البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

كلماتٌ قليلة في نهارٍ كامل

1

عن الروائي الأيرلندي "جيمس جويس " هذه الحكاية الصغيرة، فبعد أن عمل طوال نهار كامل ، خرج إلى المقهى المجاور لبيته فالتقى بصديق له، سأله :
الصديق : كم من الوقت اشتغلت ؟
جويس : اشتغلت طوال النهار وقد تعبت كثيراً.
الصديق : هل كتبت كثيراً من السطور ؟
جويس : لا .. أربعة سطور فقط.
الصديق : إذاً ، لقد اخترت كلمات رائعة.
جويس : لا .. اخترت كلمات عادية.
الصديق : إذاً ، ماذا فعلت طوال الوقت ؟
جويس : اشتغلتُ بالنسق الذي أردتُ وضعها فيه ".

2

هذه الإشارة الذكية النادرة، تريد أن تكشف جانباً من سر النظام الذي يعمل على أساسه الكاتب. فالجمال في النص الأدبي سوف يكمن دائماً في ذلك النظام الجديد الذي يقترحه علينا النص في كل مرة يكتب فيها، ذلك النظام الذي يتصل ، ليس بالكلمات من حيث هي كلمات منجزة في ذاكرة القاموس أو الإنسان، ولكنه نظام يتصل بالعلاقات الجديدة بين تلك الكلمات، بحيث يتشكل، ضمن النظام اللغوي الجديد، نسقٌ لم تألفه الكلمات ذاتُها، الأمر الذي يجعلها كلمات تولد تواً. وكلما تسنى للكاتب أن يخلق المزيد من ذلك النسق المبتكر، أتيح للنص أن يبدو أكثر جمالاً وإدهاشاً بوصفه الشكل الجديد للمعنى. حيث الشكل هو سر المعنى الذي تبتكره الموهبة. وربما كانت الشعرية (والأدبية عموماً) تتمثل في هذا الجانب من النص. وإذا تخيلنا كاتباً مثل "جيمس جويس "، الروائي الذي كتب (عوليس) في مئات الصفحات، وهو يشتغل على رواياته سطراً سطراً، بهذا الدأب والحساسية، كيف لنا أن نتصور شاعراً يصوغ لنا قصيدته الجديدة، دون أن يعتني بالنسق الخاص لكلماته ؟ إن في هذا استهانة لا تليق بالشعر، ونتوقع من الشاعر دوماً أن يكون على درجة عالية من الحساسية، بحيث تتيح له موهبته أن يشتغل على نظامه اللغوي بصورة شعرية مبتكرة.

وربما كان الفرق بين الكلام والكتابة يكمن في هذا السر الصغير الذي أشار إليه جويس، فعندما تضع أمامك جملة مشحونة بالكلمات المألوفة، ستعبر عن شيئ ما يوازي دواخلك، لكنك إذا جعلت هذه الكلمات المألوفة تأتي بضرب من العلاقات الجديدة، غير المألوفة، سوف تحقق ذاتك بقدر كبير من الصدق والخصوصية من جهة، ومن جهة أخرى ستقترح على القارئ شكلاً جديداً من الصور، وتدفعه لتشغيل أدوات خياله إلى الحد الذي يرى في نصك آفاقاً تمنحه المتعة التي لا يصادفها في تلك الكلمات في حياته اليومية العابرة. الكاتب إذن، لا يخترع الكلمات. إنه ينسج علاقات جديدة لتلك الكلمات، وهذا ليس شأناً متاحاً للجميع ، لجميع الكتاب خصوصاً، إذا هم لم يأخذوا هذا الأمر مأخذ الجدية والتأمل.

3

ينتابني قلقٌ عظيم كلما شرعت في قراءة نص جديد لأحد الشعراء الشبان، الذين يقترحون علينا تجاربهم الغنية بالطموح . قلقٌ في حالة نجاحها وهي تصوغ نسقها الجديد، وقلقٌ في حالة الإخفاق الذي تتعرض له معظم هذه التجارب. ففي حالة مقارباتها للنجاح، أشعر أن ثمة تجربة جديدة يشير أليها هذا النص أوذاك، عندها ينتابني الحماس للمستقبل الغامض الذي تشير إليه تلك التجربة، وأذهب إلى النص التالي مطمئناً للشاعر وخائفاً عليه في آن. فالقلق ، في هذه الحالة، سوف ينتج عن شكي الكبير في قراء يأتون إلى هذه التجارب مدججين بمسبقياتهم الجاهزة، ليحاكموا النص لا ليكتشفوه. فبين المحاكمة والإكتشاف مسافة تضاهي الفجوة بين الحلم والكابوس. وبالطبع لن يكون بوسعي أن أفعل شيئاً لكي أبعث الطمأنينة في روح صاحب النص، إنني فقط سوف أشفق عليه من مشاعر الإحباط، إن كان من الذين يعولون كثيراً على قارئ عابر. وليست شفقتي هذه غير أضعف الإيمان، لكنه الأقوى إذا كان صاحب النص قادراً على تفادي قوانين العسف التي ستظل تتحكم في المنظور السائد. وسوف يكون الأمر أكثر تعقيداً إذا صادف أن صاحب النص من الذين ما زالوا يخضعون لأوهام الجمهور. وسوف يخسر كثيراً تلك المتعة النادرة التي تحققت له أثناء الكتابة، فيما كان يصوغ النسق اللغوي الخاص، مقترحاً نظاماً جمالياً جديداً لنصه. ترى لماذا يكون عرضة للإحباط عندما يصادف قارئاً يتعثّر أمام كتابته، أليس في كل جديد ما يثير دهشة الآخر ويستثير إيمانه بالمسلمات السابقة؟

4

سيتطلب الأمر قدراً كبيراً من الجرأة ، وقدراً أكبر من التردد والخوف أحياناً، قبل أن يجد المرء نفسه مستعداً لتوقع شاعر يخرج من هذا الكتاب أو ذاك. فطباعة كتاب موسوم بالشعر ليس كافياً لأن يزعم صاحبه أن ذلك صحيحاً. ولكوني أحد أشهر الجبناء (الذين يعلنون عكسَ ذلك)، سوف أحتاج للأساطير تجترح لي الشجاعة لكي أعتبر الكتب التي بين يدي شعراً ، ناهيك عن إعلان ذلك على مَلأً لا يأتون إلى القراءة إلا وهم في ترسانة كاملة من الأسلحة وأوشحة القضاة. إن الحدود التي تفصل بين العمل الشعري والعمل غير الشعري متقلبة ومتغيرة أكثر من الحدود الإدارية لأقاليم الصين. فقد كان " نوفاليس" و"مالارميه" يريان في الأبجدية أكبر عمل شعري. وكان الشاعر الروسي "فيتامسكي" يعجب بالخصائص الشعرية للائحة الخمور. وكان "غوغول" معجباً بلائحة ثياب القيصر. و"باسترناك" كان يرى في


دليل السكك الحديدية شيئآً من الشعرية. وأذكر أن أحد الشعراء خرج إلى الشارع يطلق الرصاص من مسدسه في الشارع معلناً أنها آخر ما أبدع من قصائد. غير إن الشعر يكمن في مكان آخر غير هذا كله، على كل شاعر أن يكتشفه وحيداً.*

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى