البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

ثلاثونَ موتاً، مطرٌ واحدٌ، ومحتملان

1

أذكر صديقاً ، كلما هطل مطرٌ ، جاء يدقّ بقبضته جدار غرفتي صارخاً :
" أخرجْ، لقد جاءَ المطر، وعلينا أن نقرأ أنشودة السياب".

فأخرجُ معه ، دائماً كنتُ أخرجُ ، ليأخذني بسيارته ونقف على ساحل البحر والمطر يغسل كل شيئ، يفتح ديوان "أنشودة المطر" ويطلب مني أن أقرأ، فيما هو يحتقن. هكذا كل شتاء. صديق مثل هذا ، يقرأ المطر بدموع السياب، لن يغفر لي سهواً ولا غفلة عن الشعر، معبراً عن اعجابه الشتائي بالسياب، متوغلاً معي في تحولات الفصول منذ الدرس الأول . ذلك الدرس الذي صاغ اتصال جيلنا بالشعر بوصفه مطر الحياة على يباس الأرض.

يوشك الإرتباط الخرافي بين السياب والمطر أن يصبح أحد معالم الثقافة العربية المعاصرة. ليس لأن " أنشودة المطر "، خصوصاً، هي واحدة من أهم التجارب الشعرية العربية المؤسسة فحسب، ولكن لأن الهيام الوجودي بالمطر لدي السياب يشكل المفارقة الحياتية التي صاغت تجربة السياب الرؤيوية. فهو الشاعر العربي الذي ماتَ لفرط المرض والعوز بالمعنى المادي للكلمة، مات وهو يصوغ شعراً. فتح ، لأكثر من جيل ،الأفق للشعري العربي برحابة نهر لا ينضب. وهنا تكمن طاقة الرؤيا التي سيصدر عنها السياب ذاهباً نحو قدره المأساوي . ذهب ، غير محسود على الموت.

2

" أتعرفين أي حزنٍ يبعث المطر .."

ويطلق صديقي تنهيدة ادخرها طوال الصيف، لكي يفصح عنها تحت مطر السياب. أتساءل أحياناً، لفرط الحرائق التي يلهبني بها صديق مثل هذا، ما إذا كان بمقدور الإنسان أن يحمل هذا القدر من الألم، ويكون مستعداً لأن يتطوع بإستعادتها، كمن يستحضر أحلامه المغدورة. لكن السياب كان يذهب إلى أبعد مما يتعثر به صديقي بين مطر وآخر. لقد كان يختزل الحزن الإنساني كله في كلمات. وكان علينا أن ننتظر سنوات لنحيط بتجربة السياب صاعداً بعذابه الجسدي والروحي وهو يجابه الواقع . علينا التخبط في محتملَين أمام تجربة السياب التي لا تزال متاحة للدرس والتأمل كأنها تحدث الآن. محتملان، كان السياب يقترحهما على مستقبلنا الشعري العربي.

الأول : الخضوع لوهم الواقع بإعتباره التفسير الوحيد للشعر، وبالتالي الإمتثال لكل ما تطرحه علينا تنظيرات النقد الأدبي الذي لم يكن يرى إلى الأدب إلا انعكاساً للحدث العام. وهذا الإحتمال هو الأبرز والأكثر شيوعاً حيث يتعرض السياب لآلته الجهنمية، ويصبح وردة الضحايا لتلك المرحلة.
الثاني، هو الإيمان بطاقة المخيلة بوصفها جوهرة المراصد التي تأخذ الشاعر والشعر والقارئ نحو أفق يصدر عن الأعماق ، حيث الصدق الصراح. وهو احتمال اقترحته (من بين تجارب شعرية نادرة) تجربة السياب في الجانب المكبوت فيها والمسكوت عنه نقدياً أكثر الأوقات. فمعظم النقد الذي احتفى بالسياب انحاز لشائع الإحتمال الأول، لكونه يلبي متطلبات تلك اللحظة. لكن مايبقي من تجربة السياب الرؤيوية هو ما سوف يتصل دوماً بالإحتمال الآخر، الذي تتأكد لنا الآن قدرته على سبر الروح واكتشاف الجسد وتحرير الجمال على الجانبين، حيث يكون الشعر هو الحلم بإعتباره كشف الواقع وفضيحته ومجابهة الحياة فيه.

3

الصديق يطرق جدار الغرفة صارخاً بي ، كمن ينهر جرحاً متماثلاً للنوم : "أخرجْ . المطر في الخارج ، تعال لنقرأ السياب تحت سقفه الأثير، المطر".

هكذا في كل مطر، يترك كل مشاغله ويأتي لكي يسمع الشعر. قلت لصديقي ذات ليلة : "هل تعرف أن السياب ماتَ بعيداً عن بيته وأهله ووطنه؟" فاستنفر، كمن يريد أن يغفل عن الموت: " لا تصدقْ ، إن الشاعر لا يموت ". وصرتُ أتيقن بخلود الشاعر كلما أعدت قراءة السياب، وأنحازُ لعذابه ومعاناته ضد واقعٍ كان يحدق به ويستهدف مصادرته بشتى الأشكال. ففي مثل هذه المجابهة ضربٌ من اختبار طاقة الشعر على اختراق الحصارات كلها، مبتكراً الوقت والمكان. ويوماً بعد يوم تعلمتُ من السياب، في أجمل شعره، أن الشعر هو ماتكتبه وليس ما يكتبك. بمعنى أن الشعر هو مايصدر عن ذاتك (+ العالم) وليس ما يصدر عن العالم (+ ذاتك). فعندما أتمعن في تجربة السياب أشعر بأن بؤرة عذاباته الروحية تكمن في صراعه المأساوي بين ما يحب
(ويحلم) أن يكتبه، وبين ما يسعى (الواقع) إلى فرضه لكي يقوله عنه، وهذا ما أوقع السياب (كإنسان) في الملابسات التي جعلته ضحية المهانات والعذاب في حياته. ففيما كان يكتشف تفجرات الشعر من جهة، وينغمس متورطاًَ في تفجرات الروح والجسد من جهة أخرى، كان الشاعر فيه يبرأُ من الحياة متطهراً بالتجربة. وقد أتاح له كل ذلك أن يعرف كيف تضيع الجموع في تيه الوهم، وكيف يضرب الجفاف روح الإنسان شوقاً إلى أنشودة المطر، ويعرف "كيف يشعر الوحيدُ فيه بالضياع ". وها نحن نتأكد ، يوماً بعد يوم، كم كان بدر شاكر السياب وحيداً . وكأننا لسنا وحدنا في هذه الوحدة.

4

"أرسلُ إليكَ رفقة هذه الرسالة قصيدة لي بعنوان " أنشودة المطر"، وأتمنى أن تنال رضاك وأن تكون صالحة للنشر في (الآداب). إني لخجول جداً من أن قصيدتي هذه ستشغل في مجلة (الآداب) حيزاً قد يكون من الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتي وأجدى "(من رسائل السياب).

أولاً ، ترى هل كان السياب يدرك أن قصيدته، التي يقدمها الى "سهيل ادريس" بتواضع المبدع ورهافة الشاعر ، سوف تكون حجر أساس في تجديد تجربة الشعر العربي المعاصر كله، وعلامة من علامات انعطافته الحاسمة؟

وثانياً، كيف يتسنى لنا العثور ، الآن ، على شاعر يقدم قصيدته بمثل هذا التواضع . ونحن نرقب الذين يكتبون محاولاتهم الأولى (ليسوا شعراء كما كان السياب، ولا أقل أيضاً) يمعنون تيهاً وغروراً وغطرسة، مما يدفعنا إلي الخجل مما يحدث؟

الحقيقة أن الدرس الذي تقترحه علينا تجربة السياب، من الغنى والخصوبة بحيث يمكن أن يتحول إلى ضوء يكشف الواقع الشعري العربي الراهن، إن كان على صعيد تواضع المبدع أو جدية الأديب أو ضرورة حرية الشاعر الكاملة في مجابهة دوره الإبداعي . وإذا كان السياب قد صودر في بعض هذه الشروط، فإنه كان نموذجاً جميلاً في بعضها الآخر. وما علينا إلا أن نتأمل ما حولنا لكي ندرك مقدار التضحيات التي نالت من روحه وجسده في سبيل أن يحصل على أيام إضافية نادرة من الحياة .

5

" أحس بأجراس خافتة، أجراس مطر وزهر، تقرع في نفسي، مبشرة بميلاد قصيدة .. هذه الليلة أو غداً. سيكون ميلادها نعمة تنزلها السماء عليّ ". (من رسائل السياب).
في غمرة عذاباته كان الشعر يأتيه مثل البلسم. وفيما كان جسده يتآكل بفعل الجراح (الناغرة الفاغرة) كما يصفها في أحدي رسائله. كان انهماكه في كتابة الشعر هو الملجأ الرحيم الذي يخفّف عنه تلك الأوجاع.

والآن، بعد ثلاثين عاماً من ذهابه، لماذا لا نجد مفراً من شعور الخسارة ونحن نستعيد تجربته الإبداعية. ولماذا تظل تجربة الروح والجسد عند السياب، مدخلاً متاحاً دوماً للإحاطة بتجربته الشعرية وكُنْه العذاب الذي عاشه وتعدد دلالاته؟

ليس ثمة جواب لدينا. على العكس، فإن أسئلة لا تحصى يمكن أن نصادفها ونحن نتوغل، مع الوقت، في معالم حياة السياب وملامح إبداعه الشعري. وما أن نسمع أو نقرأ شاعراً يذكر المطر في قصيدته حتى يحضر السياب ليضعنا في ارتباكة المقاربات، كما لو أن تلك الأنشودة قد وضعت حداً يُقاسُ عليه كل ما سيُكتب عن المطر بعد ذلك.. ولكأننا لم نكن نحسن اكتشاف المطر قبل السياب ، ولكأن السياب قد منح الخلود والمجد للمطر منذ أن كتب أنشودته. وحين تنفجر المفارقات ساعة موته، مثلما تفجّرت طوال حياته، فسوف يشارك في تشييع جثمانه، ذاتَ صباح ممطر، عددٌ قليل من أهله وأبناء قريته الجنوبية (جيكور)، ومن بينهم صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي، الذي نقل الجثمان من المستشفى الأميري في الكويت إلى جيكور في العراق. لقد كان الشتاء يبكي شاعراً مات غريباً على الخليج ، وغريباً عنه أيضاً. كما لو أن الطبيعة أرادتْ أن تعبّر للشاعر عن محبة وتقدير لم يحصل عليهما من البشر في حياته .

6

بعد ثلاثين موتاً ، كيف لنا أن نقرأ درس السياب . كيف نقرأ فيه الدم والشعر و المطر، ونستفيق على صوته الشاحب وهو يفتح الأفق لنهر الشعر العربي الحديث ، ونسمع الصدى كأنه النشيج : "يا خليج ، يا واهبَ المحارَ والردى ".

فإذا جاء ذلك الصديق ثانية يطرق جدار غرفتي، لكي نستعيد معاً ذلك الصدى ، يمكن أن أقول له :
"أنظر إلى الشاعر الآن، أنظر إليه، يعبر موتاً بعد موت، دون أن يسفر كل هذا الليل عن ... بدرٍ واحد ، حيث الظلام هو سيد الوقت والمكان ".

بعد ثلاثين موتاً ، منذ أن غاب السياب بعيداً عن بيته ، لا يزال الشاعر العربي يموت .. ولا بيت له، غير الغربة والوحدة واليأس، فيما يرقب أحلامه مهدورةً مغدورةً وقبضَ الريح.

بعد ثلاثين موتاً ، ماذا ينبغي أن يقال ، وأكثر من مبدع يذهب إلى الموت نحراً أو انتحاراً. سنقول : طوبى لمن يرى إلى السياب في موته، ويقرؤه قليلاً من الشعر تحت المطر.

لقد ذهب بدر شاكر السياب غير محسودٍ على الموت ، ولَسْنا ... على الحياة. *

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى