يوميات السجن العادي

(1)

لسنا قضاة كي نكافئ بعضنا بالغض عن موت وشيك،
ليس في حسباننا أن نستعير حجارة من منجم الأعداء
..لسنا

(2)

كلما متنا قليلا بالغ السجان في نسياننا
..وتكاسرت سفن معبأة على الميناء

(3)

:سمعت الروائي عبدالرحمن منيف ذات لقاء يقول كلمة مست الشغاف مني قال
الشيء الذي يتسع ويكبر في حياتنا هو السجن
ربما لأنني من بين كثيرين يتفاقم لديهم شعور كهذا . كما لو أن الواقع يبالغ في احكام تخومه حولنا. فشعور السجن حين يتجسد في حياة الإنسان اليومية سوف يمارس الفعل الجحيمي الذي لا تضاهيه الجدران المادية . الواقع العربي لا يكف عن دفع الإنسان إلى شعور مضاعف بالحصار. حصار يمنع الحلم . إن اتساع السجن الذي يشير إلىه منيف يتحقق على أكبادنا بصورة تجعلنا نفقد لذة اليأس التي كنا نباهي بها طوال الوقت

(4)

للسجن صور لا متناهية. أذكر (ذات نزانة) ، وقف السجان يتأمل خلف الكوة : ؛هل تعرف ماذا يجري في الخارج؟ قلت له : ؛أليست الحرية هناك؟ فتهدج صوته : ؛لا، الحرية ليست موجودة في مكان. ليست موجودة أبدا . لم أشعر بالعجز والهزيمة مثلما أشعر بها هذه اللحظة. لا حرية لنا في أي مكان. أخبرونا أن اسرائيل عدوتنا أنظر الآن ماذا يحدث لنا. لم أفهم ما يقصده. ولفرط عذابه المكبوت لاحظت دمعا شفيفا يحتقن في عينيه. عليك أن تتخيل سجانا يكاد أن يبكي في حضرة سجينه قال ؛أعتقد أن سجني أكبر من سجنك بصورة ما. لقد حارب والدي مع الجيش المصري ضد اسرائيل. وها هو (السادات) يصل فجأة إلى اسرائيل. تركنا جميعا في سجننا الكبير وذهب إليهم، يحمل معه مفتاح السجن لكي يسلمه للآخرين. أنت محظوظ لأنك (خارج) سجننا باغتني السجان الجريح بموقف فادح. لقد أصبح السجانون يحسدون سجنائهم لكونهم (خارج الحرية). عرفت لحظتها بأن للسجن أشكالا لا تحصى فعندما تكون في حالة من العجز كهذه ، فإن شعور السجن تكون مضاعفة

(5)

ثمة صورة وصفية يمكن أن تختصر حالنا. هي من الوحشية، كما لو أن القاتل أكثر براءة من القضاة. غير أننا لم نقتل أحدا ، ولم يكترث أحد لكوننا لم نتجاوز مرحلة الذهول الأول
أدين القاتل وحكم عليه بالعقاب العلني تكفيرا عن ذنبه ( …) فاقتيد إلى حيث حملته عربة يجرها حصان، لا يرتدي سوى ملابسه الداخلية، حاملا في يده اليسرى شعلة من الشمع المحترق زنتها رطلان، وفي ساحة (دي جريف) حيث انتهت الرحلة، أقتيد القاتل إلى مشنقة نصبت له، وأنتزع لحم صدره وذراعيه وفخذيه وربلة ساقيه بكلابات محماة بالنار، وكانت يده اليمنى تحمل السكين التي ارتكب به جرمه، محرقة بالكبريت هي والأماكن التي نزع منها اللحم من جسده، حيث صبوا الرصاص المنصهر والزيت المغلي الممزوج بالكبريت والشمع المشتعل، وسحب جسد القاتل على الأرض بعد ذلك، لتربط أطرافه الأربعة إلى أربعة من الخيل انطلقت ممزقة الجسد، وألقوا بما تبقى من الجسد في النيران، وأخذوا ما تخلف عنه من رماد وذروه في الريح

(6)

السلطة العربية (أخلاقيا ) تجسد الآن هذه الصورة ببرودة الجزار. وسوف يأخذ هذا الفعل أشكالا سياسية غاية في التنكيل. فليس من الضرورة أن يكون السجن وتجلياته ممثلا في زنزانة وجدران وحراس معرضين للعجز والخذلان السجن يمكن

.أن يأتي إليك أينما كنت والمسافة (الحضارية) بين تلك الصورة الواقعية التي استحضرها فوكو من فرنسا القرن الثامن عشر، وبين لحظتنا الراهنة يمكن أن نقاس بما ينتابنا من الشعور بالوحشية التي يتميز الواقع

ترى من يستطيع الزعم بأن لدينا القدرة على الإعتراض على ما يحدث الآن، بوصفه عذابا فوق طاقة البشر؟ أليس هذا ضرب من السجن الشديد الوطأة على كائنات ضعيفة لا تقوى على الإعتراض على شكل موتها الماثل ؟

(7)

ننهض كل صباح، متوهمين أننا نخرج من النوم. نقف أمام المرآة نلقي نظرة على هندامنا (قبل الذهاب إلى لا مكان) فنرى جثثنا مربوطة في الأحصنة الوحشية تمزق أعضاء الفكر والجسد . فنطمئن بأننا لا نزال (أحياء) مستعدين ليوم جديد من الفتك العادي السجن حالتنا الطبيعية، ونضاهي بأننا لا نزال هنا في سجن على قياسنا ويزيد قليلا دون أن يفوتنا الشعور ببعض الندم على كوننا لم نمت بعد

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى