الحداثة، السؤال الاجتماعي

في ندوة جريدة (الوطن) قبل بعض الوقت. قال صديق (مستدركاً) :
(دعونا كشعراء لا كمفكرين، قولوا لنا عن الشعر عن حداثة الشعر ). لكن كيف. أين يبدأ الشاعر، أين يقف المفكر ؟! كيف يمكن ذلك هل ثمة حدود بين المفكر والشاعر ؟! لكن قبل ذلك هل يصير الشاعر (والشعر) كذلك من غير أن يصهره جحيم المفكر !! وأيضاً، من يقبل الشاعر (في هذا العصر، هذا المجتمع) بريئاً من الفكر ؟!
لقد طاردتني (استدراكة) هذا الصديق دون هوادة. شعرت (ليس به) كمن يود تجريدي من طبيعتي التي قاتلت تاريخي كله لكي امتلكها : التفكير، بالنسبة لي، هو قبل الشعر وبعده. ومن غيره لا أجد فيما أكتب أفقاً جديراً بي جدير به. قال : (قولوا عن الشعر) كان علينا أن نتحدث عن تجاربنا. امتحان آخر شرك مفتوح. من غير الشاعر يمتلك موهبة إفساد الشعر (شعره خاصة) عندما يتصدى لشرحه وتفسيره ؟! لذلك قلت عن تجربتي مثل طفل يتعلم الكلام بينما يشرح علم الفضاء ماذا فعلت بنفسك! ها أنت مجرد من الفكر، ولست شاعراً وتليق بك الندامة.

قال : (قولوا عن الحداثة) الحداثة ؟! وبعيداً عن الفكر ؟! كيف يمكن ذلك ! أية حداثة يمكن الكلام عنها في لحظة يتعرض فيها تفكير الشاعر للمصادرة؟. أعرف، لم يقصد هذا، ذلك الصديق. لكن اللاوعي التاريخي هو الذي يتحكم في ردود فعلنا ومنظوراتنا أما أن تكون مفكراً أو شاعراً. في تراثنا (المبجل) ليس مقبولاً من الشاعر أن يبدو في لحظة تفكير. التفكير ضرب من العمل. الشعر عن العرب، يقف خارج (في هامش) العمل. سلطة الموروث تصادر حرية الشاعر في (المجتمع) وما أن يكون التفكير ضرباً من العمل والمجتمع هاجساً (فكرياً) في تكوين الشاعر، حتى يصبح الشعر خطراً على سلطة الموروث. كل هذا لم يكن يقصده ذلك الصديق. أعرف هذا (تبدو كمن يبالغ في الافتراض) ماذا يفعل من لدغته الثعابين كلها، ولم يعد يأمن لأي حبل كان ؟!. كيف الكلام عن الحداثة في مثل مجتمعنا، وبعيداً عن التفكير ؟! إن هذا لا يستقيم لا مع حداثة الشعر، ولا مع حداثة المجتمع. وكلاهما موضع شك وتساؤل عندنا.

في لحظتنا الاجتماعية / التاريخية تستمد التجربة الشعرية حداثتها من قدرتها على سبر الواقع ومعالجته بأدوات الفكر. والحديث أيضاً ليس ممكناً (في اجتهادي) الانتقال مباشرة إلى الكلام عن الحداثة كمفهوم فني نظري مطلق، بمعزل عن المجتمع، أو قبل المجتمع. لست ضد الكلام عن الحداثة بكافة التفاصيل المتعلقة بمفاهيم التجديد وغيرها. لست ضد مناقشة تجربة الحداثة بعلاقاتها الغربية وعناصرها العربية. لست ضد الحوار في كافة الشروط الفنية التي تتطلبها أو تقترحها الحداثة الشعرية العربية. هذا كله وارد وممكن ومحتمل وجميل أيضاً، لكن ليس قبل النظر إلى اللحظة الاجتماعية التي نعيشها. لماذا تبدو الإشارة إلى الشرط الاجتماعي عملاً فكرياً بعيداً عن الشعر والفن ؟ لماذا دوماً في عجلة من أمرنا، نركض للكلام عن الفن في الشعر متجاوزين القضية الاجتماعية، أو مختصرينها في جمل قصيرة (غالباً ما تكون مدعية وغير جادة ومرتجلة) ألا يعتبر ذلك سلوكاً يدفع الشاعر (والأديب عامة) إلى عادة الاستهانة بالسؤال الاجتماعي. محرومون من فسحة الحوار، فإذا أتيحت لنا في لحظة ما في مكان ما، لا تفسدوا علينا متعة البوح، حيث البوح أول التأمل.

الحداثة طريقة حياة، قبل أن تكون طريقة كتابة، من هنا أرى أنها شأن اجتماعي بالدرجة الأولى، وفي المجتمع العربي تتخذ هذه المسألة خصوصية تاريخية ينبغي تأملها. والاحتفاء بالبعد الاجتماعي لا يقلل من البعد الفني، ولكنه يغنيه ويسهم في توضيحه ومنحه الحس التاريخي، اكتشافاً وكشفاً، وعلينا أن نفتح المجال بما يكفي لأن نرى إلى الواقع بأدوات النظر حديثة، لأن مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يهيئ المناخ الموضوعي عندما يبدأ الكلام والحوار عن الحداثة في الشعر والفن. ولعل من أهمل عناصر الحداثة الآن أن يمتلك الشاعر قدرته على تشغيل الفكر بأدوات النظر العلمي الحديث فكيف أقدر على تجاوز الهاجس الاجتماعي فيما أتصدى لحمل عبء تغيير هذا الواقع، أو أزعم ذلك على الأقل ؟!*

الأحد 20 يوليو 1986

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى