البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

يا سادة يا بني حِمْيَر

1

.. إما ابن مفرّغ الحِمْيَري، فهو الشاعر الذي حُبِسَ وعُذِبَ، وحُمِلَ على بعيرٍ يسير به في الناس، عقاباً على هجاء قاله في "عبّاد بن زياد بن أبي سفيان".

ربما كان الرومان هم الذين ابتدعوا فكرة الطواف بأسراهم مقيدين بالأغلال، والتشهير بهم في الخلق. دون أن نعرف بالضبط، ما إذا كان ثمة شعراء من بين أسرى الرومان.

أعرف شاعراً عربياً معاصراً تعرّض لهذا النوع من العسف في غفلة من تاريخ الناس .

2

ينقل لنا صاحب الأغاني، وابن قتيبة، في خبرَ الشاعر "ابن المفرّغ الحميري" تفاصيلَ عن العسف الذي يمكن أن يبتكره السلطان للتنكيل بشاعر عارٍ من الأسلحة. كان ابن مفرّغ من رجال "الضحاك بن عبد عوف الهلالي". دعاه "سعيد بن عثمان بن عفّان" للذهاب معه الى خراسان بعد أن وُليَّ عليها، فرفض ابن المفرّغ تلك الدعوة ، وصحب "عبّاد بن زياد بن أبي سفيان". وفيما هم على ظهور خيلهم هبت ريحٌ نفشتْ لحية عبّاد، وكانت طويلة، فجُنّ الشعر، وطابت الحبكة عند ابن المفرغ فقال :
"ألا ليت اللحى كانت حشيشاً فنعلفها خيول المسلمينا"
فغضب عبّاد وحقد عليه وأبعده . فقال ابن مفرغ :
"إن تركي ندى سعيد بن عثمان فتى الجود ناصري وعديدي
و اتّباعي أخا الوضاعة واللؤم لنقضٌ وفوتُ شاوٍ بعيد
قلت والليل مطبق بعراه : ليتني متُّ قبل ترك سعيد"
فحبسه "عبيد الله بن زياد " وعذّبه وسَقاه التربذ في النبيذ، وحمله على بعير رُبطت فيه خنزيرة .فأصيب بإسهال شديد بفعل النبيذ، وكان يسيل ما يخرج منه على الخنزيرة فتصيء، وكلما صاءت قال ابن مفرغ :
ضَجَّتْ سُمَيَّةُ لما مَسَّها الفَزَعُ لا تَجْزَعِي إنَّ شرَّ الشِيمَةِ الجَزَعُ
وسُمَيَّةُ هي أم زياد ، جدة السجان على ما يبدو. وطِيفَ بالشاعر في أزقة البصرة وأسواقها وهو في تلك الحال، والناس يصيحون خلفه بالفارسية ( إينَ جستْ ) ، أي : "ماهذا الذي يسيل منك" . والشاعرُ يفرغ في سجانيه الغضب على طريقته، راجزاً بحبكة ظريفة لا تخلو من الدلالات :
( آبست نبيذ اسْت ، عُصَارات زبيبست، سمية روسَفيدَ ست )
فألحَّ عليه ما يخرج منه حتى أضعفه، فسقط، فبلغ ذلك ابن زياد ، فقيل : إنه لما بهِ لا نأمن أن يموت. فأمر بإنزاله وغسله تفادياً للفضيحة .
وبعد اغتسال ابن مفرغ قال :
يَغسل الماءُ ما فعلتَ بي، وقولي راسخٌ منك في العظامِ البوالي
فردّه عبيدالله إلى الحبس . لقد كان ابن المفرغ الحميري يعرف عدوه . وظل يُنقل من سجن إلى آخر. وكان ابن المفرّغ يكتب شعره على حيطان السجن هاجياً عبّاد. فيجبره سجانوه على محو ماكتبه على الحيطان بأظافره، فصار يمحو بأظافره ويحكّـه حتى ذهبت أظافره، ثم يجبرونه على مواصلة ذلك، فيمحو بعظام أصابعه والدم يطفر في الحيطان .

3

مَنْ يعرف العسفَ الذي تعرض له الشاعر في ذلك الوقت، ويذهب إلى المقارنة بما حدث لشعراء أزمنة عربية لاحقة، سوف تصيبه تصيبه الخيبة، فألأمر لم يتغير، ولم يتوصل عربُنا إلى موقف ونظرة حضاريتين وحس إنساني لمعنى أن يكون الشاعر دوماً في المكان الأخر (المختلف المخالف غالباَ) لأي سلطة وسلطان، وهو معنى يضاهي القدر، ربما لا تستطيع بعض السلطات فهمه أوتفسيره، لكن قدرها أن تقبله فحسب . فهذه هي المسافة الجهنمية التي يروق للشاعر أن يحتفظ بها بينه وبين السلطة، أياً كانت طبيعة هذه السلطة.

4

أسأل صديقي الشاعر، الذي وُضِعَ في عربة وطِيفَ به في شوارع مدينته وأزقتها، بالأغلال، ليراه الناس مقيداً، في طقسٍ شاذ وغريب ولا إنساني، إلى حد أنه لم يجد فيه السجانون أنفسهم تفسيراً لهذه الواقعة حتى الآن. أسأله عن تقديره للهدف مما فعلوه وتأثيره عليه، فلا أجد سوى ابتسامة شاحبة حزينة، تنم عن ذاكرة متوقدة . وربما سمعته يقول بصمته العميق : " لقد كان ابن المفرّغ الحميري أكثر حرية مني ".

ويوماً بعد يوم أنزع الى الظن، بأنه ربما اكتفى بموهبة الذاكرة لمجابهة معاناته، معتقداً أن عدم النسيان هذا، هو ضربٌ من مقاومة الفعل والفاعل معاً، بالشكل الذي يليق بسلطة مدجَّجة وشاعر من أضعف خلق الله قاطبة. فالذاكرة تعني أن خطيئة من هذا النوع لا يقوى الشخص على غفرانها، ناهيك بنسيانها، وإذا كان هذا الشخص شاعراً، فان الأمر يبدو أكثر تعقيداً ، كمن يعمل على تحصين نفسه بتأجيج الذاكرة .

ترى هل يحلم شاعرنا أن يأتي زمانٌ يعاد فيه النظر في ذلك الإشهار المهين والمذل لكرامة الانسان ؟ أخشى أن يطول مثل هذا الإنتظار . فالذي يحدث في بلاد العرب من المهانات كثير ولا يحصى، وهي مهانات تطال الناس جميعاً ولا توفر الشعراء، إذا هي لم تنتخبهم انتخاباً.*

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى