فتنة السؤال

فتنة السؤال

(لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ)
قاسم حداد

تحرير: سيد محمود

 

الصورة، بوصفها أيقونة جامع الفنون

( كُـنْ فارسَ القلب، راجلَ النفس )
ابي يزيد البسطامي

(....)؟

- "إننا نكتشف الشكل مثل الحياة فجأة، لا نذهب إليه لكنه يأتي إلينا مثل ثلج الأعالي".هذا ما تقوله في أحد مؤلفاتك فهل تمثـّلتَ ذلك في التجارب المشتركة مع القاص أمين صالح والتشكيلي ضياء العزاوي، والموسيقي خالد الشيخ، والتشكيلي إبراهيم بوسعد، والفوتوغرافي صالح العزاز؟

- هذا صحيح. الشكل مثل النعمة السماوية. تبرق كما يبرق الحلم، وعلينا أن نحسن تأويل هذا الحلم وليس تفسيره. بمعنى أن لا نقلد صورة الشكل لكن أن نضعه في مهبّ المخيلة ونعيد إنتاجه على مزاج تجاربنا الذاتية. في مجمل التجارب التي عشتها في نصوصي أو مشاركة مع أعمال آخرين كان الشكل هو ما يستهويني ويغري رفيق التجربة معي. قلت مبكراً (مع صديقي الأعزّ أمين صالح) بأن الشكل هو العنصر الحاسم في الإبداع، وأغضب هذا القول زملاء الكتابة في سبعينات القرن الماضي، لكنهم احتاجوا إلى أكثر من عقدين من مسافة الزمن والتجربة، لكي يتريثوا أمام هذه الحقيقة ويكتشفوا الجماليات التي كنا نصدر عنها ونذهب إليها، وأخشى ألا يكونوا قد تأخروا أكثر من اللازم عن إدراك هذه الحقيقة التي لم نجترحها نحن لكنها تجسدت في أجمل تجارب الذين سبقونا وتعلمنا منهم الدرس بسليقة الموهبة وولع العاشق. أقول أخشى عليهم عندما يكتشفون الأجنحة والهواء والتحليق بعد أن أوشكت عضلاتهم على التجمّد، خسارتهم مضاعفة.
المهم في الأعمال المشتركة مع مبدعين في فنون تعبيرية مختلفة غير الكتابة ما يشي بأن ثمة في التقاطع الحرّ مع فنون أخرى (البصرية والموسيقية خصوصا) ضرب من هتك التخوم المستقرة بين أنواع الفنون، وهو أيضاً اتصال مبكر بما تقترحه علينا يوماً بعد يوم التطورات والاكتشافات المتسارعة في وسائل الاتصال والتعبير التي سوف تستجيب دوماً لمخيلة المبدعين في شتى الحقول. وتثبت التجربة أيضا أن التخلف عن الانخراط في هذه المغامرة النوعية تفريط في مستقبل لا يمكن تفاديه.
أليس في هذا تأكيد على أن للشكل دوره الحاسم في التعبير الفني؟ هذا من جانب ومن جانب آخر فتح لي العمل المشترك آفاقا هامة وكبيرة للتجربة، حقق جانبا من الحوار الإبداعي بين التجارب المختلفة، جعل فكرة تقاطع الفنون مدخلا لتحقيق أو لحضور العمل البصري على وجه الخصوص، وعلى هذا جاءت أعمالي مع فنانين تشكيليين أو مصورين.
وأريد هنا أن أشير إلى أن عشقي المبكر للفنون هو الذي جعل ثمة سهولة في تقبلي لفكرة العمل المشترك على النحو السابق، لأنني أردت أن أوجد مساحة للحاسّة البصرية، وهي الحاسّة التي تكاد تكون مغيّبة أو مسكوتاً عنها أو مهملة أو ضامرة في الثقافة العربية.
وعلى كثرة تجارب الأعمال المشتركة حاولت التنويع بحيث لا تتكرر تجربة منها مع التجربة التي سبقتها، كل عمل تميز بشروط مختلفة وآليات مختلفة ربما أيضا بسبب اختلاف الفنان، نص "الجواشن" كان مع كاتب روائي هو أمين صالح، ونص "الأزرق المستحيل" كان مع المصور الفوتوغرافي صالح العزاز، أما ديوان "أخبار مجنون ليلي" فقد كان مع فنان تشكيلي كبير هو ضياء العزاوي.
أريد أن أقول ¬بناء على ما سبق¬ أن تجارب من هذا النوع قد فتحت لي آفاقا جديدة وما تزال، ولدي تجارب شبيهة قيد الحلم والإنجاز.
ولحسن الحظ استهوت هذه التجارب كثيرين، وقد بدأوا يحققون تجارب جميلة جدا في هذا المجال، والمؤكد في النهاية أن أي كاتب سيقدم على الكتابة المشتركة فلابد أنه يشعر بأن هذه الفكرة ستضيف إليه والى جماليات تعبيره ومعرفته الفنية.

حسن عبد الموجود

هناك كتابات تتهم تجربتك مع أمين صالح في “الجواشن / وموت الكورس" بالذهنية قياسا إلى أن الكتابة المشتركة دائما ما يجري التخطيط لها ورسم أبعادها ومن يبدأ ومن يكمل، ألم يدر هذا ببالك وأنت تقدم على هذه التجربة؟

- هناك اختلاف واضح بين التجربة والأخرى، على الأقل لاختلاف الآخرين، مشاركتك مع روائي تختلف عن مشاركتك لفنان تشكيلي.
وعلى هذا سأقصر الإجابة على تجربتي مع أمين صالح في نص "الجواشن" وأعتقد أنه المقصود من السؤال.
أمين صالح صديق عمر، نحن متصلان ومنسجمان في الرؤى والتجارب والحساسية الفنية، وتجربة الكتابة المشتركة بيننا لم تولد عبر نقاشات ذهنية، لكنها ولدت بشكل عفوي جدا.
بدأنا بـ"موت الكورس" وهو أساساً كان مقدمة لمشروع نشتغل فيه معاً، منذ عام 1984، جاء أمين صالح من تجربة الكتابة القصصية (بروافد فنون أخرى هام بها من أهمها السينما)، وجئت من الكتابة الشعرية. ترى ماذا يشكل هذا اللقاء (متسلحاً بحريات رؤيوية وفكرية وفنية لا حدود لها) عندما يستجيب لغواية الكتابة ؟! بعد أن قطعنا شوطاً في ذلك المشروع، تكشفت بغتة فكرة "موت الكورس" – دون أن نطلق عليه اسم بيان. أردناه أن يكون نصاً أدبياً بعيداً من التنظير السائد. وكنا فيه نحاور ذاتنا أكثر مما نقدم خطاباً للآخرين. الشيء الوحيد الذي تمنيناه على القارئ هو أن يعيد النظر في كل ما ورد في النص (من المؤكد أننا نعني جميع النصوص على الإطلاق) وأن يهدم النص بعد اكتماله. ويبدو أن هذا الهاجس هو الذي يتحقق في علاقتنا بما نكتب. فنحن نؤمن – بما لا يقاس – بأن كل ما يكتب من نصوص لا ينبغي أن تكون مقدسة (فنياً) ومن الخطورة التعامل معها على هذا الأساس. وأخشى أن مثل هذه الرؤية هي التي تفزع بعض الذين يرون أنفسهم ، ككيان أدبي مستقر ومكرس ، في درجة القداسة التي يرجونها لنصوصهم ، بالنسبة إلينا ليس النص هو المهم، بل المبدع ، وكل أشياء العالم لابد أن تصير تحت سطوة الشك والمساءلة والنقض أيضاً .
أما كيف قوبل هذا في البحرين، فإن سدنة الثبات وعبيد النصوص، لا يروق لهم أن يكون المرء حراً فوق كتفيه. ولقد تجاوزت ردود الفعل حدود البحرين والخليج، ونادراً ما استوقفنا نقاش مهم في هذا السياق. على كل حال، إننا الآن نشعر أننا كنا رفقاء كثيراً مع تجربتنا.. رغم كل شيء.
ثم جاءت فكرة "الجواشن" والكتابة أيضا لم تكن متتابعة أو متسلسلة أو منطقية، كنا نكتب بشكل غير منظم، كنت أكتب جزءا فيأخذه ويبدأ، ربما من حيث أنتهي، وأحيانا يكتب هو ثم يعطيني فأقرأ وقد أبدأ من منتصف ما كتب، المهم أنه أثار مخيلتي.. الأمر الآخر أننا كنا كثيرا ما نستبدل الأدوار، أكتب سردا ويكتب هو شعراً، والعكس أيضاً.
لم نتشبث بأسلوبنا الخاص، لم يكن يعنيني أن أكتب بلغتي الشخصية ولا هو أيضا، كنا نبحث ونتحقق في أسلوب ثالث، النص هو الذي كشف لنا ذلك بعد انتهائه.. والغريب أن هناك أجزاءاً كثيرة لم نستطع¬ بعد صدور العمل ¬أن نحدد من كتبها فينا؟ وهذا يعني أننا لم نكن أنانيين حيث لم يحاول أحدنا تغليب أسلوبه على الآخر.. كنا نستسلم لاندفاعات العاطفة والصور والمخيلة، ولم نخطط أبدا للفصول والجمل والمقاطع. إذاً كان الكتاب في النهاية يمثل محاولة لخلق صور فنية وشعرية في تجربة فريدة!

عدنان حسين أحمد

وماذا عن تجربتك مع الراحل المصور صالح العزاز في كتابكما المشترك "المستحيل الأزرق"؟

- تجربة "الأزرق المستحيل" مع الفنان الفوتوغرافي صالح العزاز كانت هي ذاتها جزءاً من تصور عام أحب أن أقترحه دائماً. إن الحاسّة البصرية في الثقافة العربية ضامرة وغير مستخدمة، ولم تدخل في نسيج العمل الثقافي الشعري كما ينبغي لها الدخول وفق أهميتها الكبيرة في صناعة النص الشعري. وهذا تفريط في ثروات متاحة أمام المبدع العربي. ربما دفعني حبي للتشكيل والصورة الفوتوغرافية أن أميل إلى أعمال مشتركة يتقاطع فيها التعبير الكتابي مع التعبير الصوري. فالصورة - كما أفهمها- هي الذخيرة الأساسية لكل الفنون، غير أن هناك ما يشير إلى أن الصورة مهملة في الثقافة العربية. بل إن الجانب البصري أو مفهوم الصورة في العمل الشعري أو الأدبي هو مفهوم مرتبك، وغير واضح، وغير جريء. بمعنى أن المخيلة تنقصها الجرأة على اقتراح الصورة المختلفة في الشعر مثلا، الابتكار نادر في هذا الحقل.
ما حاولنا أن نقترحه هو محاولات للإفادة من الثروات العظيمة التي تتيح لنا أشكالاً جديدة من التعبير بالصورة الفوتوغرافية أو الرسم أو الكاليغراف. لابد من التنبيه في هذه اللحظة الحضارية أن الناس كانوا يعتبرون القرن العشرين هو قرن الصورة، فما بالك ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين. للأسف أن الثقافة العربية لم تُدخل في نسيجها ثقافة الصورة. وهذا سبب من أسباب حماسي ونزوعي إلى خوض تجارب مشتركة مع مصورين وتشكيليين ومسرحيين وسينمائيين وقصاصين. إنها محاولة جدية للاغتناء بالثروات المتاحة في الفنون الأخرى.
وبالعودة إلى تجربة "الأزرق المستحيل" أتذكّر أننا كنا قد التقينا في مدينة "فاس" لمناسبة ثقافية ما، وهناك ولدت الفكرة التي اقترحها صديق ثالث. والتقطها صالح العزاز وراقت لي لأنها مسّت الشغاف المتصل بفكرة حوار فنون التعبير وتقاطعها، تلك التجربة التي أشعر فيها بحريتي المضاعفة. وأخذنا نتبادل أنخاب التجربة بهدوء لذيذ بمعزل عن الوقت. بعث لي بعدد كبير من أعماله الفوتوغرافية وأخذنا في الانتخاب معاً.
استخدمنا كل وسائط الاتصال عندما يتعذر اللقاء المباشر. لكننا التقينا عدة مرات في حوار (كان الكلام فيه نادراً) لكن صالح من بين أكثر الأصدقاء ولعاً بالشعر، وهذه الموهبة تختصر كل شيء. وكنت قبل ذلك بسنوات طويلة قد تعرفت على العزاز، إذ جاءني بعد خروجي من الاعتقال ليتعرف شخصياً على إنسان يخرج من تجربة غير عادية (حسب تعبيره)، وقد كان يعرف ذلك جيدا لأنه سوف يعرف هذه التجربة لاحقاً ويتأكد من جماليات صقل الجوهرة بالعذاب.
ورأيي أن صالح شخص كانت مخيلته تتمتع بحرية تسعفه في الاتصال بأوسع دائرة من الكائنات. وهذه موهبة مهمة لكي تكون الحياة ممكنة.
هو اختار عنوان "الأزرق المستحيل" من أحد نصوص الكتاب. لكنه هو أيضاً في اللحظة الأخيرة، قبل الطباعة، طلب مني تغيير العنوان إلى "المستحيل الأزرق". بالنسبة إلي الأمر يختلف كثيرا، لكن الصداقة أهم من عنوان كتاب.
بالإضافة إلى أنه شريك أول في التجربة. كان له الحق الكامل في كل شيء.

محمد طعيمة

وماذا عن تجربتك مع ضياء العزاوي ؟

في تجربتي مع ضياء العزاوي الحوار الإبداعي كان من نوع مختلف، حيث كان العزاوي يقرأ تجربة الحبّ بألوانه الحارّة وخطوطه، قادماً من خبرة طويلة في مجاله. دون أن يكون لدينا وهم التفسير المتبادل. فهو لم يكن معنياً بتفسير وشرح النص الذي أكتبه، ولم أكن أكتب في ضوء اللوحات التي ينجزها. كنا نتقاطع ونتحاور بمعزل عن الأوهام المألوفة التي تتعامل مع اللوحة بوصفها زينة للنص في الكتاب. الأمر كان أكثر تبلوراً ورقياً من ذلك.
بقي أن أقول أنني لا أعرف عن تجربة مشتركة بين طه حسين والحكيم. كما أن تجربة جبرا/منيف تختلف في العديد من مظاهرها ودلالاتها التعبيرية، كانت تجربة صوتين متجاورين في كتاب واحد.
الفنان ضياء العزاوي هو صاحب الجنون الأول لهذه التجربة، مع محمد بنيس ومعي. فقد كان العزاوي مأخوذاً بتجربة تتصل بالحب في العمل الإبداعي. وأظن أنه استطاع بهذا المشروع الحميم أن يحرضنا على اقتحام ذواتنا، كل على طريقته. وهذا ما جعل "أخبار مجنون ليلى" يختلف عن "كتاب الحب"، لأسباب عديدة تتصل بطبيعة تجربة محمد بنيس الذي تعامل مع "طوق الحمامة" لابن حزم، وتجربتي التي اتصلت بقيس وليلى، دون أن أكترث في كتابتي بسطوة التراث، لأنني كتبت عن الحب الآن. كنت أكتب حياتي بالدرجة الأولى. فقد كنت طوال الوقت أرى إلى أسطورة (قيس وليلى) بوصفها أفقاً متاحاً لمخيلة المبدع. ولم أنظر إلى العشق والعذرية والجنون والحب من خلال تلك المفاهيم نفسها التي صدرت عنها أخبار التراث.

نوري الجراح

وكيف تقيّم العلاقة بين الموسيقى والكلمة في تجربة "وجوه" مع الملحن خالد الشيخ التي جرى تقديمها في عروض مسرحية أخرجها عبدالله يوسف؟ وما هي الآفاق التي فتحتها هذه التجربة، وأين تضعها بين التجارب المشابهة في العالم العربي.؟

- أود القول أولا إن المسرح لم يكن في برنامجي حين كتبت نصوص "وجوه"، كنت أصدر عن شهوة التجربة الإبداعية التي تتقاطع مع فنون أخرى، من إيمان بأن الاشتراك مع آخرين من شأنه أن يوسع من الأفق الذي أذهب إليه. تحويل التجربة كلها إلى عرض مسرحي كان اقتراحا من الصديق المسرحي البحريني عبد الله يوسف الذي كان معنا منذ بداياتها ثم جاء حضور أدونيس الذي سجل الأشعار بصوته ذهابا مضاعفا إلى ذلك الأفق. لقد ذهبنا في "وجوه" إلى تجربة لا تزال قادرة على اقتراح الأسئلة وهذا يكفي. أما دور خالد الشيخ فيها فلا يمكن لي إلا أن أقول إن خالد جاء إلى التجربة في وقته المناسب تماماً. ففي تجاربه السابقة خاض العديد من أشكال التعامل مع نصوص غاية في التنوع، ومن بين أهمها التعامل مع القصائد العربية التقليدية والحديثة. وهو أيضاً كان في معظم تجاربه اقتحم ما يمكن تسميته بالمغامرات غير المتوقعة، مثل اشتغاله مرثية مالك ابن الريب، فليس مألوفاً في الغناء العربي، حسب علمنا، أن تلحن قصيدة على تلك الدرجة من الخصوصية، ويجري طرحها في سوق ليس متوقعاً منه أن يفهمها ويستوعبها. لكن خالد الشيخ كان بتلك التجربة يستجيب لنزوع ذاتي إلى تجربة ما يمسه إنسانياً وفنياً في آن. وبالرغم من عدم نجاح "المرثية" بالمفهوم التجاري السائد في سوق الأغنية العربية، إلا أن التجربة كانت، من الوجهة الفنية متقدمة كثيراً وراقية جداً. لقد كان خالد الشيخ فيها متحققاً بالمعنى الفني ومنسجماً مع ذاته.
وأزعم أنني كنت قريباً من تجربة خالد الشيخ منذ بداياته الأولى. وألتقيه بين أوقات متقاربة، وكان يجري بيننا حوار مهم. أقول مهم، بسبب حميميته وصراحته. وكنت أشعر طوال الوقت أن ثمة قلقاً لا يفارق خالد الشيخ في شتى مراحله. وأهمية هذا الفنان، في مجتمعنا، أنه مخلص جداً للعمل الذي يشتغل عليه. لذلك فإن عذابه، عندما يحاكم أحد تجاربه، كان كبيراً. وهذا ما يدفعني دوماً لأن أكون قريباً منه. وهو كان يقول لي دومآً، "إنّ دور "الراقصة" الذي يطالبني به الواقع لا يناسبني ولا يشبع شهوتي الفنية". لذلك كنت مطمئناً لتجربته. وهذا القلق هو الذي أتاح لنا العثور على جوانب جديدة في معظم أعماله الموسيقية.
ولكي أكشف جانباً مهماً وحيوياً في تجربة خالد الشيخ، يجب القول إن موهبته لا تقبل القناعة بما ينجز، فهو يتوفر على موهبة دارسة وناقدة معاً، الأمر الذي يجعله لا يكفّ عن البحث عن العلم والمعرفة، بصورة تظهره كما لو أنه يكتشف الموسيقى كل يوم. فهو يحمل كتب الموسيقى معه أينما يذهب. بل ويطلب العلم من الجميع، ويجلس إلى صاحب المعرفة مثل تلميذ مجتهد.
هل في هذه المقدمة ما يفسر طبيعة التجربة التي جمعتني به؟ أرجو ذلك. ربما تفسّر هذه المقدمة، أيضاً، البعد الثقافي الذي تتميز به تجربة خالد الشيخ، فهو قارئ للشعر بصورة حساسة. ويبحث في القراءة عما يشكل له بعداً روحياً يتأسس مع نمو موهبته الفنية. لذلك عندما حاول ذات مرة أن يلحن نصاً لي من كتاب "قلب الحب" أوائل الثمانينات، وكان قد قطع شوطاً في ذلك العمل. اتصل بي ذات مساء وأسمعني على الهاتف قسماً من العمل. ولكنه بعد قليل اعترف بأن الأمر ليس سهلاً، لأنه لم يحب ما أنجز، وقال، "ربما إنّ الوقت لم يحن بعد". علماً بأنه لم يحدث لي أن دعوته لتلحين نص لي. وهو كان يقرأ لعدد كبير من الشعراء العرب. وكان لحّن نصوصاً جميلة لمحمود درويش وسميح القاسم وغيرهما.
والطريف أن تجربة "وجوه" لم يجر التخطيط لها (بيني وبين خالد) بشكل مباشر. فالمشروع أصلاً جاء في سياق تجربة فنية ثلاثية، اقترحها الفنان التشكيلي إبراهيم بوسعد، حيث يشترك التشكيل والرسم والموسيقى معاً. ويبدو أن خالد وجد في الاقتراح الأفق الذي يسعى إليه منذ زمن طويل. فهو لم يكن غريباً عن كتابتي عموماً، ونصوصي الشعرية خصوصاً. لقد كان خالد الشيخ يقرأ شيئاً يتصل بالروح الإنساني الذي يمس تجربته في العمق. وهذا ما جعلني، أثناء مراقبتي له وهو يشتغل في "وجوه" أشعر بأنه كان يعبر عن نفسه بصدق. وكنت أقرأ معه قراءته لنصوصي مجدداً، كأنني أطالع كتابة جديدة لنصوصي. لا أنكر أنه كان متهيباً جداً وهو يقرأ النص الكامل الذي اشتغل عليه الفنان إبراهيم بوسعد تشكيلياً، متهيباً إلى درجة أنه كان يقول لي "من أين أدخل في هذه النصوص؟"، والفنان الذي يستهين بالنص الذي أمامه سيكون مرشحاً للفشل مسبقاً. خالد الشيخ كان عكس ذلك تماماً، إنه شخص يدفعك إلى الثقة بموهبته وحسّه الشعري بدرجة ثقتك نفسها بحسّه الموسيقي. لذلك كنت أقول له بأهمية التعامل مع النص بحرية كاملة، قلت له، عليك أن تتصرف مع النص كما لو أنه نصّك، لا تتقيّد بأية حدود وهمية تفصلك عن النص أو تحجبه عن حساسيتك. ولقد كنت أرقب تلمسه البالغ الحساسية للكلمة. كنا نناقش التجربة بحرارة الذين يقفون على موقد.
وانطلق خالد في انتخاب الكلمات والجمل من النص الشاسع، لكي يؤلف نصاً خاصاً به. لقد جعلته يمارس حريته كاملة في صوغ النص وتقميشه بما يناسب أعماقه الموسيقية والإنسانية، وكان كل ما يفعله يسعدني يوماً بعد يوم، لقد كان يقرأني على طريقته. كان ينتخب جملة من هنا وجملة من هناك ويضيف إليهما كلمة من مكان آخر، كما لو أنه يضع ألواني على لوحته الجديدة، لكي أكتشف أنه لا يحسن القراءة فقط، بل ويكتب الشعر بشكل غير مألوف وبأدواته الخاصة. ويجب أن نلاحظ أن في مثل هذه الممارسة بعداً يتصل بطبيعة الشاعر الجديدة. ماذا يتمنى الشاعر أكثر من هذا في مثل تجربتنا العربية؟ لقد أخبرت خالد بأن مرسيل خليفة سبق أن مارس مثل هذه الحرية في نص طويل لعباس بيضون (نشر في مجلة "مواقف" أواخر السبعينيات). ليخرج علينا بأغنية "يا علي". قليلون يعرفون هذه الحقيقة. وخالد الشيخ هو أحد الذين يرون في تجربة مرسيل خليفة بعداً روحياً لتجربته. ولن يلاحظ المستمع إلى شريط "وجوه" حقيقة العملية الشعرية التي حققها خالد الشيخ، وسوف يظنون بأن النصوص كتبت أصلاً بهذه الصيغة. وهنا يكمن أحد أسرار الإبداع في العمل الموسيقي الجديد الذي اشتغل عليه خالد الشيخ. فهو لم يأت النصوص بألحان جاهزة مسبقاً، موروثة ومطمئنة في ذاكرته اللحنية، كما أنه لم يأت الألحان بإيقاعات جاهزة مألوفة تقدمها له النصوص أيضاً.
لقد جاء ليكتشف إيقاعات تقترحها عليه سياقات حرة، خارجة على الوزن، وهذه أحدى جوانب الجدة والطرافة في تجربة "وجوه". فهو لم يتعامل، موسيقياً، مع النصوص الجديدة، بوصفه ملحناً، ولكنه كان يصدر عن موهبة وحساسية المؤلف الموسيقي. وفي هذا فرق شاسع لم يزل مجهولاً بالنسبة إلى معظم الموسيقيين العرب. لذلك فإنه كان يضع موسيقى أعماقه لمحاورة الكلمة وتفجير مكامنها الشعورية، واكتشاف الطاقة الهارمونية المتصلة بين روحه والكلام الصادر عن روح شبيهة. ففي تجربة "وجوه" استطاع خالد الشيخ أن يتفادى ذلك الترقيص الخارجي الفجّ الذي يمسخ النص والشخص في آن واحد.
مَن يريد أن يتعلَّم أجمل طريقة للانتحار بلا ندم، عليه أن يشترك بعمل فني مع خالد الشيخ.

أحمد الواصل

من الواضح انك تعتبر "وجوه" تجربة فارقة وكونية، استطاعت أن تجمع – بإصرار وحساسية – نزوحًا إلى إعادة تشكيل علاقة الحرف بالصوت واللون والجسد، إنما بفداحة حضور الكلمة–الشعر، حيث نقع عليها بين الإلقاء والغناء والخط. أهو تصور كنت تعنيه وتعوِّل عليه ؟

- اعتقد أن تجربة "وجوه" واحدة من الذروات التي شعرتُ بأنني أطير فيها بأكثر من جناحين أو ثلاثة. كنا معاً سرباً يحلِّق بما لا يقاس من الأجنحة، نخرج ملطَّخين بالكلمات والألوان والأشكال والموسيقى والغناء والأداء والعناق الحميم بين أصدقاء لا يتكرَّرون كثيرًا. والحق أن كلَّ الأصدقاء الذين شاركوا في التجربة كانوا يمارسون متعة التعبير بحرية عن ذواتهم، بلا قيود ولا خوف ولا سلطات. وهذا أهم ما كنت أحلم به في مجمل تجربتي. حتى الصديق الشاعر أدونيس، الذي تفضَّل مشكورًا بالمشاركة معنا، ما كان له أن يفعل ذلك لولا روحه الشعرية العالية التي تستشعر مكامن الصدق في التجربة وذهابها إلى حريات المبدع. فعندما يقرأ أدونيس الشعر لن تقدر على مقاومة شغفك بالإصغاء لكي تكتشف شيئًا جديدًا في كلِّ مرة، كما لو أنه يقول لك الشعر أنت بالذات. إنني لم أصادف شاعراً يقرأ مثل أدونيس. لقد كانت لحظة لا توصف من لحظات الصداقة الحميمة بين مبدعين أحرار.
كما أنني تولَّعتُ مجددًا بالرسم من خلال التشكيل الذي حقَّقه الصديق إبراهيم بوسعد. وإبراهيم كما قلت هو مطلق الشرارة الأولى في التجربة، وهو فنان يعمل دائمًا على تجاوز نفسه ويسعى إلى صوغ تجاربه في ضوء تفجُّره الداخلي. وقد حقق في "وجوه" رحابة مهمة في سياق تجربته، إضافة إلى رحابة صدره التي لا توصَف، لكي يثبت لنا درسًا في ديمقراطية المبدع مع أحبَّائه.
بقي أن أقول بأننا في "وجوه" وضعنا الآخرين في مواجهة تجربة تشغيل بعض الحواس المعطَّلة والمسكوت عنها، أو التي ظلت توظَّف منعزلة بعضها عن بعض طوال الوقت. فالإنسان العربي يصدر عادة عن ثقافة تأسَّستْ على خبرة سمعية وشفهية بالدرجة الأولى، مما جعل الحسَّ البصري فقيراً أو ضعيفاً؛ أو أنه يصير مهملاً وغير نشط في العمل الفني، مما أدى إلى ضموره. وعندما دخل الجمهور معنا تجربة "وجوه" خالَجَه فرحُ اكتشاف حواسه وهي تشتغل بنشاط غير مألوف.
بهذا المعنى، أظن أن "وجوه" تجربة لا تزال قيد العمل والإنتاج في حقول الآخرين، بوصفهم أفرادًا مختلفي درجات الحساسية والاستعداد الذاتي، وليس باعتبارهم قطيعًا واحدًا متجانسًا. فقد كانت اللغة في هذا العمل تتجاوز مفهوم الدلالات الرمزية المباشرة، لتتحول إلى أفق الدلالات والتأويل، المفتوح على غموض النفس البشرية، حيث كلُّ شخص ينطوي على معانيه وحساسياته ذات الحيوية الخاصة والمميزة.
عندما تأتيك طفلة في العاشرة تزور معرض وجوه، ثم تسألك عن معنى "زعفران المرايا"، عليك أن تتسلَّح بكلِّ الأساطير لكي لا تذوب غبطة بالسؤال. مجرد ذلك السؤال من تلك الطفلة كان يكفيني لبقية العمر.
كما أنني لا أعرف توصيفاً لما حدث لي، حين استوقفني شخصٌ لا أعرفه ليخبرني أنه، بعد أن استمع إلى شريط "وجوه"، رمى بكلِّ الأشرطة من سيارته، واحتفظ بشريط "وجوه" فقط. وبمعزل عن البعد الانفعالي والعاطفي في هذه الحادثة، فإنها، على صعيد الثقافة السائدة، لا تخلو من دلالة.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى