ظلام المرايا

ستون ظلاماً وانتحاران وحبرٌ واحدٌ
كيف تسنى لك أن تبقى وحيداً كلِّ هذا النص

أنهيتُ زجاجاً كاملا أبكي
لكي أجلو مراياك
وأستجوب أسراكَ
وأحتال على القاموس بالتأويل

هل كان الأحباءُ يحبونك حقاً
هل نداماك يصبُّون لك الشعرَ
يغنون الرباعيات
كي تسكب نصفَ الحبر في النص

ستون ظلاما
منذ أن قاومتُ هذا الموت
كي أمحو غيابك
كنت أبكي
لم أعد وحدي هنا بعد كتابك
منذ ستين ظلاماً وانتحارين وحبرٍ فادحٍ
أسألُ كي يأتي جوابك

***

رقصة الغجر

وكنت إذا مشوا في الرمل أقرأ خطوهَم
وأصيبُ ناياتٍ وأستهدي بحزن صليلهم في الليل
كانوا يسألون عن الصبايا
يشرحون المعجزات لهن
سربُ قواقعٍ ونثارُ أحجارِ الغياب وجنةٍ مخبوءةٍ والوردة المكتومة الأحلام كانوا يسهرون ثلاث آياتٍ على الفجر المريض يبنون بالباقي من الأحلام مأدبةً وطيشَ غرانق ورُقىً يُصَلُّونَ الغرامَ بها
وكنت قرينَهم في الأبجدية منتهى قمصانهم وهي ارتعاشة رقصة الأخطاء
صرخة روحِهم مذبوحة في سيرة السفر الطويل
وكنت أسعى كي أكون دلالة التأويل لم أقبل بتفسيرٍ يطاردهم ولي في خضرة الوشم القديم إشارةٌ تغري ببعض الموت
خيطُ الناي والشعبُ الذي يبكي كماناً ضائعاً
سيظل يبكي مثل ثاكلةٍ
فتىً في روعة العشرين تأنيب الضمير خيانة الذكرى هدية عاشقٍ مغدور موجاً تائهاً وقبيلة أخرى
كتاب الخمر والكلمات في كيس الخراب
وأمة تسعى لتقديس العذاب

2

كان الرمل حبر كتابهم
وخيامهم بيتُ القصيد
وكان شعرُ الخوف نجمهم البعيد
أقرأ خطوهم
كي أخطئَ التفسير في ليل الكتاب
ذعرُ الغزالة عند نبع الماء تجْعيدُ القميص تزيحه القبلُ السريعة نـزّةُ الدمِّ ساعة النصل المباغت وازدهارُ الطفل في حضنٍ على فرس المسافة منتهى شعبِ الخرائط في ضياع الليل وردُ الكبرياء وجنةُ الخسران
رقصٌ صارمٌ لسلالة الأخطاء
عرسٌ عاجلٌ يجتازنا
أسماؤنا الحسنى
تجاعيدٌ ملفقة لوجهٍ حالم

3

شعبٌ سينسى أنني أجَّلتُ موتي تسعَ مراتٍ لكي أحظى بيقظته
نصبتُ له الخدائعَ وانتحلتُ النصَ والأنخابَ والغجر السكارى بالجمال ورِقةَ التهذيب بالخمر الغريب
وتسعَ مراتٍ نجوتُ بزهرة الميزان
كنتُ إذا مشوا في الرمل أسمعُ خوفَهم في ملتقى الأنهار
أخشى أنني لن أعرف المعنى
وإن أجلتُ تسعاً عشرَ مراتٍ
ففي بعض التفاصيل اختزالٌ لا يجوز مع الغجرْ

إلى غجرٍ تعود قصيدتي لتنال معناها
لتفسيرٍ مزاجيٍّ لشعبٍ يفقد الإيقاع
أسلمَ واستراحَ وغادر القاموس
لا غجرٌ له
شعبٌ أضاعَ كمانَه
نسيَ الأغاني واستقر بلا سفر
شعبٌ يفرّط في الغجر

***

الأزرق في وحدته

(كتاب البحر)

«كأنّ حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من دد»

طرفة

منتهى المرآة

خلفي قواميسُ الرمال
وجثتي مهدورةٌ
وضراوة الفتوى تجيز لمن يصادف جنةً في النص
أن يمحو كلامي
شَدُّوا سرادقَهم ودقّوا رقصة الأقداح وانتهبوا
وغَطوا وردةً في الليل
قالوا لم تكنْ ? ونسوا خيامي.
زمني عصيٌّ
لا طريقَ سوى دمي وتوهج المرآة يغويني
أرى موتي وأقرأ ليلهم في معجمٍ يمضي
كأن المنتهى
وكأنني لغة القِـيام

***

ترجمة النحيب

كيف نترجمُ كل هذا النحيبِ
محنةٌ أن ترى بحراً هائلاً وتسمعه يصدر صوتاً كهذا ولا تكادُ تدركُ هل هو نحيبٌ صادرٌ عن البحر من موجِه، أم إنه نحيبُ كائناتِ الأعماق اللازوردية الغامضة، حيث القواقع متمترسةٌ في عزلتها والصَدفُ مكنوزٌ في زَرَدِ المَحار الزاهي بِسمتِه المَهيب
كائنات تتفجّع مستجيرةً بالمجاهيل تعلنُ عن وحشتها في المهاوي القصيَّة أم هو نحيبٌ يتفصّدُ عن خشبٍ خفيفٍ وحطبٍ كثيفٍ يتجشَّمُ أنواءَ الرحيل والسفر عبر يمٍّ بهيمٍ في نزهةِ البراري والسديم هل هي لحظةُ الامتزاج الكونيّ بين عناصر يختصرُها صوتٌ بشريٌّ يتصاعدُ من الحنجرة الجريحة، في غناء بحريّ لشخص مصلوب في متوازيات السواحل ومتقاطعات الموج والملح والمحار والنيلوفر السحيق مأسوراً بصوارٍ متعاليةٍ وقلوعٍ ناصعةٍ تضاهي سماء زرقاء شاهقة تكاد تسقط.
نحيبٌ يستعصي على الوصف
حنجرةٌ مفدوحةٌ تبوحُ مثل فحول الخيل المنذورة لافتضاض بكورية الأفراس الهاشلة في أفقٍ بلا حدود مخلوقات مرصودة لاقتحام المتاريس وحماية الفرسان وصيانة الأسلحة وإحراز الهزائم والدفاع عن القتلى ونسيان المفقودين.
تلك هي موسيقى الأرواح المنتحبة
قادرة على المسافة واجتراح الخسارات
في بحرٍ يضع الصحراء على المحكِّ
لتبرأ من التجربة.

***

الفراشة في الشفتين

ستبقى هادئا، الريحُ تصخبُ حول جيشك
هادئاً مثل اختناقةِ حالمٍ في بحره تبقى،
ويأتي الشعرُ عصفاً صامتاً كفراشةٍ تغفو على شفتيك
تبقى صامتاً كي لا تفرّ فراشة العينين
هذا الشعر يغوينا
احتمالاتُ انهدامٍ واختراق النصل
والنار الجريحة وانتحابٌ فادحٌ
وضراوةٌ وضغينةٌ والغدرُ مثل البحر
غابةُ أنجمٍ شكوى بلا جدوى
ووحدك هادئ،
تبقى فراشتك الحزينة وحدها
شفتان شاخصتان تبقى هادئاً
نَصْلٌ يصلِّي قربَ جرحك
والفراشة صمتك النبويّ
والصحراءُ بيتك
هادئاً تبقى قبيلَ البحر

***

البحر الأوّل

جُنَّت « الرقلاء».
وطاشَ صوابُ الحيوان العاقل الأليف، ولم أعد قادراً على كبح جماحها، فقد انطلقتْ تاركةً مسار القافلة. وكلما شددتُ قيادَها نَتَرتْ رأسَها وجدَّتْ في المسير الهميم تطردُ وتخُبُّ وترقلُ منطلقةً حتى يستقيم رأسُها مستوياً مع عنقها بالركاب صانعةً جسراً نحو ما لا أدري
لم أرَ «الرقلاء» في هذه الحال من قبل رحت أتشبث بالركاب والتلابيب خشية الانفلات والسقوط لفرط حركتها القوية المضطربة غير المكترثةِ بي ظننتُ أنها في حالٍ من إثنتين، إما أنها قد شَمَّتْ رائحةَ ماءٍ قريبٍ فطارتْ إليه بعد أيام العطش التي صرمناها في الصحراء? أو أنَّ لوثةَ الجوع قد أفقدتها عقلها
قلت دعها فهي في الحالين مأمورةٌ بما لا سلطة لي عليه
وفيما نحن طائران إذا بنا نسمع صوتاً هو بين النحيب الجماعي واصطفاق الأجنحة العظيمة صوتٌ لم نعهده طوال الصحراء فلم يزد هذا الصوت «الرقلاء» إلا انطلاقاً ناحية الصوت كأنها كانت تعرف إلى أين تذهب وسرعان ما ظهر لنا في أفق نظرنا بريقٌ لازورديّ لم يسبق
لي أن شاهدته في سفر ولا في إقامة حين أبصرت "الرقلاء" تلك الزرقة نترتْ عنقها عالياً والتفتتْ تنظرُ في عينيّ كأنها تقول لي "هل رأيت ؟"
أرخيت لها القياد أكثر ربَّتُّ بساقيَّ المتوترتين على جانبيها مطمئناً أنني أرى ما تراه وصارَ لذلك السطح اللازوردي لمعةٌ تخطفُ البصر حتى إنني لم أجدْ ما يدفعني لقبول الظنّ بأن ذلك ضربٌ من السراب إن أحداً لن يصدق ذلك فلم يصادفنا سرابٌ مثل هذا قط
ثم أخذ الصوت العظيم يتصاعدُ ويقتربُ متوضحاً دونَ أن يشبه صوتاً سمعناهُ في حياتنا و"الرقلاء" تتقدم بالخِفّة التي يساويها بالطائر وكأن فرحاً غامضاً بدأ يتسرب في كيانها لينعش أعطافها المتعبة سَرَتْ من جسدها حرارةٌ في جسمي متحوّلة إلى برودةِ من يقف في مهبّ هواءٍ صارت «الرقلاء» أكثرَ خفَّةً وهي تباعد بين مواقع أطرافها موشكةً على أن تخفَّ عن الأرض وجاءتْ لنا الزرقةُ مشوبةً باخضرارٍ طريّ تتقدم نحونا أسرع مما نذهبُ إليها لونٌ غريبٌ عجيبٌ شاسعٌ هو الآن يملأ الأفق أمامنا وتكتنز به أبصارُنا شعرت كأن عاطفة توحد بيننا أنا و«الرقلاء». أحاسيس تمزجُ بين روحينا وجسدينا في آن لم أكد أمسك حبلَ قيادِها، ولم تعُد تشعر بي خارجَ حدود الطبيعة المستيقظة في جسدها ها نحنُ نذهبُ إلى شيءٍ هو أجملُ مجهولٍ صادفناه طوال حياتنا
وفجأة،
وقفت «الرقلاء» متسمّرةً مثلَ صخرةٍ على حافة ماءٍ عظيمٍ من اللازوَرد وهو يَصْخَبُ ويتلاطمُ ويصرخُ بنا أن قِفا
فوقفنا
وقد تملكنا ارتعاشٌ لهول ما رأينا كان ذلك فوق طاقة خيالنا بكامله
صرخت ما هذا يا «رقلاء» ؟
فسمعتها تقول هذا ما أريدُ أن أعرفه
لم نشاهد ماءً بهذا الحجم والضخامة والهول أبداً إذن كانت «الرقلاء» تتبعُ رائحةَ الماء والآن وقعت على ماءٍ أكبر من الصحراء التي نعرفها فكرتُ لابد أن طوفاناً قد حدثَ في غفلةٍ من الناس وأنه قد ابتلعَ الخلقَ جميعه نحن لا نرى بشراً هنا حين لم نلحظ حالاً يستجيبُ لذعرنا، تَبيَّنَ لنا أن لا مخافة مما نراه، سوى أن صوتَ الاصطخاب المتواتر قد أقلقنا خشية أن كلاماً يتحدث به هذا الماء يتوجَّبُ علينا فهمه وإدراك فحواه
شعرتُ بعضلاتِ جسد «الرقلاء» ترتخي وتبردُ ويتحدَّرُ عرقها مثل سيلٍ يَصُبُّ على جوانبها تحركتْ حول نفسها تدور نزلتُ تاركاً لها قيادَها مرخياً على رملٍ هو من البياض والنعومة بحيث يحلو لها أن ترسمَ فوقه بقوادِمها ما يجول بخيالها اليقظ تقدمتُ ناحية الحافة الطريّة كأني أريد أن ألمسَ الماءَ العظيم بكامل حواسِّي لكي أتيقن من طبيعته السائلة فأطلقت «الرقلاء» رغاءها تحذرني من مغبة ما أنا مقدمٌ عليه فأومأتُ لها أن تهدأ لامستْ قدماي الرملَ الناعم الرطب تقدمت رشت موجة صغيرة قدمي ببرودة جديدة كان عليَّ أن أعرفَ أمراً واحداً قبل كل شيء أمراً لا يفكرُ البدويُّ في شيءٍ قبله هل هذا ماءٌ عذبٌ يروي العطش؟
كانت خيبتي تضاهي لذةَ اكتشافي الأول لهذا الذي سيقال لنا، فيما بعد، إنه البحر قرين السفر المستمر الأمرُ نفسه سيخالجُ «الرقلاء» التي ستعرفُ سريعاً أنه ماءٌ لن ينقص غناه وكرمه إلا كونه يقْصُرُ عن العطش غير أننا قد وقعنا ساعتها على ما سيجعل حياتنا في التجربة الفاتنة
وكان ذلك أول عهدي بالبحر

2

ومن يومها لم أعرف مَلِكاً مثله
هذا الكائن الضخم المنبسط بشموخ الأقوى بهذه الليونة التي لا تضاهى المكافئ الأعظم لصحراء الأرض قاطبة من يومها كلما اتجهتُ إليه ينتابني شعورُ الخاشعِ ذاهباً إلى صلاةٍ مشتهاةٍ ليستْ قسراً ولا نَذراً ولا شكاية صلاةُ الروحِ السائلةِ في الجسدِ الهش أذهبُ إلى ملكٍ كريمٍ بلا مِنَّةٍ رحيمٍ بلا رجاءْ أجلسُ إليه أصغي لحديثٍ أفهمه وأتفاهمُ معه يسمع مني صمتاً لا يدركه سواه
عرفتُ البحرَ، ورسمتُ فيه سفناً وفلكاً وهوادجَ تصلُ الرملَ بالموج، وأضعُ في زرقتهِ جسدي كلما تعبتُ
مثل سيفٍ يستريحُ في غمده
قبل البحر كانت الصحراءُ تكفينا
وبعد البحر،
ما أضيقَ الكون وما أقلَ القصيدة

***

الحداة يبتكرون البحر

الآن أعرفُ البحرَ،
كائناته مخلوقاتِ زرقتِه الغامضة ليس لبدويّ مثلي أن يدركَ ذلك قبل أن يضعَ كيانَه في رحاب هذا الماء الهائل، ويؤرجحُ قدميه بين الرمل الناعم والنيلوفر البعيد
سريرُ القواقع ونزهة الحيتان

أعرف البحرَ،
رجاله الذين أنجبتهم ملكة الموج وربَّتهُم النساءُ البحريات رجالٌ هم إما مسافرون أو عائدون أو مستعدون للسفر رحيلٌ في الزرقة غوصاً حتى الجُمان حيث يولدُ الحجرُ الكريمُ من حكمةِ اللحظة المريضةِ ساعةَ اصطفاقِ العذبِ بالمالحِ في بياضِ الصَدفة المكنوزة في السحيق مكترثاً بالهواء يغمسون أجسادَهم النحيلة المعروقة في غفلة الوحش الحكيم، موثِقين أجسادَهم بالمثاقيل من أجل مباغتة القاع لإنقاذ الدرّ المكنون في زرد الأزل

البحرُ،
النجارونَ، مهندسو المسافات، أساتذةُ الغياب، مروّضو الخشبِ اليابسِ ليصيرَ هوادجَ تجوبُ تجاعيدَ الأنواءِ مستجيبةً لنداء الأقاصي حيثُ الصحراءُ وحيدة بسفرها الذي يبدأ ولا ينتهي مروضو الخشب الهارب من عتمة الغابات نحو مساقط الوهج الشاهق على مصابِّ الأنهار وأرخبيل الليل خشبٌ هو الآن سريرٌ وشرفة ودرجٌ تصعدُ إليه أبراجُ الموجِ وتيجانِه الطائشة
الحدادونَ، مطوِّعو الفولاذ بولعِ الأفئدةِ طارقو الأشكال والمهاميز ملوحين بالمراسي لارتياد الأنواء واكتساب راحة السفن ونزهة البحار وخبرة المسافرين حديدُهم أخفُّ من الغبار وأكثرُ رشاقةً من أصائل الخيل يَخِيطُونَ صفائحَ الخشبِ بمغازلَ مثلَ أناملِ النساءِ المنتظراتِ في وحشةِ السواحل

المغنون حُداة البحر نواح الأكباد جوقة الحناجر يحتلون حواف السفن الطوّافة يهدهدون بكلماتهم يقظة الغواصين في غفلة الماء والريح تتدلّى أطرافهم المتعبة مغموسة في البحر دافقين أصواتهم حتى الأجرام الغاطسة وهي تتلمس حراشف المحار مرتعشة الفرائص في انتظار الشهقة العظيمة لحظة ينترون أعناقَهم خارجَ الغمر مغنونَ يَرتِّـلونَ الألمَ في سورة السفر في رعايةِ قمرٍ شاحبٍ فوق خشبٍ مغسول في مراقدَ ضاريةٍ لفرط المَحارِ فوق السطح الثملْ

البحرُ،
النوارسُ المُحلِّقة، المنسابة، المتوترة، المنقضَّة، الأليفةُ، النافرةُ، الضائعة، الدليلُ، بريدُ السواحلِ، حارسةُ الموجِ، رعاةُ الزبد الطائشْ ببريق ريشِها يُتقنُ البحارةُ هندسةَ المكانِ والطقسِ وملامحِ الأفق
شعوبٌ رَبَّـتها النساءُ البحريات، ونذرتْ لها الماءَ الهائل، وأطلقتها في هوادجَ تتأرجحُ في أردانِ الموج بمزاجه العاصف أعرف لهم أجنحة الفقد والفرح وأشداق الآفاق في انتظارٍ صارمٍ تتناوبُ على رعايتِه النساءُ البحريات مع رجالهن في السفر والإقامة

البحرُ،
المناديلُ البيضاءُ الشاسعة، منشورة في مهب الصواري الشاهقة تلك هي رسائلُ يبعثها الناسُ في بريد السماء غداةَ سفرٍ يأخذُ الرجالَ في الغيم رسائل الصلاة والتضرّع لئلا يغفل الله عن أفئدة النساء يحمي رجالهن يصون غوصهم ويجعل عودتهم نعمة الآلهة أعرف النساء يمدحن البحر حين يرجع الرجال، ويهجونه حين يتأخرون في العودة، ويحرقنه بجمر القلوب إذا هو تهاون عنهم وأهملهم وأضَاعَهُم في تيه اللجِّ وطَرَحَهم ضحية الأنواء والمجاهيل

أعرف البحر،
حكمةُ الماء العظيم الذي يسهرُ على هندسة الحجوم والمسافات في ميزان الأرض وإسطرلاب الغيم ويُسعدُ السفن ماءٌ كثيرٌ يزداد بمزاج القمر يلقن الصحراء درس الكرم ولين العريكة وصرامة التجربة يروي رسائلَ السفر يحنو على كائناته الطرية يَعِدُها بالعودة والعطايا ويرعى ضيوفه الموسميين ويُصغي لحُداة السفن وأناشيد السواحل سجالٌ يتبادله بشرٌ تطيشُ بهم المغامرةُ يزعمُون البسالةَ ويستبدلون الجموحَ بالندم ماءٌ كثيرٌ أجاجٌ واضحٌ وعذبٌ كامنٌ في التجاعيد تكتشفه النساءُ ويرشفه الرجالُ بالقِرَبِ والمجارير كلما جَفَّتْ السفنُ واقتحمتْ الصحراءُ برمالها الفجةِ فرادةَ الأرخبيل النبيل
حكمةٌ من البحر تأتي إلى البحر تذهبُ
وما إن يكتشفَ شاعرٌ بحراً جديداً حتى تبدأ الأسطورةُ في النحول كأنما القصيدة بيتُ الصحراء، والبحر فارسُها المنتَظرْ هديتها اللؤلؤُ وبلورة الماء والعذوبة الهاربة
أعرف الآن لِمَ يَعْتَرِكُ الملوكُ ويقتتلون على هذا الأرخبيل المنسيّ، فلن يكونَ لتيجانهم قيمةٌ أو مكانةٌ إن هي خلتْ من لؤلؤ البحرين

الآن أعرف
الآن
كيف لن يكتفي الملوكُ بالأرض،
ولن يكفيهم بحرٌ واحدٌ
ولا يروي عطشهم ماءُ الأبد

***

بحر / حلم

يده على ماء الرحيل،
وقلبه في الخوف
عينان في وَجلٍ
على مهلٍ
يسيلُ
وينتهي
ويموتْ

***

بحرٌ ثالثٌ

سأعرفُ كيف أن البحرَ كان ذريعة لأبي
لكي يبكي ثمانين اختناقاً صارماً بكمانه المكسور
زاغ نشيدُه واحتارَ موجٌ طائشٌ بنحيبه
الآن أعرفُ
كان ملاحٌ يجورُ به
ويجثو عند صاريةٍ تميلُ به
أهيمُ به
ويتركني لمملكة الغبار تشدُّني فأضيعُ في الأمواج
كنتُ نحيبه في البحر يتركني لصاريةٍ تمزقني
سأعرف أنني ولدٌ يشيخ وأنني طفلٌ يشيب ونطفةٌ للموت
كان أبي يؤلفني ويكتبني
لتمحوني يدٌ ويشدني غيمٌ لمحتمل الحوارِ
الآن أعرفُ أن بحراً ثالثاً ينتابني بدمٍ ونارِ

***

لازورد القميص

أكثر حرية من الماء هذا الأزرق الرحب الأزرق الرحيم هذا اللازورد الذي يبدأ كلما وضع شاعرٌ قلبه في القميص المجعّد ماءٌ يحضن بعذوبته الغامضة روحاً هائمة شاردة من تخوم الممالك
أكثر حرية هذا البحر، أيها الملك، من كل نصوص خطبك المشحونة بقواقع يابسة وأسماك ميتة ومراكب مهجورة
أيامي الأخيرة قبل الرحيل الأخير تريثت لكي أقول لك ما فاتك إدراكه وما غفلتَ عن فهمه وما تعثرت لغتك في قراءته
أقول لك
مستعينا بالمعجم الصغير في صدور الناس، معجمٍ يرث القواميس ويرتعش صوته الخفيض بالخفقان كلما أوشكتْ الزرقةُ على النوم
أيامي الأخيرة هنا
سوف أذهبُ لئلا يقال إن أياماً بخيلة ضاقت على الكلمات في حضرة البحر تحت شرفة الملك

أيها الملك
هذا أزرقُ خارجٌ عن تخومك لا يطاله سلطانٌ وليس لك سطوةٌ عليه بحرٌ ليس لك أيها الملك
لا صحراؤك ولا جيشك ولا حرائقك
بحرٌ سَهرَ عليه مهندسون كثيرون وغَزَلَهَ غواصون من بياض أحداقهم وحلكة لياليهم وقرمز قلوبهم، وزرعوا أحشاءه باللؤلؤ الكريم، ومنحوا أسماكه الألوان وحرية الماء
بحرٌ هو الباقي لشعوبٍ هائمةٍ في وحشة أرض صغيرة تستضيق ولا يقدر الشعر على حزنها
خُذ الصحراء كاملةً كلها
ولتدع البحرَ نزهة للغرق

***

فوضى

دَع ماءك الكوني يُصغي للأقاصي
وانتظرْ ترنيمةَ الكابوسِ
مثل فراشةٍ،
وانهرْ سلالتكَ المضاعة
وانتظرْ تهويدةَ القاموس
ماءٌ في مكانٍ غامضٍ ماءٌ وليلٌ باهظٌ
دَع لي كتابك قبل أن تقرأ،
وقبل البحر، قبل صلافة التفسير
دعني للأقاصي
أستعيد تحيةَ الفوضى وأخطاءَ السلالة
غفلةَ الفانوس

***

روحٌ تفيضُ على القدح

(شذرات طرفة)

«وَكرِّي إذا نَادَى
المُضَافُ مُجَنَّباً
كسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ المُتَورِّدِ»

طرفة

ما تنظرون بحق وردة فيكم

*
قد يبعث الأمر العظيم صغيره

*

ان الكريم، إذا يحرّب، يغضب

*

كيف يرجي المرء دهراً

*

أسْلَمَنِي قومي
*

كل خليلٍ كنتُ خاللته لا ترَكَ الله له واضحة
*

كلهم أرْوَغُ من ثعلبٍ

*

ما القلب سالم

*

كأني مثقلٌ بجراحي

*

كباقي الوشم في ظاهر اليد

*

أبكي وأبكي إلى الغد

*

يقولون: لا تهلكْ أسىً

*

كما قسّم التربَ المفايلُ باليد

*

الشمس ألقتْ رداءها

*

صهابية العثنون

*

جَنوحٌ، دفاقٌ، عندلٌ، ثم أفرغتْ

*

إذا أقبلتْ قالوا تأخَّر رَحْلُها

*

بنائقُ غرٌّ في قميصٍ مقدد

*

أتلع نَهّاضٍ

*

كمكحولتي مذعورة

*

وإن شئتَ لم تَرْقَلْ، وإن شئتَ أرقلتْ
ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

*

جاشتْ إليه النفسُ خوفاً

*

اذا القوم قالوا من فتىً خلتُ أنني

*

ولستُ بحلال التلاع مخافةً

*

إن تقتنصني في الحوانيت تصطد

*

نداماي بيضٌ كالنجوم

*

رحيبٌ قطابُ الجيبِ منها

*

على رسلها مطروقةٌ لم تشدد

*

مازال تشرابي الخمور ولذتي

*

تحامتني العشيرة كلها

*

أفردتُ إفرادَ البعير المعبّد

*

هل أنت مُخْلِدي

*

دعني أبادرها بما ملكتْ يدي

*

أرى العيش كنزًا ناقصاً كل ليلة

*

ما أقرب اليوم من غد

*

متى ما تعلَ بالماء تزبد

*

ذرني أرويّ هامتي في حياتها

*

أرى الموت

*

لعمركَ إن الموت ما أخطأ الفتى

*

رأيتُ بني غبراء لا ينكرونني

*

لا خيرَ في خيرٍ ترى الشرَ دونه

*

وإن أُدعَ للجُلى أكنْ من حماتها

*

ولكنَّ مولاي امرؤ هو خانقي

*

كرأس الحية المتوقد

*

إذا ابتدر القومُ السلاحَ وجدتني

*

ماذا ترون بشاربٍ شديدٍ علينا

*

موطنٌ يخشى الفتى عنده الردى

*

أفي اليوم إقدامُ المنية أم غد

*

فإن متُّ فانعيني بما أنا أهله

*

نفى عني الرجالُ جراءتي عليهم
وإقدامي وصدقي ومحتدي

*

ما الأيام إلا معارة

*

ستبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً

*

فليت لنا مكان الملك

*

ومن الحب جنونٌ مستعر

*

حيثما قاظوا بنجدٍ وشتوا
وإذا تلسنني ألسنها

*

أرهبُ الليل

*

تتقي الأرض

*

إنك من قومٍ صبر

إذا ما فزعوا

*

تساقى القوم كأساً مرةً

*

فإذا ما شربوها وانتشوا

*

عبق المسك بهم

*

نمسك الخيل

*

كجذوع شذبت منها القشر

*

أرسل حكيماً ولا توصِه

*

ولا تنأ عنه ولا تُقْصِه

*

وذو الحق لا تنتقص حقه

*

ويأتيك بالأمر من فَصِّهِ

*

حلفتُ بربِّ الراقصات

*

خُذوا حِذْرَكم

*

هي الميتة الأولى

*

بعض الشر أهونُ من بعض

*

وجردا على الغدر خيلاً ما تمل من الركض

*

إذا ما الغيم أمسى

*

يرقص قبلها الدفءُ

*

لا تعجلا بالبكاء

*

ولا أَغِيرُ على الأشعار أسرقها

*

هل لنا أهل ؟

*

ترد عليّ الروحُ ثوبي

*

وسيفي حسامٌ

*

فليت غراباً في السماء

*

وبالسفح آيات

*

وأسحمَ وكّافِ العشيّ

*

وليس على ريب الزمان كفيل

*

نَظَرٌ ساجٍ إليك

*

غنينا وما نخشى التفرق

*

كلانا غريرٌ

*

سما لك من سلمى خيالٌ

*

حبٌ كلمع البرق

*

و ما زَادَك الشكوى

*

فإني واصلٌ حبلَ من وَصَل

*

أبكي ليومٍ لقيته

*

أبكي أسْوَدَ حالكاً

*

إذا جاء ما لابد منه فمرحبا

*

وتصدُّ عنكَ مخيلة الرجل

*

كسطور الرقَّ رَقَّشَهُ

*

حابسي رسمٌ وقفتُ به

*

وقد يبلغ الأنباء عنك رسولُ

***

الأمثولة

(شهادات وثيقة)

«الهوة القائمة بين الميثولوجيا والتاريخ يمكن ردمها بدراسة التواريخ التي يجري تصورها، لا على أنها منفصلة عن الميثولوجيا، بل هي استمرارٌ لها».

كتاب«الأسطورة و المعنى»
كلود ليفي شتراوس
ترجمة صبحي حديدي

***

ابن سلام

«أشعَر الناس بعد امرئ القيس».
«معظم شعره ضاعَ، حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره إلا بقدر عشر قصائد مع أنه كان من أقدم الفحول وقد حُمِلَ عليه كثيرٌ من الشعر»

كتاب «طبقات فحول الشعراء»

***

بروكلمان

«هو طرفة بن عمرو بن العبد البكري كان ابن أخي المرقش الأصغر وقضى شطراً من حياته في بلاط عمرو ابن هند، الذي ملك الحيرة حتى سنة 568 أو 569م لكن يبدو أن طرفة لم ينادم أبا قابوس في الحيرة، إنما أخا الملك من أبيه، وهو عمرو بن أمامة، في اليمامة، وكان التجأ إلى قبيلة مراد من عداوة أخيه، فعاقب الملك طرفة بأخذ إبله التي تركها في «تبالة» من ديار بني لخم، فهجاه طرفة بأشعار مقذعة وقد فَضَّلَ النقادُ طرفة على سائر الشعراء بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه، ويميل بعضهم إلى عَدِّه أشعرَ شعراء الجاهلية».

كتاب «تاريخ الآداب العربية»

***

ابن حبيب

اعتبرَ ابنُ حبيب في كتابه «عقلاء المجانين» سلوكَ طرفة ابن العبد وخاله المتلمس، إذا صحَّ تصرفهما بحمل رسالة ملك الحيرة إلى عامله في البحرين وهي تحمل أمر الفتك بهما، إنما هو ضربٌ من الحماقة والبلاهة التي قد تصدر عن أكثر الناس سذاجة ولا تناسب شاعراً مثل «طرفة» صاحب المعلقة الزاخرة بالحكمة

كتاب «عقلاء المجانين»

***

ابن قتيبة

_ 1 _

«أجودهم طويلة وكان في حسبٍ من قومه، جريئاً على هجائهم وهجاء غيرهم وكان أحدث الشعراء سناً وأقلهم عمراً»

_ 2 _

«أضربهم مثلاً طرفة»

كتاب «الشعر والشعراء»

***

أسقف البحرين

وكان لـ «هجر»، قصبة البحرين، أسقفٌ يدعى «إسحاق»، ذكر في مجمع النساطرة سنة 576 ميلادية أن «طرفة قد وُلدَ في عام 543 ميلادية وقتل في عهد عمرو بن هند ملك الحيرة سنة 569 ميلادية.

كتاب «ملوك الحيرة»

***

أبو بكر الأنباري

«أخبرنا الحسن بن علي العنزي قال أخبرنا العباس ابن الفرج الرياشي قال أخبرنا عمر بن بكير، قال حدثنا الهيثم بن عدي قال حدثنا حمّاد الراوية عن سِماك ابن حري قال حدثني عُبيد راوية الأعشى قال حدثني الأعشى قال حدثني المتلمّس قال قدمتُ أنا وطرفة ابن العبد على عمرو بن هند، وكان طرفة غلاماً معجباً تائهاً يتخلّج في مشيته بين يديه، فنظر إليه نظرةً كادت تقتلعه من مجلسه، وكان عمرو لا يبتسم ولا يضحك، وكانت العرب تسميه «مضرّط الحجارة»، وملك ثلثمائة وخمسين سنة، وكانت العرب تهابه هيبة شديدة»

كتاب ?شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات?

***

ياقوت الحموي

عن «الأغاني» للأصفهاني، يقول ياقوت
« ... والأصوات المائة هي تسعٌ وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط سهواً، أو يكون النسيان قد غلبَ عليه والله أعلم، فهو قال في أكثر من موقع إنه سيقول عن هذا الشاعر في موضع آخر ولم يفعل»

كتاب «معجم الأدباء»

***

الشريف المرتضى

ليس كما قيل عن إنه عمرو بن هند، فإن مَنْ أمَرَ بقتل المتلمس وطرفة هو «النعمان بن المنذر» بشهادة طرفة ذاته الذي يقول في قصيدة له يخاطب فيها الملك النعمان
«أبا منذر كانت غروراً صحيفتي»

كتاب «الأمالي»

***

عائشة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمثلُ بشعرٍ غير بيت طرفة بن العبد
"ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود"

ويصفه بأن هذا من كلام الأنبياء.

كتاب «مصادر الشعر الجاهلي»
ناصر الدين الأسد

***

جواد علي

«تاريخُ ما قبل الإسلام هو أضعفُ قسمٍ كتبه المؤرخونَ العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة، وأكثر ما ذكروه على أنه تاريخ هذه الحقبة، هو أساطير وقصص شعبي وأخبار أُخذتْ عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود? وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام لمآرب أخرى».
كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»

***

طه حسين

_ 1 _

«شخصيةٌ قويةٌ ومذهبٌ في الحياة واضحٌ جليّ مذهبُ اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيءٍ بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيمٍ بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء الناس
شخصية بارزة لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة وهذه الشخصية ظاهرةُ البداوةِ واضحةُ الإلحادِ بيِّنةُ الحزنِ واليأسِ والميلِ إلى الإباحةِ في قصدٍ واعتدال».

_ 2 _

«وكيف يستطيع عاقلٌ أن يصدقَ أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلة همجية»

_ 3 _

«زعموا أن المتلمس كان خال طرفة ولم يرو ابن سلام للمتلمس شيئاً ولم يسمِّ له قصيدة».

كتاب «في الأدب الجاهلي»

***

ناصر الدين الأسد

_ 1 _

«القول بأمية الجاهلية فرضُ وهمٍ يجب أن نسقط جميع ما رُتب عليه من نتائج باطلة»

كتاب «مصادر الشعر الجاهلي»

***

المفضل الضبّي

«كان شاعراً جريئاً على الشعر»

كتاب «المفضليات»

***

الجاحظ

«ليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث، فإن قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية».

كتاب «البيان والتبيين»

***

الأصمعي

سئل عبدالرحمن ابن أخ الأصمعي عن عمه
- ماذا يفعل عمك؟
فقال : قاعدٌ في الشمس يكذب على العرب

كتاب «المزهر» للسيوطي

***

ليدي آن بلنت

«يعتقد أن هذه المعلقة أكثر انتظاماً في بنيتها من كل المعلقات الأخرى من المؤكد أن مطلع معلقة طرفة انتحال من معلمه العظيم امريء القيس ولا يبرر أي جمال فكري خاص أو أسلوب بياني، الحكم على ما تبقى من القصيدة».
كتاب « القصائد السبع المذهبات»

ترجمة "صلاح صلاح"

***

إدوارد فنديك

«هو عمرو بن العبد بن سفيان البكري وطرفة لقب غلب علية و هو شاعر مجيد مقدم من فحول شعراء الجاهلية من أهل البحرين كان قد بلغ مع حداثة سنه ما بلغ القوم مع طول أعمارهم وكان في حسب من قومه جريئاً على هجائهم وهجاء غيرهم وهو من أصحاب المعلقات السبعة وله المعلقة الدالية المشهورة وله أخت أسمها خرنق وهي شاعرة نظيرة أيضاً قتله عمرو ابن هند بسبب هجائه لأخيه قابوس وكان ذلك قبل ظهور الإسلام بنحو سبعين سنة وطبعت معلقته سنة 1829م في مدينة بون مع شرح الزوزني لها»

كتاب «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع»
طبع في مدينة غرايفسوالد سنة ????م

***

المعري

« يا ابن أخي ، يا طرفة، خفف الله عنك»

كتاب "رسالة الغفران"

***

محمود درويش

« أيها الموتُ
انتظرني
ريثما أُنهي قراءةَ
طرفةَ بن العبد».

كتاب «الجدارية»

***


كتاب الجَرح والتعديل

(في مديح الحيوان)

«وَإنْ شئتُ لم تُرْقِل وَإن شئتُ أرْقلتْ»

طرفة

***

المخيلة في النزهة

ليس في الحكاية من الحقيقة شيء رصين الفكرة متماسكٌ يكتمل فهي أدخلُ إلى الأسطورة منها إلى التاريخ ولعل في ذلك رحمة لمن يريد أن يرى إلى المعرفة بوصفها ضرباً من نتاج المخيلة البشرية التي تقبل الأخذ والعطاء كأنما السجال فعل إبداع إنساني حرّ

***

المعلقات

كأن بروز النصوص الرئيسية في شعر عرب ما قبل الإسلام، التي عرفت بالمعلقات، واهتمام الرواة وجامعي الشعر القدماء ومصنفيه بهذه المعلقات دون(أو أكثر من)غيرها، لهو إشارة تؤكد، بمراجعة المجموعات اللاحقة، على أن هذه القصائد هي، بحق، الأجمل والأهم من بين مجمل ما وصلنا من شعر ما قبل الإسلام قاطبة
ومن المحتمل أن يتأكد هذا مجدداً إذا أنت تمكنت من قراءة مصنفات الشعر القديم منذ ابن سلام حتى العصور المتأخرة، حيث لن تجد ما يضاهي شعر المعلقات غير مقطوعات وأبيات متفرقة متناثرة قليلة، ولا تشكل، لدى شاعرها، نصاً شعريا مكتملا أو متكاملاً وفي الأغلب لن تجد تجربة شعرية مكتملة خارج المعلقات، ومن المتوقع أنك لن تعثر عند صاحب إحدى هذه المعلقات قصائد أخرى ترقى إلى نص معلقته بالذات

***
الجيل الناضج

جاء طرفة في الجيل الثاني من شعراء ما قبل الإسلام وما بعد حرب البسوس وقد انتقل هذا الجيل بالقول الشعري من السياق الفطري المنحصر في التداول العام، بتأليف المقاطع والأراجيز وارتجالها، إلى تأليف النص الكبير الأرقى، والذي سوف يتمثل في المعلقات المتقدمة فنياً
ربما جاء جيل طرفة الشعري إلى التجربة الناضجة بعد مسارٍ أولٍ من محاولات الاكتشاف والتأسيس تلك البدايات التي وُلدتْ في مقاطع صغيرة خَضَعَتْ لمفهوم القصيدة التي لا تتجاوز سبعة أبيات، حسب تقدير منظّري نقد الشعر اللاحقين
وجاء جيل طرفة أيضاً باقتراحٍ ناضجٍ من القوانين الدقيقة لفن الشعر بوصفه نصاً عميقاً عموديا وأفقياً، حيث التدفق الشعري سوف يقوم على «التلقائية والعفوية من غير تكلف أو مكابرة أو معاناة»، مع إعمال معطيات التأمل في تجربة الحياة والتخيل من فعل المعرفة
لعل عنصر الخيال الشعري سيكون من بين أهم العناصر التي وضعها جيل طرفة تحت الفحص العملي، وهو عنصر لم يكن واضحاً في المتون النادرة التي وصلتنا في شعر ما قبل جيل امرئ القيس وطرفة، ففي قصائد هؤلاء مفهوم خاص للتشبيه تحاول معلقة طرفة مثلا أن تتجاوزه بتفعيلٍ أنشط للمخيلة الفطرية
وسوف نجد شعراء الجيل الثاني يعيدون تشغيل الأدوات الأولى التي ستصبح تقليدا (التشبيه، الاستعارة، الكناية..) وهي وسائط تكاد تكون منطقية، ذهنية، لفرط واقعيتها وآلية توليدها وحاولوا إنضاج مفهومٍ خاصٍ للتشبيه اقترحته معلّقتا امرئ القيس وطرفة، اتصالا بفعل المخيلة الفطرية لدى الشاعر الأول

***

خارج المحفل

هل في حكاية طرفة نقضٌ وتقويضٌ صارمٌ لما روّجته روايات العرب، عن احتفالهم بولادة الشاعر في القبيلة؟ لنعرف أنهم إنما كانوا يحتفلون بموت الشاعر بعد فنائه أكثر مما يفعلون ذلك في حياته .. ولكأني بالعرب لا يزالون يفعلون ذلك حتى الساعة

***

فتنة الأسطورة

قرأتُ ما وصلتُ إليه من الرواة والقراء والمؤرخين، فلم أجد ما يخرج النص والشخص من الأسطورة، ولم أتصل إلا بما يضعني معهما في الشعر، فأعجبني ذلك وأحببته، إذ ليس مثل المخيلة مصدرٌ فاتنٌ للخلق

***

صلاة الإبل

لغةٌ في مجملها بسيطة التركيب عميقة المعاني لا يشوبها تعقيدٌ في الصورة أو التعبير، ولا تتسم بـفذلكة لغوية
ثقافياً ينسجم النص مع القول بحداثة سن كاتبه، فثمة خبرات بلاغية وجماليات تتجاوز السن المفترضة للشاعر، مما يعزز طابع الحكمة في نزوعه الفكري، فهذه لا ترتبط بالسن، حيث الحكمة حسٌّ نفساني وتأمل، والثقافة عنصر معرفي مكتسب
وفي وصف الناقة سبرٌ تأمليٌ يدفع إلى الاعتقاد بأن ثمة دوافع روحانية يصدر عنها هذا المقطع بالذات فهنا اشتغال على موضوعٍ واحدٍ على وجه التعيين، والعمل بدأب الناسك على وصف الشيء والشغف به والتضرع إليه في آن فهل يكون هذا المقطع قد وضعه الشاعر كصلاة؟

***

ففي تصيعدٍ روحي يكاد يمتزج فيه الشخص بالنص، يحدث جوٌّ من التماهي الصوفي في الموصوف، كما لو أن الناقة هي المعشوقة والإلهة في آن واحد، وفي مقطع الوصف هذا ما يشي بقدرٍ كبيرٍ من الاستقرار النفسي المطمئن لحظة النص، مما لا ينسجم مع حياة البدوي المتنقل على الدوام
وقد أعجم وصف الناقة على قراء ونقاد زمانه وتعسر فَهْم ذلك الفصل الناجز، الذي اشتهر في قصيدته وتفسيره، فقد كان الوصف فيها من الدقة والتحديق والتشخيص ما يجعل النص متميزاً في سياقه، حتى لكأنه ضربٌ من النص الخارجي الملصق بالمتن، بل إن هناك من اجتهد بالقول إنه نص دخيل على القصيدة، كتبه النحاة لفرط تقعره اللغوي والتعبيري، وانتحله الرواة لشدة حاجتهم لتكثير شعر قبيلة بني بكر كعادة صناع كتب القبائل آنذاك
قبل طرفة لم يصفْ شاعرٌ ناقةً مثله، ولم يفعل ذلك شاعرٌ بعده، حتى حين وصف امرؤ القيس وعنترة وزهير والنابغة ولبيد الناقة فان وصفاً كالذي صاغه طرفه يكاد يجعله صاحب النص الأشهر في هذا الحقل

***

حتى إذا عبرتُ على وصف الناقة في المعلقة أبحث في قلق يكاد يضعني على شفير الشك في مجمل النسيج الذي تقمشتْ به المعلقة، تيسر أن أرى ثمة ما يتجاوز الناقة إلى الولع الإنساني بالكائن القرين، مما ينجذب إليه حس الشاعر لكي يتعرف على تلك الأسرار الغامضة التي تمنح النص شعريته بفعل صنيع المخيلة وهي ترى ما لا تراه اللغة العابرة، وهو أمرٌ شدني للتحديق الحميم في نص هو الأبعد في دواخل شخصٍ يصف حيواناً يكاد يتحول، بفعل الإبداع، إلى نوعٍ من الحياة الإنسانية الباهرة وفيما كنتُ أجوب جوانب حياة الشاعر وسبل معيشته وتفاصيل المشهد الذي احتضنه وأنشأه ورباه، ومن ثم دفعه للخروج عنه والخروج على واقعه، فإذا بي أصادف ما منحني شُرفةً تتيح لي الإطلال على ما كانت القبائل تذهب إليه في باب «العبادات قبل الإسلام»، حيث تبين أن قبيلة طرفة، بكر بن وائل، قد اتخذت الإبل آلهة لها، فإذا صح هذا الخبر، كما نتخيل، نستطيع أن نرى تأثير هذا السلوك الديني على طفلٍ ينشأ وهو يرى الناقة مقدسةً بالشكل الذي تصبح فيه حاضرة في حياته من كل جانب، مما ربّى لدى الشاعر منذ طفولته حساسية خاصة تجاه الحيوان الذي سيشكل لديه في ما بعد مكوناً حيويا ويرتقي إلى مرتبة بالغة الخصوصية فإذا لم يكن طرفة الطفل قد حضر طقوس عبادة الإبل وشارك فيها، فهو على الأرجح قد تشرب علاقةً متميزةً بالناقة فهي إلى جانب كونها مقدسة في حي بكر بن وائل، فإنها قرينته في الرحيل المستمر الذي لم يتوقف طوال حياته القصيرة المشحونة بالتجارب والمنعطفات، وسوف يساعد هذا على فهم تلك الخبرة والمعرفة والولع المتصل بالحضور الفاتن للناقة في نص الشاعر وتفسيرها، مما منحه التميز الحاسم عن وصف سواه من الشعراء للناقة في مجمل المعلقات والنصوص الأخرى، المعاصرة واللاحقة لطرفة
وقياساً إلى بقية أقسام المعلقة، سيبدو مقطع وصف الناقة لافتاً، كما الجزء النافر في رسم مستوٍ في اللوحة حتى إن القدر الكبير من ذلك التأمل قد أوشك أن يكون فكراً خالصاً يجافي عفوية واندفاقه عاطفياً وتلقائيته، كما في باقي النص، لفرط الذهنية التي تطلبتها تجربة وصف الناقة

***

التباس

الخلط الفادح في السرد العربي، بين الراوي الأدبي كصوتٍ شعري، وبين والنص التاريخي كصوتٍ واقعي، أساسه التباس الظن العربي بحتمية الشعر وواقعيته، وقدسية الموروث

***

أمية الأنبياء

عَمَدَ العربُ إلى إضفاء طابع أو ملمح أسطوري على شعرائهم في سيرهم، ليضفوا عليهم صفة التميز والفرادة حد المعجز، من أجل تصويرهم في مصاف الخارق ولكي يكون طرفة مستكملاً لشروط النبي، فإن أول ما قالوا به هو أمّية طرفة، وهي الأمية التي تتصل بانقطاع الشاعر القديم عن شئون الثقافة التي تضعف من فطرية موهبته، حسب منظورهم لموهبة الشاعر
ولعل مقتل طرفة المبكر قد رشحه أكثر من غيره لهذه الصفة، التي لم يرد الكلام عنها في سير حياة شعراء عصره مثل امرؤ امرئ القيس وعنترة ولبيد وزهير، وقد استدعى بالتالي تأثيث سيرة طرفة بالمزيد من عناصر السيرة لتكتمل صورته الأسطورية

***

هندسة الميزان

كلّ قصيدة هي التجلي الأرقى لإيقاع الطبيعة المتمثلة في حركة حيوان الشاعر قصيدة امرئ القيس أخذت جوهر حركيتها وإيقاعها من حيوية حصان الشاعر وعنفوانه، أما طرفة فإنه دون التأمل في حركة «ناقته» سوف يستعصي إدراك السر الجمالي الباقي في قصيدته الوحيدة لهذا، ربما سيكون على كل شاعر أن يبتكر لقصيدته حيواناً يمنح الإيقاع موسيقاه الخاصة هكذا سوف يحمل طرفة معه آلة عمله في السفر والإقامة حروف وكلمات كثيرة وقليل من الزاد، واستسلام كامل لحركة الناقة وهي تسبح به في سديمٍ خالقٍ، لا يكتب الشعر منه ولكن يصوغ به موسيقاه بإيقاعٍ، هو في العمق كشفٌ باهر لامتزاج الشخص بالحيوان، والقصيدة بالناقة، وموسيقى الكلمات بالحركة الشاملة الإنسان والحيوان والطبيعة وفيزياء الوقت والمسافة

***

أسطورة وشيكة

لا نزال نأتي من تلك الأشعار القليلة النادرة التي توشك أن تكون مفقودة
الشعر قبل الإسلام تلك هي أساطيرنا
ولو أن ذلك الشعر نجا من سلطة الدين وسطوته، لأصبح لدينا من الأساطير ما يغني ويفيض ويضع تجربة الشعر العربي في مهب الابداع الكوني، بوصفه أحد معطيات المخيلة البشرية
لو أن الدين أصغى إلى الشعر الذي سبقه لصار أكثر حريةً وجمالاً

***

ذلك الذي لا

قيل أن معنى التابو ذلك الذي ينتمي، في المجتمعات الأولى، إلى القوانين الطقوسية الخالعة، المرتبطة بالملوك والرؤساء والكهنة المقدسين وتعني الممنوع أو "ذلك الذي لا".

***

الأسطورة

(دفتر التجربة)

«سَتُبْدِي لكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهلا»

طرفة

الشعر يكتبه

- 1 -

عند ابن قتيبة والمرزباني والزوزني والتبريزي والسيوطي والبغدادي هو «عمرو». وعند السُكري «عبيد». وقيل إن كنيته أبو إسحاق وأبو سعيد. وقال ابن دريد إن كنيته «أبو عمرو».

- 2 -

اختلف الرواةُ في مولده وموته. قال الزركلي إنه ولد سنة 538 وقتل عام 563. والأب لويس شيخو اليسوعي صاحب «شعراء النصرانية» حَسَبَ عام 563 وقت موته. واعتبر المؤرخ الفرنسي «دير سغال» عام 563 تاريخاً محتملاً لموته. غير أن أحمد الشنقيطي يشير أنه مات بين عامي 550 و 552.

- 3 -

قيل إن عامل عمرو بن هند على البحرين وقت طلبه طرفة كان أبو بكر ربيعة الحرث، وهو من أقارب طرفة. مما دفعه إلى رفض الانصياع لأمر الملك في تنفيذ القتل في طرفة. وقيل إن عمرو بن هند قد بادر بعزل أبي بكر وعيّن والياً جديداً اسمه «عبد عمرو». ولعل في هذا الاسم ما يشي بدلالة بالغة الغرابة، بحيث يبدو هذا الوالي «عبداً» يمتثل لعمرو بن هند.
ثم قيل إن عامل البحرين الذي قَتلَ طرفة هو شخص اسمه «المكعبر». وإن الذي قام بتنفيذ الحكم رجلٌ من «الحواثر» اسمه «الربيع بن حوثرة» ويلقب بأبي ريشة. أو : «أبا رائشة الحوثري». وقد اختاره عمرو بن هند لذلك.
كما قيل إن قاتل طرفة هو «المعلى بن حنش العبدي». غير أن «معلى» هذا هو من كلفه عمرو بن هند بقتل طرفة لحظة انفعاله عند سماع هجاء طرفة له. وإن الذي تولى تنفيذ القتل بيده هو «معاوية بن مرة الأيفلي» من حي «طسم».
روايات لا تتفق على أمرٍ واحدٍ يتصل بتنفيذ القتل.
وقد وصل أمر الاختلاف في هذا الخبر إلى أن أبا العلاء المعري قد أشار في «رسالة الغفران» إلى كون طرفة ربما اعتقل في زمن النعمان بن المنذر وليس في عهد عمرو بن هند.
كما ذكر الشريف الرضي في أماليه عن احتمال أن يكون قاتل طرفة هو النعمان ابن المنذر، وكان والي البحرين وقتها هو «المعلى بن حنش العبدي ».

- 4 -

أعمال عمرو بن هند:
- بَقَرَ بطنَ امرأة زرارة وهي حامل
- جاءَ بأبناء زرارة السبعة وقتلهم
- أمَرَ بحرق مائة رجل من بني دارم من تميم أخَذَ ثمانية وتسعين رجلا وانتهى بهم في مكان في البحرين يسمى أوارة، وأمَرَ بحفر خندق كبير ثم أضرمَ فيه النار، فلما احتدمتْ قذف بهم فيه، وأضاف إليهم رجلاً وامرأة صادف وجودهم في الناحية.
- أحْرَقَ تميم بن الجعيد المرادي، بعد أن نفذ القتل في عمرو بن أمامة أخيه غير الشقيق الذي طالب بالحكم من عمرو بن هند.
كتاب «أيام العرب»

***

- 5 -

لم يبق جانبٌ من سيرة طرفة وأخباره وشعره إلا وكان موضعَ خلافٍ واختلاف. ففي مجمل الروايات ومصادرها ثمة عدم اتفاق عميق بين مختلف الأخبار. بل إن كثيراً من تلك المرويات تنفي بعضَها وتنقضُ البعضَ الآخر لفرط تناقضِها. فأنتَ لا تكادُ تقفُ على خبرٍ واحدٍ تُجْمِعُ على صحته الرواياتُ بشكلٍ يمنحكَ الشعورَ بأن الأمر يمكن، بطرفٍ ما، أن يتصلَ بالتاريخ أو بما يقاربه. فليس لك أن تتأكدَ من حقيقةٍ واحدةٍ عن تاريخِ مولده ولا مكان نشأته ولا سبب مقتله وزمنه. وليس ثمة ما يستقرُ عليه الرواةُ في ما يتصلُ باسمِه ونسبِه واسم أبيه وأسماء أخته وأخيه ومعظم أفراد عائلته. ولن يتاح لك أن تتبين الأكيدَ في أمر علاقته بأعمامه ومسألة اختلافه معهم حول إرثه وإرث أمه من أبيه. كما ليس سهلاً الجزم أو الاستهانة بملابسات ذهابه إلى بلاط الحيرة ولقاء الملك. وثمة خلاف على أي ملكٍ من ملوك الحيرة على وجه التعيين هو من التقى به وأمرَ بقتله. الغموضُ سيبدو أكثر حين يجري الكلام عن حادثة القتل. بدءاً من الدوافع والأسباب، مروراً بالصحيفة (رسالة القتل)، وصولاُ إلى اسم والي البحرين الذي تلقى الرسالة أو الشخص المكلف بتنفيذ القتل في الشاعر.
قبل ذلك، سيكون علينا قبول التناقضات الفادحة بين القول بهجاء طرفة للملك ثم ذهابه إليه سعياً للمنح والعطايا، حسبَ بعض الروايات. ليبدو لنا الشاعر على درجة من السذاجة، لئلا نقول الحماقة، لا تدانيها حماقة إلا فكرة حمله كتاب مقتله بيده، وقوله - بمكابرة فارغة - بعدم تجرؤ الملك عليه. كما يتوجب علينا خلال ذلك أن نتخيل هذا الإصرار الغريب لدى شخصٍ قام قبل قليل بالتغزل الصريح بأخت الملك في قصره وفي حضرته، حسب ما يروون. ثم بعد ذلك كله سوف تتوقع منا الروايات أن نقبل بفكرة جهل شاعر مثل طرفة القراءة والكتابة، في حين أن صبياً عابراً في طُرقات الحيرة تسنى له أن يفعلَ ذلكَ، مستخفاً بالغباء التَعِسِ الذي يتميز به شخصٌ يحملُ أمرَ موته بيده.
لكن هذا ليس كل شيء،
فالأسطورة ليست هنا فحسب، لكنها سوف تجعل ملكاً- اشتهر بالبطش والوحشية مع خصومه، بصلافة التعامل مع ضيوفه، وسوداوية مزاجه مع طراق قصره، هو بالذات وليس أحداً غيره- مقصداً لشعراء عصره قاطبة، حتى ليصبح بلاطه الملتقى الثقافي الأرقى الذي تهفو نحوه قلوبُ أهل الأدب ويسعى إليه الشعراء، حيث المكان الرحب للثقافة والمصدر الأكيد للعطايا والمكافآت. سيقال ذلك كله في الوقت نفسه الذي تذكر فيه قصص الرعب الرهيبة عن العلاقات العنيفة التي اشتهر بها ملوكُ الحيرة، فيما يفتكون بالشعراء الذين اضطربتْ العلاقة معهم وفي مقدمتهم عمرو بن هند. فأي انسجامٍ وتماسكٍ واستقامةٍ يمكننا أن نراها في ملكٍ طابَ له أن ينادوه بلقب «مضرِّط الحجارة» لفرط وحشيته، يمكن أن يرعى مجالسَ الشعر والأدب، فيما يسهرُ على تخطيطِ أكثرَ الأساليبِ دمويةً للغدر بأحد أكثر شعراء ذلك العصر رقةً وشفافية وتحرراً من ربقةِ سلطان قبيلته وأعراف مجتمعه، لترتيب قتله بدم بارد؟
يبقى علينا أخيراً أن نرى إلى ما هو أدخَلُ إلى صُلب التجربة شعرياً وإنسانياً. فعندما يتعلق الأمر بالشعر المنسوب إلى طرفة، سنصادف ما هو أكثر فداحة من تناقضات أخبار السيرة. ففي تلك الأشعار ما يجعلنا نشعر بأن ثمة افتعالاً وانتحالاً وارتجالاَ يضربُ عرضَ الحائط بأبسط شروط الشعر وأصول الأدب، ليس قياساً لشعر طرفة فحسب، لكن لمجمل شعر ذلك الزمان.
سوف تبدو المسافةُ بين الشاعر وقصيدته الدالية المعروفة بالمعلقة، وبين معظم الأشعار المنسوبة إليه، واسعة جداً. فثمة بونٌ شاسعٌ من الفضيحة التي تجعلنا لا نستطيع أن نتخيل حجم الضمير التاريخي الذي يريد لنا أن نقبلَ أشعاراً على هذه الدرجة من الركاكة بوصفها الديوان الكامل لطرفة، وهي أشعارٌ لا تحتاج إلى كثير جهد من أجل اكتشاف ضحالة لغتها وضعف أسلوبها وسذاجة فكرتها وسطحية صورها وفقر الخيال فيها، قياساً لنص الشاعر الوحيد: «المعلقة». حتى إننا لا نكاد نتصور بأن الشخص نفسه هو الذي قال هذه وتلك. لقد عمل رواة كثيرون بقيادة «حمّاد» على تأليف الأشعار واختلاق المقاطع المفتعلة في أزمان مختلفة، في سبيل غايات كثيرة ليس أقلها تكثير ديوان الشاعر لندرة قصائده، ولهدف تكثير كتّاب قبيلة هنا وحيٍّ هناك. والشنيع أن هذا الانتحال قد حدث باعتراف صريح، سَجَّلتْ طرفاً منه الروايات النادرة بالذات. الأمر الذي يجعلنا نتخيل حجم العسف الذي تعرض له طرفة في غير جانب من حياته ولم ينج منه شعره. وقد رأينا أن هذا النوع من الظلم قد أضرَّ بطرفة وجعله ضحية تنكيلٍ مضاعفٍ لا يضاهيه إلا إظهاره في صورة ذلك الشخص المتهور بسذاجة والمكابر بحماقة ليتنافى هذا مع صورة الحكمة النبيلة التي يقدمها لنا نصُّه الوحيد: المعلقة.

- 6 -

يحرّض الملك عمرو بن هند قبيلة «مضر» على نهب إبل طرفة، وهو من قبيلة «بكر». ليدبَّ خلافٌ بين القبيلتين ويحقق انتقامه من الشاعر، الذي رفضَ الانصياع لسلطة الملك وأعرض عن مدحه.

- 7 -

اتفق معظم الرواة والمؤرخين على أن معلقة طرفة تجيء في المرتبة الثانية بعد امرئ القيس، منهم أبو بكر الأنباري والزوزني والتبريزي وبروكلمان وفؤاد أفرام البستاني وأحمد الشنقيطي وفوزي عطوي. وجعلها ابن عبد ربه في عقده في المرتبة الثالثة بعد امرئ القيس وزهير. وذكر ابن سلام طرفة في أول الطبقة الرابعة، بالرغم من قوله إن طرفة «أشهر الناس واحدة». وقد روى ابن قتيبة عن أبي عبيدة أن طرفة « أجودهم واحدة». كما أنه أشار إلى معلقته بقوله إنها أجود «طويلة».
بهذا يكون أبو عبيدة وابن سلام وابن قتيبة قد فضلوا معلقة طرفة على جميع المعلقات الطوال. وجعل ابن خلدون معلقة طرفة في المرتبة الخامسة. أما أبو زيد القرشي فجعلها في المرتبة السابعة. وجعلها جرجي زيدان في المرتبة الثامنة.

- 8 -

تراوحت أبيات المعلقة بين 102- 117 بيتاً. ففي رواية الأنباري والزوزني عدتها 102. وفي رواية التبريزي عدتها 105. وفي رواية الشنقيطي عدتها 106، وفي رواية فوزي عطوي عدتها 109، وفي رواية القرشي عدتها 117.

- 9 -

حظيت معلقة طرفة بالشروح وبالترجمات الى لغات غربية وشرقية.

- 10 -

نسبه، اسمه، لقبه، كنيته:
هو «طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلب ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنيب بن أفصى ابن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وقد اختلف الرواة في اسمه، بيد أن اسم عمرو غلب عليه. وقيل «عبيد» في رواية أبي سعيد السكري، ويقال «معبد» (وهو اسم أخيه)، ولم يروها سواه.
أما طرفة فمشهور به، وقد أجمع الرواة على ذلك، وهو لقب له ببيت قاله. وجاء في لسان العرب، عن ابن سيده، أن «الطرفة» نوع من الشجر العضاه، ليس له خشب، وإنما يخرج عصياً سمحة. وفي «خزانة الأدب» أن الطرفة محركة، واحدة طرفاء، وبها لقب طرفة بن العبد.
اختلف الرواة أيضا في كنيته، فهو أبو إسحاق، ويقال أبو سعيد. أما ابن دريد فقال: كنيته أبو عمرو، وهي المشهورة. وقيل غيرها، وتفرد بذكر «أبي نضلة» الخالديان في حماستهما.

***

عائلته:

أمه: وردة بنت قتادة بن شنوه بن عمرو بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن بكر بن ربيعة من عدنان. من رهط أبيه.
أبوه : العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة (توفي وطرفة طفل)
أخته : الخرنق بنت بدر بن هفان بن مالك بن بني ضبيعة البكرية العدنانية أخت طرفة لأمه. تزوجها بشر بن عمرو بن مرشد سيد بني أسد.
أخوه: معبد. (طالب بدية أخيه طرفة وأخذها من الحواثر كون قاتله من الحواثر)

***

عمومته:

المرقش الأصغر- هو ربيعة بن حرملة بن سفيان بن سعد ين مالك.
المرقش الأكبر. هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة..
ومن أع مامه : مالك.
خاله: المتلمس. اختلف الرواة على اسمه. ابن سلام وابن قتيبة وابن عبد ربه وصاحب الأغاني قالوا إنه جرير بن عبد المسيح من بني ضبيعة من ربيعة. وروى القرشي أنه عمرو بن عبد المسيح. وقال ابن الأنباري إنه عبد المسيح ابن جرير. وقال ابن المعتز انه ابن عبدالعزى.
خالته : فكيهة بنت قتادة بن مشنوء
اختلف الرواة في اسم العمة والأخت : القرشي سماها (الخرنق) والأنباري سماها (كبيشة)
على أن بعضهم ينسب قصيدة رثاء طرفة إلى الخرنق بنت هفان بن تيم بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن وائل.
وهي الخرنق أخت طرفة. لذلك بعضهم جعل الخرنق أخت طرفة لأمه. وروى المرزباني عن المفضل الضبي بأن الخرنق هي عمة طرفة وليست أخته.. لكي يقال بأن أخت طرفة هي كبيشة زوجة عبد عمرو بن بشر.
جده : سعد بن مالك ابن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. له شعر في حرب البسوس (بين بكر ووائل)
(أنظر شجرة نسب طرفة من وضع محمد علي حمدالله
محقق «شرح المعلقات السبع» للزوزني) صفحة(521)
عن كتاب «دفاع في طريق المعلقة، وطرفة ابن العبد»(قراءة جديدة) لثريا عبد الفتاح ملحس

***

خُطط الحيرة

(كتاب البحرين)

«عَلَى مَوْطِنٍ يَخْشَى الفَتَى عِنْدَهُ الرَّدَى»

طرفة

البحرين
(تارةً يوسعونها، وتارةً يقلصونها)

قال ابن خرداذبة في وصفه البحرين هو اسمٌ جامعٌ لبلاد كبيرة مفتوحة الأرجاء تمتد على بحر الهند بين البصرة وعُمان قيل إنه قصبة هجر، وقيل هجر قصبة البحرين وقد مدَّها البعض من اليمن، وجعلها آخرون قصبة وحدها وفيها عيون مياه عذبة وربما حسب البعض اليمامة فيها فيما اليمامة عملٌ برأسه بين مكة والبحرين ولفرط شساعة الأرض وتداخل الخطط وامتزاج البشر فإن بعضهم رأى أن البحرين حتى العراق أو من أعمالها وقد حدّ البحرين عُمان من ناحية جلفار واليمامة على جبالها، وربما ضمت اليمامة إلى المدينة وربما أفردت
قال أبو عبيدة بين البحرين واليمامة مسيرة عشرة أيام، وبين هجر مدينة البحرين والبصرة مسيرة خمسة عشر يوما على الإبل، وبينها وبين عُمان مسيرة شهر قال والبحرين هي الخطّ والقطيف والآرة وهجر وبينونة والزارة وجواثا والسابور ودارين والغابة قال وقصبة هجر الصفا والمشقر
وقال أبو بكر محمد بن القاسم في اشتقاق اسم البحرين وجهان، يجوز أن يكون مأخوذاً من قول العرب (بحرت الناقة) إذا شققت أذنها، والبحيرة المشقوقة الأذن وقال يجوز أن يكون البحرين من قول العرب قد بحر البعير بحراً إذا أولع بالماء فأصابه منه داء
قال ابن خرداذبه «هذا كله تعسف لا يشبه أن يكون اشتقاقاً للبحرين»، والصحيح قد ذكره أبو منصور الأزهري في قوله « إنما سموها البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الإحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ وقدرة هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، وماؤه راكد زعاف».

كتاب «المسالك والممالك»

***

فضاء الحيرة

أجمع المؤرخون، اعتماداً على المصادر العربية، أن سكان الحيرة كوّنوا تآلفاً من ثلاث مجاميع بشرية، هي
/ اللخميون / آل نصر بن ربيعة/ النازحون من الجزيرة
- العباد من السكان الأصليين ،أي من قبائل كلدة التي كانت تسكن المنطقة نفسها
الأحلاف عربٌ مهاجرون نزلوا في المنطقة، وحالفوا تنوخ والعباد

كان سادة الحيرة أكثر تحرراً في أمورهم وسياسيتهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفاً عليهم

وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل يعيّنه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، ولملوك الحيرة مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظراً إلى ما للشعر و الشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء ألسنتهم، أما من كان يوشى به عندهم فيغضبون عليه، أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهم وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكافأة عادلة، فكان يهرب إلى أعداء آل لخم الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والمتلمس

***

كيمياء المُحَرّق

نصادف كلمة «المحرق» و«محرق» و«آل محرق» في مواضع من التواريخ المتعلقة بالحيرة وقد أطلقها بعض الإخباريين على الغساسنة أيضا وهم يرون أنها لقب ألحق باؤلئك الملوك، لأنهم عاقبوا أعداءهم في أثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار ويرى (روتشتاين)) أنه تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط والصحيح في نظره أنها اسم علم لأشخاص عرفوا بـ«محرق»، ولذلك قيل :آل محرق، لا آل المحرق
وفي أصنام الجاهلية صنم يدعى «محرق» و«المحرق»، تعبدت له بعض القبائل، مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع سلمان وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم، هو «عبد محرق». أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم، كأن يكون قد اتخذ من باب التيمن والتبرك للملك الذي عرف بالمحرق، أو أنه قدم قرباناً لهذا الإله، أحرقه على مذبحه بالنار، وكان يكثر من حرق القرابين للآلهة وتلك عادة معروفة وردت أيضاً عند العبرانيين، فقيل له لذلك «المحرق». ويظهر أن محرقاً كان من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير، وقد اقترن اسمه بالدروع
«وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب إن نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبياً قبل الإسلام وفي الإسلام وسبب ذلك هو توفر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر وعلى صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة والماء غير عميق عن سطح الأرض وقد موَّن عيوناً في بعض الأماكن ولهذه المميزات صارت موطناً للحضر قبل الإسلام بزمن طويل».
أما «الهمداني»، فقد عدّ كل القبائل التي أولها «جاسم» وآخرها «عَبس الأولى» من العرب العاربة والقبائل المذكورة هي «جاسم» الذين نزلوا بعمان والبحرين، وبنو هيف، وسعد، وهزان الأولى، وبنو مطر، وبنو الأزرق، وبنو بديل، وراجل، وغفار، وتيماء، وبنو أثابر، وبنو عبد ضخم
«ومن الأماكن المذكورة «المشقر»، وهو حصن بين نجران والبحرين على تل عال، يقابله حصن سدوس، وهو من أمكنة «طسم». وقد نسب بعض الرواة بناءه ? كعادتهم عند جهلهم أسماء الأماكن ? إلى سليمان، وقد سكنته عبد القيس أهل البحرين و"معنق" من قصور اليمامة على أكمة مرتفعة و»الشموس» قيل انه من بناء «جديس».
«وقد عرف «ياقوت» البحرين بأنها الأرضون التي على ساحل بحر الهند بين البصرة وعُمان، وذكر أن من الناس من يزعم أن البحرين قصبة هجر، وأن منهم من يرى العكس، أي إن هجراً هي قصبة البحرين
أما «أبو الفداء» فذكر أن البحرين هي ناحية على «شط بحر فارس»، وهي ديار القرامطة ولها قرى كثيرة، وبلاد البحرين هي هجر وذكر أيضا إن من الناس من يرى إن هجراً اسم يشتمل جميع البحرين كالشام والعراق، وليس هو مدينة بعينها ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عن البحرين أن رأيهم في حدودها كان متبايناً، وأنهم لم يكونوا على اتفاق في تحديدها، فتارةً يوسعونها، وتارة يقلصونها »
كتاب المفصل ?جواد علي?

انتهى

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى