البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

عن تجربة الرسم والكتابة

( نص الكلمة التي طرحت في ندوة مشتركة
مع الفنان ضياء العزاوي والشاعر محمد بنيس
في افتتاح معرض "مجنون ليلى" في البحرين ابريل 96)

1

يخالجني سؤالٌ ، أبدأُُ به :
تُرى / هل الطريقُ إلى الحب أكثرُ جمالاً من الحب ؟
وهل يمكن أن يَصْدُقَ هذا على لذائذِ الإنسان وإنشغالاته الحيوية الأخرى ، مثل : المعرفة، السفر ، الجنس ، الكتابة، الحلم ، الدين، وبالتالي الفن ؟

إذا جازَ لنا التثبّت من هذه الحقيقة ، فسوف أصدّقُ أننا عشنا الوقت الجميل عندما كنتُ مع ضياء العزاوي نشتغلُ ، مأخوذَينِ، في الكتابة والرسم.

فقد كنتُ، (في حَمْـأة تحقيق المجنون) أقول له : "إن ساعات إنهماكنا في التجربة على درجة من البهجة واللذة والجمال، بحيث يبدو أن تجربة الخلق ربما كانت أكثر جمالاً من المخلوق، لفرط المتعة ".
وبطريقته الجنونية ، كان يريد أن يقول : " بل أنها أجمل من الخالق أيضاً ".

2

لقد كنا نستمهل الوقت، لكي تطول مساحة اللذة الفاتنة التي كانت تتيح لنا المزيد من حريات العمل والمكتشفات، ولعل العديد من التفاصيل والإبتكارات كان ضياء يجترحها كل يوم، مثلما تبتكر أم العروس زينةً وجمالاً إضافيين لإبنتها كلما اقترب العرس. وبالنسبة لي، كان ذلك كافياً وجديراً فحسب.

فهل الطريقُ إلى العُرس أكثرُ جمالاً من العُرسِ أيضاً ؟
وكلما تأخرنا عن الوقت صار الوقت في صالح الفن . ومن المتوقع أن يخبرنا العمل الفني الآن إن بإمكانه أن يبدو أكثر جمالاً لو أننا منحناه مزيداً من الوقت.

3

في تجربة (مجنون ليلى) كان ضياء العزاوي هو صاحب النار الأولى.

ففي زيارته الأولى للبحرين، قبل حوالي العامين، إلتقينا، شخصياً، لأول مرة. وبعد تبادل التحية، جلسنا لنجد أنفسنا كمن يواصل حديثاً إنقطع الليلةَ الفائتة. لقد كان ثمةَ إتصالٌ في العمق بيننا. فبالنسبة لي ، تجربةُ العزاوي تشكّل جزءاً مكوّناً من معرفتي الثقافية، موصولةٌ بانحيازي للفن التشكيلي، ولعل تجربة ضياء، هي أيضاً، في مركز الثقافة العربية الحديثة لكل المعنيين بالفن. ومن جهة أخرى سيكون هذا الفنان دوماً على تقاطع مستمر مع تجربة الشعر العربي، خصوصاً في منحنياته المتجددة ، بحكم إهتمامه الأدبي أولاً، وبحكم ممارسته الفنية في الدوريات الثقافية التي تشكل الملتقى المتجدد للتجربة الأدبية العربية ثانياً. وهذا ما سيتيح له إتصالاً بجانب من كتابتي، لكي لا أقول بجوهرية رؤيتها .

4

وعندما طرح عليّ للمرة الأولى رغبتَه في أن نحقق معاً كتاباً عن (مجنون ليلى) ، شعرتُ أن شخصاً مكتنزاً بشهوة المغامرة يغرِّرُ بشخص لا يهدأُ بغير تلك الشهوات. وعندما يكون الحب هو سِدرةُ المنتهى، ففي الأمر ما يدعو للإستسلام. وبقدر ما باغتتني الفكرة، فإنها راقت لي إلى درجة النشوة. ففي غمرة واقع عربي يتهاوى تحت وطأة الحرب والسياسة والعنف، سيقف شخصٌ يلتفت بإبداعه إلى كل ما هو مغفلٌ ومسكوتٌ عنه ومكبوتٌ ومصادرٌ أيضاً.

قال لي العزاوي يومها أنه يشتغل على تحقيق عمل فني يتصل بالحضارة والفن والكبرياء الإنساني. عمل يفجّر طاقة الحب في حياتنا، ففي الحب شيئ من المستقبل، وكم نحن بحاجة لأن نذهب إلى ذلك المستقبل مدججين بأكبر قدر من الحب. وقال أيضاً أنه يريد لهذا العمل أن يتحقق بحرية كاملة أدبياً وفنياً، بحيث نعمل الشيئ الذي نحب بالشكل الذي نحب.

وأعتقد أن لدى هذا الفنان طاقة سحرية في التعبير عما يحب أن يعمل، فقد كان يتكلم آنذاك عن المشروع كأنه موجود هنا .. الآن، وهذا ما أسرني وهو يتحدث عن قيس وليلى، فلم يكن ينقصني إلا هذا المتخيل البارع . خصوصاً و أنه كان يتحدث عن مجنون ليلى وأصابعه لا تزال في ألوان " طوق الحمامة " لإبن حزم ، الذي تقاطع معه الشاعر محمد بنيس بكتاب الحب.

5

قلتُ لضياء : لكنني لن أصدق رواياتَـهم عن قيس وليلى !!

فلمحتُ في عينيه بريقاً فاتناً وهو يهمّ أن يقول : لا نريد رواياتهم، ولكن أحب أن تكتبَ قصتَكَ أنتَ كشاعرٍ معاصر ، دونَ أن تصدّقَ أحداً سوى قلبك .

فتيقنتُ لحظتها أن الجنون شخصياً هو الذي سيتكفّل بنا جميعاً : قيس وليلى وضياء وأنا.
أستهوتني الفكرة واستولت على كياني، فلن يصادف المرء كل يوم مبدعاً على هذه الدرجة من الوعي وشهوة المغامرة في الفن والحب في آن . قال لي : " لكَ الوقتُ كلُّه "

ثم سافر عني، وتركني على تلك النار لبضعة أشهر، دون أن أكتب شيئاً لإنشغالي بأشياء أخرى.

6

عندما عدتُ ، فيما بعد، للجزء الثاني من كتاب (الأغاني) وجدتُ أن الفصل المخصص لأخبار مجنون ليلى مليئاً بالملاحظات والإشارات والعلامات على الأسطر، التي سبق أن وضعتُها منذ سنوات. فالحقيقة أن ثمةَ رؤيةٌ ، تشبه الشكَّ الشعري، لم تفارقني كلما عدتٌ لقراءة هذه الروايات والأخبار المتصلة بقيس وليلى. فشعرت مجدداً أن ضياء العزاوي قد جاء بعد كل هذه السنوات ليضع ريشته في النزيف ذاته، لنفس الجرح الذي إدخرته لجنون على هذه الشاكلة.

من وجهة نظر المصادفة الموضوعية، حسب تعبير السرياليين، سأعتبر من تلك اللحظة أن مشاركتي في تجربة الكتاب المجنون صارت ضرباً من الإستجابة اللاواعية بين أرواح هائمة تبحث عن قرائن تحسن الكلام مع الأشباح والأطياف معاً، منذ قيس بن الملوح حتى ضياء العزاوي.

ولكن هذا كله لن يعتبر عامل اطمئنان في مثل هذه التجربة. فعندما ينتخبك فنانٌ مثل العزاوي لتقترح عليه نصاً قادراً على الغواية، فسوف تكون مرشحاً للذهاب إلى الفتنة من كل جانب. لقد حرّك العزاوي عندي نزوعاً جوهرياً لأيةِ مغامرةٍ إبداعيةٍ تنشأُ على فكرةِ التداخلِ بين أنواع محتلفة من أشكال التعبير آليات العمل الفني، وهو النزوع ذاته الذي كان يشكل للعزاوي هياماً دائم التحقق في أعمال سابقة، وهو القادم من تجارب عدة مع نصوص إبداعية أخرى .

7

أذكر أننا - ضياء و أنا- لم نتكلم في تفاصيل التنفيذ الفني لمجنون ليلى. لكن الأيام النادرة التي أمضيناها معاً في البحرين قبل عامين، كشفت لكلينا أن ثمة رؤية جديدة للحب يتوجب علينا أن نمارس البوح والجهر بها بحرياتنا، بعيداً عن النص التراثي الذي يكرر لنا الروايات نفسها طوال العصور، بشكل آلي جامد تنقصه المخيلة والجمال والتألق، حتى أوشك الكلامُ عن الحب يفقدُه جوهرَهُ الباهر.

بعد أكثر من خمسة أشهر، عندما استغرقت في قراءةِ وتأمّل كلَّ ما تمكنتُ من الوصول إليه عن قيس وليلى قديماً وحديثاً، أوشك َ النصُ أن يكونَ واضحاً في الرأس، لكنني لم أكن أعرف بعد كيف سيكون (شكل) الكتابة. الشكل لم يكن واضحاً بالمعني الفني، وهو الأمر الجوهري في أية تجربة. وجدت نفسي ضحية استحواذ لذيذ لفرط ما كان يحدث لي من اختراق يوميّ للروايات التي كانت تحكي أخبارَ قيس وليلى بتعددٍ وتنوعٍ واختلافات مذهلة تصل حد التناقض، وفي ذلك الاحتدام شيءٌ من الجاذبية التي تجعل النص مطروحاً في مهب الأسطورة والحقيقة في نفس اللحظة.
وكنت أشعر بما يشبه ارتطام النيازك بين كائنات تريد أن تقنعنا، طوال تلك العصور والروايات والنصوص والأخبار، بأن كل منها هو حقيقة التاريخ والفن معاً . وكنت أشعر أن الحقيقة ليست هنا، فالحقيقة في الحب نفسه وليس في الكلام عليه. فانبثقت ملامح الشكل من رغبة الشاعر المعاصر في أن يقول أخبارَه الجديدة المختلفة من داخِلِه، من ذاتِه.

وهذا ما سيتصل دوماً بالشكل الشعري الذي كان يؤرقني كلما عدت إلى روايات التراث عن قيس وليلى . فقد كنت أشعر بأن العلاقة بين عاشقَين، مثلهُمَا، لا يمكنها أن تكونَ خاضعةً خضوعاً طهرانياً لمفهوم العذرية التي كرّستها الحساسية الدينية في المجتمع العربي.

كما أن قسمآً مهماً من الشعر المنسوب لقيس كان يشي بأنهما لم يكونا محرومين من نفسيهما بالصورة التي نقلها لنا النص القديم، إضافة إلى أنني لم أكن لأكتب نصاً (عنهما) هناك، بل عنا (هنا .. الآن).

وسوف يسعفني على تحقيق حلم الرسم والكتابة ، حالة الحب التي أجّجتها التجربة عندي من جهة، ومن جهة أخرى ذلك الشكّ الشاسع الذي أتاحته لي الشخصية الأسطورية التي تنزع إلىها حقيقة قيس بن الملوح، وهذا ما تؤكده الروايات التي ينقلها صاحب الأغاني، وهوأحد أهم من تحدثوا عن قيس وليلى من مصادر التراث، الأمر الذي سيجعل قيساً بن الملوح أكثر العشاق العرب نأياً عن الحقيقة وانزياحاً للإسطورة.

كل ذلك منحني الحرية الكاملة في كتابة (أخباري) عنه كما يحلو لي، فقد أخذت من أخبار الآخرين ما يمنح النص المزيد من الريش والأجنحة ، لكي يذهب الخيالُ إلى حد الشطح.

فقد وجدت أن حباً مجنوناً، مثل هذا، سيذهب إلى الجمال كلما تسنى له نصٌ مجنونٌ أيضاً، فوجدت نفسي متقمصاً نفسي، راوياً الأخبارَ التي سكتَ عنها الرواةُ السابقون، وغفلت عنها، أو تجاهلتها، الروايات القديمة.
بعض الذين قرأوا النص من الأصدقاء، قالوا أنه عَبّر عما يخالجهم ولا يجسرون على البوح به، فتيقنت أنه لا يصح لي الزعم بأنني المجنون الأخير هنا.

8

نقل لي الهاتف جنوناً مضاعفاً ، عندما أخبرني ضياء العزاوي، بعد قراءة النص، بأن قيساً يستحق أن يتلقن درساً في العشق هذا النوع، بعد كل تلك المسافة من الزمن والشعر والحب.
شعرت ساعتها بأنني قد كتبت (قيسي) الخاص.

ثم بدأ الفنان يرسم مجنونه هو أيضاً، لكن لا ليفسّر النصَ الذي كتبته، بل لكي يتحاور معه في تقاطعٍ إبداعيٍ يصدر فيه عن ذاتِه هو، وعن رؤيتِه هو . من هذه الشرفة أحب أن نرى إلى التجربة الجديدة في علاقة الكتابة بالرسم وامتزاجهما، هذه التجربة الدائمة التجدد، بوصفها النصَ القابل للإنتاج وإعادة الخلق كل لحظة من لحظات الحب والفن والكتابة.

ليس النصُ حليةٌ للرسم ، وليستْ الألوانُ زينةُ لكتابة.

فمنذ البداية ، لم تكن لدى أحدٍ منا رغبةٌ في تفسير الآخر بأدوات وآلية مختلفتين. فالحوار الإبداعي لا يتحققُ بين متشابَهين، بل بين مختلفَين ، وهذا ما يمنحُ التقاطعَ والإمتزاجَ طبيعةَ الوحدةِ في التنوع. فالعمل الإبداعي يكتمل بالإبداع الآخر ولا ينفيه ولا يصادر جمالياته أو خصوصيته.

بهذا المعني ، يمكننا القول بأن ضياء العزاوي ، منذ أن طرح عليّ فكرة المجنون، كانت لديه رؤيته الخاصة لهذه الشخصية، فهو لا يريدني أن أشرح أعماله بالنص الأدبي، كما أنه لم يكن ينتظر كتابتي ليفسرها بألوانه. لقد حقق كل منا ذاته ورؤيته بالحرية التي نتمنى على الآخرين أن ينظروا ويتصلوا بتجربتنا في ضوئها.

عندما أقف الآن مأخوذاً، مثل الأحداق المشرعة في هذه الألوان الحارة الباهرة التي تتوهج في اللوحات، يمكنني أن أسمع القلب الإنساني يتفطّر عشقاً، وينتابني الوهج الذي جعل قيساً يصدّق بأن ليلى لن تصادف عاشقاً مثلَه يذهبُ إليها بكل هذا الجنون.

ففي الألوان هناك الرغبةُ والوله، الشبقُ والحزن، الغيرةُ والشوق، الوحشةُ والشعر، الجنسُ والخفر، الجنونُ والحكمة. وليس من باب الصدفة، على الإطلاق، أن يكون حضور الألوان مهيباً وطاغياً، كما لو أنها نيازك تتحاجز في معظم اللوحات، مثل منجنيق يقذفنا بالحُمم، ويحضننا بحنان القلب في نفس اللحظة. كل أملي أن لا تستسلموا لغواية ضياء العزاوي دون أن تأخذوا معكم الشكَ والتوجسَ والدهشةَ والأسئلةَ كلَّها، فليست الأحداقُ السوداء أعيناً غائبة، وليست الشفاةُ المطبقةُ صوماً عن الكلام والقبل، وليست الأجساد المتماهية أو المتمارية تعباً بشريا منسحباً، وليس اللهبُ الجهنمي المهيمن جنةٌ، وليست الخطوطُ التي لا تبدأ من وضوح ولا تنتهي في غموضٍ هي مساربُ ولوع العشاق، وليس الأصفرُ ذهبٌ ذائبٌ ، ولا الأحمر نارٌ هاربةٌ. لا تصدقوا ذلك كله، فلن تنالوا اللذة التي نالها الرسمُ والنصُ إلا بالشك الشعري الشاسع المتصل بشهوة الجمال والحب ، وشهوة البحث عنهما شاخصين في المسافة الملتهبة بين النص والرسم. لا تصدقوه بلاشكٍ، فإنه لا يكتفي بوصف أحلامه فحسب، بل إنه يحاول أن يصف أحلامنا أيضاً، وظني أنه لم يفشل أبداً.

9

هكذا يتيحُ لي ضياء العزاوي أن أقرأَ ألوانَه، (بالشكل) الذي يفضح كل الكوامن الغامضة في روحي ، قبل الكتابة وبعدها. وهكذا أيضاً أتمكن من قراءة النص، الذي أزعم أنه نص يشهدُ عليّ ويفضحُني.

لأن (الشكل) في العمل الفني يزداد جمالاً كلما نجح في كشف دواخلنا، فليس أكثر فتنةً من العاشق واقفاً في مهبّ الناس. *


 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى