فتنة السؤال

فتنة السؤال

(لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ)
قاسم حداد

تحرير: سيد محمود

 

كلمات، كلمات، كلمات

( هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك.
فاغفرْ لهم، فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا،
ولو سترتَ عني ما سترتَ عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت )

الحلاج

عدالحميد المحادين

- كنتَ من بين مؤسسيي أسرة الأدباء في بلادك وهي من أولى الكيانات النقابية في الخليج، كما كنت من بين الأعضاء الناشطين فيها، وتوليت رئاسة تحرير مجلتها "كلمات" في سنوات ازدهارها. ما ظروف تأسيس هذا الكيان الفريد. وهل كانت بدوافع إبداعية خالصة أم جاءت مقترنة بدوافع سياسية – كما هو الحال في بلدان أخرى؟

في ذروة الستينيات، كانت المبادرات الأدبية الجديدة تعبر عن طموحها بأشكال مختلفة، وقتها كنا في خضم الانهماك النضالي أيضا. غير أن التوق الثقافي هو بالضبط ما التقى عليه شباب الأدب في تلك اللحظة. عام 1969 لم تكن بعد قد تبلورت المؤسسات المثيلة في مناطق عربية أخرى، بوصفها رؤية أدبية جديدة ومستقلة عن النظام الرسمي في بلدانهم. أسرة الأدباء والكتاب منذ لحظتها الأولى اقترحت مسافة واضحة بينها وبين المؤسسة الرسمية، وعيا فطريا لدى مؤسسيها بالمعنى العميق والجوهري لدور الثقافة في الحياة والمجتمع: أن لا تكون الثقافة والإبداع تابعين أو مجيرين لسلطة سياسية. الاستقلال الثقافي كان هاجسنا جميعا. ولكون معظمنا في حمأة النضال السياسي بدرجات مختلفة، سوف يغلب على سلوكنا بعض الحماسات السياسية التي لن يخلو منها نصنا أحيانا، الأمر الذي وضع أسرة الأدباء، كفعاليات ومواقف، في المكان المعارض بشكل عام، ليس أدبيا فحسب، ولكن سياسيا خصوصا. ليس فقط لكون عدد من أعضاء الأسرة منخرطين في النشاط الحزبي، ولكن إصرار تجمع أسرة الأدباء، مبدئياً، على النأي عن مؤسسة السلطة الرسمية، وعدم الارتهان بمشاريعها التي كانت تشكل انعكاسا فجاً لسلوكها السياسي في داخل البحرين وخارجها، الأمر الذي كرس موقفا متبادلا بين الطرفين لا يخلو من الحذر والمحاصرة. وأصبح موقف أسرة الأدباء المعارض والمستقل عن السلطة ملمحاً واضحاً من تراثنا الثقافي، وقد عرفت الأوساط الثقافية العربية، سبعينات القرن الماضي، عن أسرة الأدباء في البحرين واتحاد الكتاب اللبناني واتحاد أدباء المغرب، من بين كل التجمعات الأدبية العربية، بأنها التجمعات المستقلة عن سلطات بلدانها.
وبقيت هذه الفكرة مستمرة، وتشبثت بها أسرة الأدباء حتى بعد انحسار الهاجس السياسي لدينا. وبقينا نرى في معظمنا ضرورة المحافظة على استقلالنا الأدبي، في أكثر الظروف دقة وحساسية وتعقيداً. ولا أرى في تقاطع بعض القناعات في لحظات مختلفة من تجربتنا، والاختلاف هنا أو هناك سوى تعبير عن حيوية هذا التجمع الذي اكتسب الكثير من التجارب واختزن وعيا كفيلا بحمايته من الشطط كلما استدعى الأمر مراجعة وإعادة النظر في منجزه الفكري و الإبداعي.
لقد كانت أسرة الأدباء والكتاب، بإمكانات غاية في التواضع، تطرح ما لايقاس من الإجتهادات فناً وأدباً وفكراً، دون أن تعبأ بالجانب الإعلامي الذي يستهوي الكثيرين الآن. إن الخلل الذي يجعل البعض يتحدث الآن عن "أزمة في الإنتاج الثقافي" يتأسس على انقلاب المفاهيم والقيم الحضارية، وهو خلل سوف يجعل كل هذا التراث الإبداعي المعاصر عرضة للشك والإلغاء، لأنه تراث يتصل بالأسئلة ولا يقنع بالجاهز من الأجوبة التي تسد علينا الفضاء. وإذا أراد بعضنا أن يغفل عن مشاكل واقعنا الجوهرية، ويطرح علينا الاجتهادات غير الموضوعية، بغض النظر عن النوايا، سوف يرتكب مغالطة كبيرة في حق تاريخ الثقافة الوطنية في البحرين، وربما ساهم، من حيث لا يدري، في تلفيق تاريخ آخر، ولسوء حظ هؤلاء أن الشهود لم يموتوا بعد.

عبدالحميد المحادين

هل صحيح أنها نجحت في أداء دورها الأدبي والثقافي بدرجة ما لكنها أخفقت في أداء دورها الاجتماعي؟

- هل هي نجحتْ في الأول حقاً ؟
إذا حدث هذا بالفعل فإنه يكفي. أما الدور الثقافي فإن الأسرة، من واقع الظروف التي تعيشها وتعاني منها منذ تأسيسها حتى اليوم، تمثل تجربة صعبة جداً، والمساهمة التي قدمتها الأسرة في سياق العمل الثقافي عموماً هي، في حساب البيدر، أكثر مما هجست به التوقعات. فأنت لا تستطيع أن تطالب الشخص أن يغني وهو في قفص وأن يعزف على الناي بأصابع مقطوعة.
وإذا كانت الأسرة قد أخفقت في الدور الاجتماعي فهذا هو المتوقع دوماً. فهي ليست مؤسسة اجتماعية. أكثر من ذلك، فإن الأدباء هم آخر من يصلح لتحقيق العمل الاجتماعي، وسوف يفشلون دوماً في خلق المناخ الاجتماعي في ما بينهم أيضاً.
الأدباء كائنات لا تطاق أصلاً، ولا تطيق بعضها ولا تطيق نفسها. هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتوقعها دوماً. الأديب ليس مخلوقاً اجتماعياً، ولا ينبغي أن نتوقع منه أن يتقمص دوراً لا يناسبه. الأديب غالباً ما يصدر في سلوكه عن وهم العدو، وإذا لم يجد عدواً ماثلاً أمامه، وضع المتاريس وصارَ عدواً لذاته.
هل كانت أسرة الأدباء شكلاً نقابياً أم شكلاً ثقافياً ؟
لم يكن بإمكانها أن تكون شكلاً نقابياً. وربما طوال سنوات عملها كانت تحاول أن تكون شكلاً ثقافياً في سياقٍ لا يساعدها على ذلك، بالصورة التي تتطلبها طبيعة الأشياء. والذين سيدرسون تجربة أسرة الأدباء مستقبلاً سيكون لديهم تفاصيل وحقائق يصعب توصيفها كما يحدث عادة في المؤسسات المثيلة في العالم. فعندما نتأمل تجربة الأسرة سنرى أنها كانت طوال تاريخها تقترح على الواقع إشكالية مفهوم المؤسسة الثقافية ذات الشخصية المستقلة، في مجتمع لم يستوعب، ولا يقبل بعد، هذه الحقيقة. وهذا ما كنا طوال عملنا في الأسرة نحاول أن نحققه بصعوبات لا تنتهي.

عبدالله خليفة

كيف ترى مستقبل أسرة الأدباء والكتاب بعد تجربة طويلة في تأسيسها وتطورها؟

- كمؤسسة أدبية، تشكل أسرة الأدباء والكتاب واحدة من أجمل معطيات النهضة الحضارية الحديثة (ثقافياً) في هذه المنطقة. فأسرة الأدباء لا تزال تشكل الفكرة البهية لصورة البحرين الأدبية محلياً وعربياً. وفي سياق المؤسسات الأدبية المثيلة عربياً حققت أسرة الأدباء تميزاً تقدره جميع الأوساط الأدبية العربية، وترى فيه نموذجاً للكيان الذي حقق نفسه بإمكانات إبداعية غاية في الغنى والتنوع، وبإمكانات مادية متواضعة لم تعطلْ حضوره المتوهج في المشهد الأدبي العربي. أذكر هذه الحقيقة لأهميتها المعنوية والتاريخية التي يتوجب أن تشكل دفعاً قوياً للجيل الجديد، الذي سوف يكون مسؤولاً عن بلورة هذه التجربة بأدواته الجديدة الخاصة وباجتهاداته المختلفة مستقبلاً. ومن الواضح الآن أن أسرة الأدباء، باعتبارها جزءاً من الواقع الثقافي، لم تتوقف عن العطاء الإبداعي في صورة الإنتاج الأدبي لأعضاء في الأسرة لم يتوقفوا عن الكتابة، بعضهم منذ الستينيات، والبعض الآخر يتحقق في جيل جديد من الأصوات الأدبية أصدرت كتبها في العشر سنوات الأخيرة، من خلال مطبوعات أسرة الأدباء، أو من خلال منشورات شخصية داخل وخارج البحرين بشتى الوسائل. كما أن معظم الذين تحضر أصواتهم في الصحافة الثقافية طوال الوقت هم من أعضاء الأسرة. وأحب أن أتفاءل بالقول بأن مستقبل أسرة الأدباء، وهو الآن بين أيدي الجيل الجديد، يتوجب أن يكون أكثر جمالاً وتنوعاً. الرهان الحقيقي الوحيد ينبغي أن يتمثل فقط في الكتابة الأدبية، في النص الأدبي بشتى تجلياته، وليس في المظاهر الإعلامية والضجيج الخارجي الذي يستدرجنا إليه الواقع الإستهلاكي، فالعربة الفارغة هي فقط التي تحدث الضجيج الأعلى .

عبدالله خليفة

كيف ترى تجربتك في مجلة "كلمات"، وهل استطاعت أن تكون منبراً إبداعياً متعدداً لكافة الأصوات وأوصلت التجربة الأدبية في بلدنا إلى العالم؟

- إن مشروعاً أدبياً إبداعياً مثل "كلمات" يتوجب النظر إليه بوصفه رؤية فنية تمثل هيئة التحرير المسؤولة عن أطروحاته، وإلا فلا معنى لأن يكون القائمون عليه مبدعين. فأية مجموعة من الناس تستطيع تحرير المواد، يمكنها أن تصدر مجلة في أي وقت وفي أي مكان. لكن المهم أن تكون لدى هيئة التحرير رؤية خاصة تصوغ بها مشروعها الإبداعي.
وإذا كانت مجلة "كلمات" قد حققت تجربة معينة حاضرة في المشهد الإبداعي العربي، فذلك يعود إلي الرؤية التي صدرت عنها هيئة التحرير طوال عشر سنوات. ففي تجربة مثل هذه ليس بالضرورة أن تكون منظوراتها مقبولة من جميع الاجتهادات والقناعات الفنية الأخرى محلياً وعربياً. بل على العكس من المتوقع أن تكون سياقاً خلافياً لأنها تطرح اجتهاداً مغايراً. أقول مغايراً، وليس في هذا حكم قيمة على صواب أو خطأ هذا الاجتهاد. لأن هذا يعود إلى المعطيات المرهونة بمستقبل التجربة الإبداعية التي لا تزال تتحقق، ليس في البحرين فحسب، ولكن في المنطقة عموماً وفي مساحات مختلفة من البلاد العربية.
منذ اللحظة الأولى في "كلمات"، إذا كنا نتذكر مقدمة العدد الأول، كان تصورنا أن الأفق الذي ينبغي أن تتحرك فيه المجلة هو الأفق العربي وليس الأفق المحلي. ولو أن "كلمات" استسلمت لتخوم المحلية التي ظل الكثيرون يطالبون بها، لما تحقق لها ما تحقق من التجربة الغنية والقوية بالشكل الذي نراه. فلا أحد الآن يذكر أهم ثلاث مجلات أدبية في البلاد العربية دون أن تكون "كلمات" واحدة منها. وهناك كتاب ومبدعون عرب ينشرون نصوصهم فيها بحماس ومحبة وهم يعرفون أن النشر فيها بلا مقابل مادي، في حين تطلب الصحافة الأخرى كتاباتهم بآلاف الدولارات. ولم يتعرف العرب علينا فحسب من خلال "كلمات"، بل إن جهات عالمية إبداعية وأكاديمية أصبحت هذه المجلة مصدراً مهماً من مصادر معرفتهم بالإبداع في هذه المنطقة. ونستلم رسائل من مختلف أنحاء العالم تطالب بأعداد المجلة، ولا تخلو مكتبة مهمة في العالم من أعدادها. أما في البحرين، علينا التنقيب عن شخص يشعر بالفخر لأن مجلة كهذه صدرت في بلاده. حيث يتبرع كل من هبّ ودبّ برجم "كلمات" بالحجارة. ربما لأننا لم نكن نغني ضمن السرب في جوقة واحدة، لذلك لم نطرب الكثيرين في هذا الحي.
بقي أن أقول إن تجربة مجلة "كلمات" قد جاءت في وقتها المناسب في زهرة نضوج تجربتنا الأدبية، بالرغم من أن فكرة المجلة كانت من صلب الخطوة الأولى لمشروع أسرة الأدباء والكتاب عند التأسيس، حتى أننا كنا اقترحنا اسم المجلة "كلمات" وسجلناه في وثائق التأسيس.
وعندما أطلقنا "كلمات" عام 1983 كنا قد أنجزنا القسم الأكبر والأعمق والأكثر جدية من مشروعنا الأدبي. وكانت الحركة الأدبية لديها مشروعها الواضح الصادر عن منجزها الإبداعي، وكانت لديها أسئلتها الخاصة لمحاورة العالم، وثمة الزخم الروحي المكتنز في إسهامات الجميع بفعل تجاربها الثرية (اجتماعيا، سياسياً، فكريا، أدبيا) الأمر الذي ساهم في تعميق تجربة "كلمات"، وخصوصا لكونها حافظت على الروح الجماعي المستعد للعطاء والبذل بلا أنانية ولا انتظار مقابل، معتمدا على طاقته الذاتية في سبيل الجميع. كنا نرى المستقبل بأمل وشيك، وكنا نعشق ما نفعل. وكانت كتاباتنا هي خطواتنا، نعمل بصمت، ببطء، لكن بثقة.
لقد كانت لنصوصنا (بشتى أشكال تعبيرها) القدرة على محاورة مستقبلها بقدر واضح من الرصانة الفنية والمعرفة. ومن لحظتها الأولى، عددها الأول، كنا رأينا "كلمات" في أفقها العربي والإنساني دفعة واحدة وبثقة تحمّلنا عبئها جيدا، بحيث وضعنا تجربتنا في عين المشهد الإبداعي العربي وخلقنا حواراً بالغ الغنى والتنوع مع التجارب الأخرى. وشكّلت "كلمات" طوال سنوات عملها ورشة حوار إبداعي وثقافي عربي بامتياز، وبشهادة الجميع.
لكن، عندما شعرنا أن التجربة قد وصلت إلى لحظة حرجة على صعيد علاقة مشروع "كلمات" برؤيتها الخاصة، مع المؤسسة التي تصدر عنها "أسرة الأدباء"، قررنا التوقف عن إصدارها. فقد أصبح السقف لا يستوعب رؤيتنا لـ"كلمات"، فثمة من كان يتوهم بأن مجرد عضويته في أسرة الأدباء يفرض علينا أن ننشر له ما يكتب. وقد جرى الكثير من هذا الكلام في الصحافة وقتها. فرأينا أن نحمي تجربة المجلة بتوقيفها في لحظة نشاطها، فلسنا مضطرين لا لقبول شرط المؤسسة بنشر ما لا نقتنع به، ولا نتيح (وقتها) لمن يحمل تلك الأوهام أن يفسد التجربة. ولعل توقعنا قد تمثل في ما ظهر بعد ذلك بسنوات، في محاولة أقل ما توصف به أنها بائسة.

عبدالحميد المحادين

- من اللافت لي انك تتحدث عن تجربتك مع "أسرة الأدباء" بقدر كبير من التقدير وعلى الرغم من ذلك فأنت بعيد تماما عن أنشطتها في الوقت الراهن فما سر هذا الابتعاد؟

- لم ابتعد عن أسرة الأدباء، كنت انقطعت عن نشاطها وفعالياتها منذ لحظة توقيفنا لإصدار "كلمات"، آنذاك لم أشعر بما يربطني بالمؤسسة بعد "كلمات"، التي كانت مشروعاً ممتعاً، وكان معي الرفقة الذين لا يخذلون، المبدعون أينما وجدوا، مثل "الذهب أينما ذهب".
باختصار، كان لدينا من الطاقة ما لم يوقفه توقف "كلمات"، فانتشرنا في الكون نواصل مشروعنا الأكثر رحابة وحرية خارج المؤسسات. باختصار أيضاً، ضاقت علينا أسرة الأدباء، فتركناها دون أن نغيب عن حركتها، فنحن جزء من هذا الجسد الحي. وصرنا، في مختلف نشاطنا الذي لم يتوقف، نرقب الأسرة عن كثب، مثل الفرس التي نحبها، لنرى ما يحدث لها هناك في الأحضان الجديدة، رجاة أن تتقدم خطواتها، وتتبلور تجربتها، وتقدر على تشغيل المخيلة بدون أن تفقد الذاكرة.
لم تكن ثمة معارك هناك. كانت التجارب الحقيقية في احتدام المواهب والأفكار، حيث النصال الصادقة تشحذها مبارزات الفرسان. كنا نذهب إلى الكتابة وليس إلى الكلام.
وبعد سقف المؤسسة، وبعد "كلمات"، ذهبت إلى كتابتي لانجاز كثير مما كان يتأجل في مرجل الروح. وذهبت إلى "جهة الشعر"، حيث لانهائية النص في مكانه الأثير: الحرية، الجمال.
لم تزل أسرة الأدباء صديقة تجربتي، ولم يزل جميع من في أسرة الأدباء وخارجها أصدقاء، أقدّر اجتهاداتهم ويحترمون خياراتي، ولا أتأخر عنهم كلما استدعى الأمر وساعدتني ظروفي على ذلك.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى