البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

تسعة أصدقاء و حبيبة واحدة

1

هذه شرفة، أطفالها كثيرون، يتقاطر حولها الليل، وهي ترفل في ستائرها. تلامس أحجاراً صقلها نحاةٌ يسهرون على الجسد وكلامه. أحجارٌ بلورية تنثال من الحناجر لتتضرع تحت الشرفة. تتطاير وهي تزيح ستائر الإنتظار، بلمعة الوله في أحداقها. وهي ترنو إلى أطفالها يقصفون الطرقات بأقدامهم النزقة كأنهم في يقظة الجنون.

في مثل هذه الشرفة ألمح الوقت يعبر مثل برق ولا أكاد أمسك به. وحيداً أقف مستوحشاً ، لعلني أسمع الكلمة التي تنعش جمراً يوشك على الرماد. لغتي مبذولة للقناديل المغدورة في الجسد. قيل إنه جسدي، وقيل إنه تركة أسلافٍ طغوا حتى حدود البحر، أسلافٌ ادَّخروا إرثاً يحبس الدمَ في الجسد. وأنا وحدي ، مثل دمٍ أرهقته دورة الأوردة، يندلع في نار الجسد . أضع للغابة شريعتها لئلا تغفر الأعياد الكئيبة لمخلوقات تهرم في أول النهار، مخلوقات تتبادلها حالات الموت والحياة، تتقمص المبارزات فتنتابها شهوة النحيب وأنين الأغصان وهي تشتبك . اشتبكتُ . جسدٌ يتقمّص جسداً ويتشظى بفعل الشبق العريق. شعوب تجلس بين أشلاء الأمل وكلام الأحجار.

مرةً وقفَ شخصٌ .
وضعَ كوفيته الحائلة اللون في شكل دوائر حول رقبته، ومنح خاصرته اتكائة اليدين وأطلق الكلام :
مثل حلزونات البرك ، عليكم أن تتراجعوا عن هواء الحديقة. وسرعان ما شرقت حنجرته بكلاماته، وتشاكلت حلقات الكوفية في الرقبة للشنق.

شَـدَّ أحدهم ستارةً تلثم حافة الطريق . مَنْ هذا الذي يتكلم كثيراً ولا يسمع. لم يسمعني أحد، ولم أسمع نأمةً ، فطويتُ صباح الليل الأخير، لكي أمحو بكاءً يكمنُ ونواحاً يتدفق في الأسئلة . شعوبٌ تجلس على سرير الصبّار وتصبر.

مثلها، بكيتُ البكاءَ كله،
مثلها مغدورة ، ثاكلة، ترى الى أطفالها وهم يذهبون الى الجَـزْرِ بالنصال ذاتها، أو يصابون بالمنافي لئلا يصابون بالجُـب . أعلى من شهيق العاشق وأكثر رهافة من الوله. ترى إلى أطفالها في حسرة الليل ونهايات الأمل. أطفال، وعدتهم العاصفة بالنبيذ فأصابهم الرمل والريح.
مثلها ، مثلهم ، بكيتُ البكاء كله.

2

لماذا أكتب !!
ربما لأنني لا أحسنُ شيئاً آخر.
لا أجد شيئاً أحبُ أن أقوم به ( حقاً ) سوى الكتابة. كل الأشياء الأخرى مضجرة وتُضاعِفُ يأسي. يوماً بعد يوم يصير العالم المحيط عدائياً أكثر، لأسباب لا تحصى. عندما أكتب أشعر بحصانتي ضد هذا العالم ، أصير قوياً وقادراً على المجابهات، أمتلك أسلحتي التي لا تخذل، ولا أعود أكترث بأحد أو بشيء. ليست لدي أوهام تتصل بتغيير الواقع عن طريق الكتابة . الكتابة لا تغيّر، وإلا كان عالمنا قد أصبح فردوساً منذ آلاف السنين. على العكس، بنظرة واحدة نستطيع أن نكتشف مقدار البشاعة والظلم والوحشية التي يتدهور إليها الواقع والإنسان معاً، ثمة أحداث تجري تؤكد أن الإنسان لا يتغير. الطيب والشرير والجميل والقبيح، إذا ولدوا بهذه الصفة يواصلون ذلك حتى الموت. الإنسان الأول لا يزال يتحكم فينا.
الكتابة لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المجال.
بالنسبة لي ، الكتابة شأن ذاتي قادر على حمايتي من هذا التدهور، فالكتابة قلعتي.

حاولت (بوسائل غير الكتابة) تغيير الواقع ففشلت. ربما أكون من بين أكبر الفاشلين وأجملهم يأساً. ومادمتُ قد فشلت في تغيير الواقع فلن أسمح له ، على الأقل، أن يغيرني على هواه. زاهدٌ في كل شيء، لا تغريني سوى الحرية، لا تستعبدني طموحات الآخرين. لا أملك شيئاً ولا يمتلكني شيء، لكن الكتابة امتيازٌ يحسدنا عليه الملوك.

أكتب لأنني لستُ ملكاً ولا عبداً.
مثل ملائكة ملطخة بالأخطاء، و نمعن في الخطايا، في عالم متخم بمزاعم الصواب والكمال . وبعد تجارب الذين نادوا بتغيير العالم وتحويل الحياة، أعتقد أنه ينبغي أن نترك كل شيئ على سجيته،

ونكفّ عن الإدعاء بأننا نقدر على تغيير حجر في هذا الكوكب.

لهذا كله ( فقط ) أكتب.
وهو سبب يروق لي حتى الآن .
ومادامت كتابتي تعجب تسعة أصدقاء وحبيبة واحدة ،
فهذا جميل وجدير ويكفي. *

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى