يحتال، يشحذ الأسلحة، و لا يهتم

سئل الشاعر : لماذا أنت هكذا، ملطخ باللغة و الرموز و العناصر؟
قال : ألا ترى، إنني أشتغل، أكتب.
قيل له : لكن لماذا تفعل ذلك، لماذا تكتب ؟!
عندها بدأ الشاعر كمن يهتك أسراراً :
أكتب، لأن الكتابة هي حيلتي الوحيدة. إزاء هذا الذي هو كل شيء.
كلنا له حيلته التي يقدر عليها. الرسام حيلته الألوان و اللوحة.
الممثل حيلته التمثيل،
القاتل حيلته الموت
السينمائي حيلته الصورة،
الضفادع حيلتها النقيق،
الليل حيلته الظلام،
المؤمن حيلته الصلاة،
الأشجار حيلتها الخضرة والثمر و كثير من الأخشاب،
شهرزاد حيلتها الحكايات، كل ليلة كانت : حكاية أو قتل،
الشاعر حيلته الحروف و الكلمات / اللغة، و ما لا يقاس من شطح المخيلة.
لذلك فإنني أكتب متمترساً باللغة، إنها سلاحي الوحيد. أحتال به أمام العالم. الموت و اليأس و الألم و الجمال و الحرية و الحب و الناس أيضاً.
وكلما صدّق العالم حيلتي، كلما صارت الكتابة أكثر جمالاً.
الكتابة هي حيلة الكاتب الجميلة، حيلة بشكل ما. و اللغة هي الأداة الوحيدة التي تستجيب، بلا حدود، حيلتي الوحيدة، أنا الذي بلا حول و لا قوة. فبالكلمات وحدها يقدر الكاتب أن يبني العالم و يهدمه، و يصوغ الكون كما يشاء / كما لا يشاء.
عندما يواجه الكاتب سؤال : لماذا تكتب ؟
سيكون بإمكانه أن يستنفر كافة الأساليب ليلعب بالكلمات، و يطرح الأجوبة اللامتناهية في التنوع. كل كاتب سيقول جواباً و ليس صدفة أن يتفق اثنان أو أكثر على جواب واحد. إنها أصول اللعبة / الحيلة. لكن أحدهم لا يعترف إنه يحتال.
لذلك سيصدم هذا الجواب كل مكابر، كاتباً كان أم قارئاً.
الكاتب / لأنه يعتبر الكتابة أحد أسراره المقدسة، التي ينبغي النظر إليها باعتبارها صلاة، فكيف يمكن أن تصير الصلاة حيلة ؟
القارئ / لأنه سيعتبر المسألة إهانة شخصية توجه إلى قدرته العقلية. إنه يرى إلى الكاتب باعتباره شخصاً رزيناً يخاطب قارئاً راشداً. فكيف تصير العلاقة بينهما لعبة تصل إلى درجة الحيلة ؟!
لكنها الحقيقة.
إنني أكتب لكي أحتال على الواقع. و هذه الحيلة تتطلب نوعاً من المهارة، وتستدعي درجة من الموهبة و السحر، لكي تصير إبداعا.
هذه الحيلة إذا نجحت / إذا حققت متعة لدى الآخرين / إذا اخترقت عادة الآخرين /إذا أخرجتهم من سباتهم و أضافت إليهم / إذا انطلت هذه اللعبة على الواقع. فمن المحتمل أن تصير دلالة على قدرة المجابهة.
كل كاتب يواجه قوى محددة بحيلته هذه. منذ الأزل، و الكلمات هي أداة الحيلة الجهنمية التي يعيشها الكاتب. ظل الانسان طوال الوقت يحتال بالكلمات لئلا يموت. لئلا يموت سريعاً على الأقل.
كتاب الموتى، وضعه المصريون القدماء لكي يحتالوا على الموت.
هوميروس كتب (الإلياذة) ليحتال على أساطير الآلهة فصار إلهاً أكثر أهمية منها، و أكثر خلوداً. ربما لأنه أكثر حقيقية منها. و لم يكن يعنيه الملك الذي رغب في تسجيل انتصاراته. كان طموح هوميروس أكبر من الملك. هوميروس كان ملكاً (صار) على الآلهة.
الشاعر (الجاهلي) كتب قصائده لكي يحتال على القبيلة و التاريخ معاً.
القبيلة / لأنها لم تكن قابلة للحياة، في التاريخ، بدون الشاعر.
التاريخ / لأن تاريخ ذلك الزمان هو الشعر. فانتصر الشعر و تلاشت القبائل، (أو كادت).
عنترة العبسي، احتال على كل ذلك، و على حبيبته أيضاً. تمكن من إقناعها، حباً، بأن لونه ليس سبباً كافياً لأن ترفضه. يرفض المجتمع فلا يكترث. كان شجاعاً وفارساً، هذا صحيح، لكن قوته الأكيدة تكمن في شعره. في تلك الحيلة القوية الجميلة، التي انطلت على الجميع. فلولا ذلك الشعر ما كنا تذكرنا حكاية الفارس الأسمر الذي صاغته الروايات حتى كاد يختلط بالأساطير.
المتنبي، كان سيداً في هذا المجال. كانت حيلته من الخطورة بحيث أودت بحياته. وكان كافور يقبل حيلة المتنبي تارة و يرفضها تارة أخرى. و لو أن سيف الدولة تيقّن تماماً أن المتنبي لا يحب أحداً في سوى ذاته، لما انطلت عليه الحيلة. و لكن أبا الطيب كان ساحراً في اللعب، فقد كانت اللغة تصير في يديه سلاحاً أقوى من سيف الدولة، و أقوى من سيوف كل الدول التي عاصرته أيضاً. كانت حيلة المتنبي ترقى إلى حيث يصل الإبداع فيها إلى المدي الذي لا يقبل الشك. و قد صدّقه عصره عندما كتب الهجاء بنفس الدرجة التي بدى فيها المدح صادقاً. أية حيلة يمكن أن تنطلي بهذا الشكل لو لم تكن الكلمات هي أداتها؟ لم يكن المتنبي يحب أحداً سوى نفسه. لكنه احتال على الجميع، و صدّقه الجميع، فيما كان يبدع شعراً جميلاً. فقد كان يقول الكذب بمنتهى الصدق.
أبو حيان التوحيدي، كان يحتال على أبي الوفاء المهندس و عصره، عندما كان يكتب (الإمتاع و المؤانسة)، و كانت واحدة من أجمل حيل التوحيدي. الآن لم يعد أحدٌ يهتم بأبي الوفاء هذا. و حيلة التوحيدي هي الحاضرة باعتبارها إبداعا.
المعري أيضاً احتال على محبسيه بالكتابة. بل أنه احتال على عالم حارب المبصرين فكيف بالعميان. و مازال المعري يتعرض للحرب من جهة، و ينتصر (بحيلته) من جهة.
الآن/ في راهن الكتابة، صارت الحيلة أكثر جمالاً، لأن الأداة تصير أكثر ثراء. توفرت للغة خبرات لا يمكن حصرها أو التكهن بتخومها. و أصبح الشاعر أمام القضايا الأكبر تعقيداً. و كلما تنوعت المواجهات تفجرت مواهب الشاعر في فن الحيلة. أن اللعبة صارت أكثر خطورة بالفعل. حيث أن القوى التي يواجهها الشاعر المعاصر من الرهافة إلى درجة أن أية هفوة يرتكبها كفيلة بأن تأخذه إلى طريق برصيفين : القيد و القبر.
لكن، رغم ذلك فان الشاعر مازال يمعن في ارتكاب الهفوات، ويحلو له ذلك دوماً. يبتكر الحيلة تلو الحيلة. فلا ينجو من نزهة القيد أو فسحة القبر.
الشاعر المعاصر يحتال على الواقع:
- لئلا يتمكن الواقع من تغيير الشاعر.
-ليعمل ( الشاعر) على تهيئة كل ما يجعل الواقع مرشحاً للتغيير.
أمام هذه المعادلة تصير لعبة الشاعر ممتعة، و جديرة بالتجربة.
يدخل الشاعر اللعبة وحيداً، و يبدأ في تأسيس حيلته الجميلة، وقليلاً قليلاً تتخلّق حول الشاعر كائنات تنطلي عليها الحيلة، وتستهويها اللعبة، فتصير هذه المخلوقات أقرب إلى تحقيق أحلام الشاعر الجميلة، ويصير لسلاح الشاعر فعل السحر، عندها لا يعود الشاعر وحيداً، حيث المخلوقات التي دخلت اللعبة أصبحت تزهو بجمال الحيلة و سحر اللغة.، و يصدّق العالم بأن الشاعر كان على حق طوال الوقت، و أن الضفادع التي كانت ترسل ضجيجها، كانت ضفادع فحسب. و عندما كان الشاعر لا يعبأ بذلك الضجيج، فأنه كان منهمكاً بشحذ أسلحته.
هذا ما كان يحدث عبر كل العصور. حيلة الشاعر هي التي تبدأ بلعبة اللغة.، وببطء تصير تاريخاً. و الفرق بين التاريخ و الضجيج، هو ذاته الفرق بين الشاعر و الضفادع.
الآن / ينبغي أن نفهم حيلة الشاعر. بمعنى أن نفهم كيف يستخدم أدواته.
فعندما يتمكن الشاعر من إتقان حيلته بجمال و موهبة، فأنه يجعلنا أكثر ثقة في إمكانية توجيه الأسئلة لهذا العالم، هذه الحياة، و الاستمتاع بتشكيل العالم والحياة من جديد.
الشاعر في الحيلة / اللعبة يمزجنا بلغته، فيما هو يبدع فناً، ويصوغ مستقبلاً جديراً في أحلامنا.. لا يتحقق.
يلتفت الشاعر نحو صاحب السؤال، كان يقف هناك، يحدّق في الشاعر مذهولاً، مأخوذاً، مسحوراً، كمن دخل اللعبة، صدّق الحيلة، و امتزج بحلم الشاعر.
- هل رأيت، إنني أشتعل، أكتب، أحتال.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى