عن التواصل الثقافي

(1) هل فعل النفط شيئاً للثقافة ؟

مرة قلنا، يأتيكم النفط من حيث لا تعلمون.
قلنا ذلك توجساً من سطوة المادة على الطبيعة الإنسانية وخشية على الثقافة (زيت الحياة) من هجوم المجتمع الاستهلاكي وخدمات الرأسمال المستفحل.

مرة قلنا وكانت أيدينا على قلوب ترجف وكتابة في القلق، كنا نشعر حقاً بأن هذه الطاقة الجبارة التي يشيد بها العالم الحديث والتي تتوفر عليها الأرض العربية بما لا يقاس والتي تتكاسر عليها الدول، قد وعدونا طويلاً، بأنها ستجعل حياتنا مستقبلاً زاخراً بالحضارة والتقدم، وظل الوعد وعداً يستعصي على التحقق، وربما اكتسب جماله من كونه حلماً يلهج به البعض.

وإذا كنا في غنى عن التأكيد بأن فهمنا للحضارة والتقدم يتجاوز المظاهر العمرانية، والتقنية والخدمات التي تزخر بها خريطة النفط، وهو فهم يتصل بالإنسان مباشرة : تنمية وحريات.
نقول، إذا عرفنا ذلك سوف نكتشف يوماً بعد يوم أن هذا النفط الذي من المفترض أنه (لنا) صار هو الذي يمارس (حرياته) بمعزل عنا، ويثبت بجدارة أنه (ضدنا). ترى إلى أي حد تتقاطع المفاهيم المتداولة بيننا لمعنى التقدم والحضارة ؟! ولماذا يصادف أن تظل برامة التنمية (التي لم يتوقف الكلام عنها طوال عشرات السنين الحديثة) تدور (حول) متطلبات الإنسان، دون أن نكتشف هذه المتطلبات وتخترقها باتجاه الفعل، في سبيل تحقيق مكوناتها الضرورية ؟! وهل هي فعلاً مجرد اختلاف في مفاهيم الحضارة والتقدم فحسب ؟!

القائمون على (إدارة) معطيات النفط وفوائضه لم يكونوا يطرحون هذه الأسئلة ولم يعملوا على إتاحة الفسحة الكافية لطرح هذه الأسئلة من الآخرين، وهم أيضاً لم يكونوا يعرفون أجوبة محتملة عن هذه الأسئلة المتصلة بمشاريع التنمية الإنسانية وضروراتها، وما دام المثقفون ليسوا مرشحين لثقة، تؤهلهم للإسهام في البحث عن الأجوبة، فإن القائمين على إدارة معطيات النفط لديهم من يقدر على إخبارهم بكل شيء بالنيابة، بل ويصوغ المشاريع التي من شأنها أن تثبت بأن النفط سيد الحضارة وصانع المعجزات. النفط ؟! لكن أين الثقافة من كل هذا الهيلمان الذي يجتاح المنطقة النفطية منذ سنوات طويلة ؟!

كل شيء كان وارداً في برامج النفط ومشاريعه، الثقافة فقط لم تشكل هاجساً تنموياً في كل ذلك، إلا في الحالات النادرة التي لا نقدر أن نحسبها صادرة عن رؤية حضارية واضحة وذات بعد اجتماعي.
وعندما نقول الثقافة، فإننا لا نعني ما يفهمه السياسيون ورجال المال والاقتصاد والتجارة والإعلام، وما يريدونه.
فكل هؤلاء يرون في الثقافة تلك المادة التي تدعم المشروع السياسي وتبجله وتروج له وتبرره أيضا.
وهذا ما جعل تلك (المادة) عبارة عن فعالية إعلامية شأنها أن تخضع وتتبع لحسب، لا أن تسأل وتكشف وتحاور وتنتقد وتعارض وتقود أيضا.

لقد ظلوا طوال الوقت يرون في الثقافة ما ينسجم مع برامج الأجهزة الرسمية، وكل ما عدا ذلك سيكون نوعاً من عرقلة للخطوات السديدة التي يحققها النفط السيد، فالذي لا يبدو مع النفط فهو ضده، وهذا يعني (في رؤيتهم) أنه ضد المصلحة العامة.

الثقافة والمثقفون كانوا طوال الوقت أمام خيارات مثل :

  • إما أن يبجلوا النفط ونواياه وملابساته.
  • أو أنهم سيظلون تحت وطأة العزل والصمت.ولأسباب موضوعية، صاغت الثقافة تاريخاً من العلاقات الغائبة (تقريباً) مع هذه الأجهزة الإدارية، وظل الكلام عن الثقافة يشير دوماً إلى تاريخ زاخر بالحذر والريبة في أحسن الحالات وبقيت الفعاليات الثقافية معرضة دوماً للمزيد من الثغرات والقصورات والإحباط، حيث الأجهزة ترى في هذه الفعاليات مصدراً من مصادر القلق والإشكاليات، طالما هي نشاطات لا تصدر عن عباءة الأدوار الرسمية، ولا تقول كلامها ولا ترى ما تراه.

هل هو فعلاً اختلاف في المفاهيم المتعلقة بالحضارة والتقدم فقط ؟!
هل الثقافة نقيض النفط، أم أن النفطي هو النقيض ؟ وهل هذا التساؤل سليم من حيث صياغته ؟!
لكن، من المحتمل أن لا يكون النفط ضداً، ولا نقيضاً لأحد أو لشيء، إنه نفط فحسب، والباقي يتوقف عليك.
لكننا (على صعيد الثقافة) لم نكن نشعر أن النفط يفعل شيئاً مهماً، وحقيقياً وجداً، بمعنى أكثر دقة، فإن النفط لم يوظف لكي يبدو حضارياً تجاه الثقافة، لقد كان يفسح الطرق والأبواب أمام كل أشكال المسخ والتشويه التي تستهدف الإنسان والمجتمع، وكان يغلق الهواء عن الكاتب في نفس اللحظة.
الآن، الآن فقط، بعد كل سنوات : الثقافة في جهة والأجهزة الرسمية في جهة، جاء الجميع يتكلم عن التواصل الثقافي، وعلينا - مجددا - أن نضع أيدينا على قلب يرجف وكتابة في القلق.
التواصل الثقافي ؟! لكن كيف ؟
تقام الندوات والاجتماعات لتحقيق التواصل الثقافي كأنه اكتشاف القرن، كأن التواصل لم يكن هنا طوال الوقت كأن هناك من استعاد وعيه فجأة، كأن التواصل...
الآن بعد أن خذلهم النفط جاءوا إلى الثقافة، لكن أية مهمة أسطورية يرشحون لها الثقافة والمثقفين ؟!
الأحد 30 نوفمبر 1986

(2) تساؤلات مشروعة حول التواصل الثقافي

التواصل الثقافي يثير أيضاً بعضاً من تساؤلات. يجوز لنا أن نتداولها ونسهم بها في حوار ينبغي أن لا يتوقف، وليكن هذا الحوار الذي نقترحه نوعاً من الاحتفاء بالنوايا الطيبة التي تدفع بمشروعنا الثقافي نحو التحقق، بأمل أن يكون الالتفات القوي نحو العمل الثقافي، من قبل الأجهزة الرسمية،

(تورطاً) محتملاً في المشاغيل الكثيرة التي تثيرها الثقافة. ويتطلبها العمل الثقافي. وهو تورط تأخروا كثيراً عن الانغماس فيه. وطالما أنهم قد جاءوا إليه الآن، فلا أقل من أن نتبادل الوجع الثقافي ونتيح للأسئلة أن تسأل.

أقترح منذ البداية أن نتجاوز التقليد المتوقع في مثل هذه المواقف فالكلام عن التواصل الثقافي يغري عادة باستعراض المظاهر التاريخية المعروفة التي تؤكد على قدم التواصل في الخليج. مستشهدة بتراث غزير من الفعاليات الثقافية التي تتحرك في هذه المنطقة كمساحة بشرية واحدة.

نقول، لا ينبغي تكرار الكلام عن تأكيد تلك الروابط التاريخية والاجتماعية والنفسية وهي روابط بلا شك قد هيأت لمظاهر ثقافية متداخلة متنوعة أثرت وتأثرت بكل التحولات السياسية في تاريخنا الحديث. فليس مجدياً أن نتكلم عن الماضي كثيراً، فإن الواقع الآن هو الذي يستأثر بحوارنا وتأملنا لسببين :

أولاً : أننا لا نشك (كثيراً) فيما حدث، إنما نحن لا نمتلك يقيناً موضوعياً متكاملاً فيما يحدث الآن أو ما سيحدث غداً.

ثانياً : لأن الذين يكررون الكلام عن تراث التواصل الثقافي. يتعرضون غالباً للوقوع في نوايا مختلفة :

  • فالبعض يتكلم عن ذلك التراث محاولاً الإيهام. فمثل هذه النوايا من المحتمل أن تغفل جانباً جوهرياً من الحقيقة التاريخية، أو تتجاوزه، وهو أن كل ذلك التراث الثقافي، الذي تحقق في حقل التواصل بهذه المنطقة، لم يكن ليحدث لولا العديد من التضحيات والنضالات والجهود. الأمر الذي يمكننا، إلى حد كبير، أن نعتبر ذلك التراث أحد تجليات الحركة الاجتماعية والوطنية.
  • البعض الآخر بكلامه المعاد عن ذلك التراث، إنما يقع تحت سطوة الوهم الذي يقول بأن السلف كان أصلح من الخلف في هذا المجال، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ويحلو لهذا البعض دوماً أ يجتر تلك الذكريات ليسهم في تغييب الواقع الراهن.
  • البعض الثالث يبالغ في تقديس ذلك التراث الثقافي لا ليكشف عن دلائله الإنسانية والحضارية ضمن لحظته التاريخية، ولكن ليقول في نهاية تحليله أن علينا أن نتعامل مع مسألة التواصل الثقافي بنفس تلك الرؤية البسيطة الساذجة، وبالشروط السابقة التي لا تضع في اعتبارها المتغيرات الهائلة التي نعيشها وليؤكد بالدرجة الأولى على أن العلاقة بين المثقفين وبين النظم بشكل مطلق، هي الطريق الوحيدة التي تحقق التواصل الثقافي المطلوب، باعتبار أن أحلام وأهداف هذه النظم لا تختلف عن أحلام وأهداف المثقفين في هذه المنطقة، وسوف يلغي مثل هذا التصور الطبيعة الاجتماعية من تلك الأحلام والأهداف متوغلاً في رومانسية لا يحتملها الواقع المعاش.

وسوف يغفل هذا الطرح واقعاً موضوعياً يتصل بعلاقة المثقف بالمنظومات. فأي كلام يجري عن العمل الثقافي المشترك، متضمنا حضوراً للمثقف في مثل هذه المشاريع، لا يمكنه أن يتجاوز حضور التاريخ الطويل للعلاقة بين الطرفين، لا لأجل الحيلولة دون تحقيق المكتسبات الثقافية ولكن لئلا تصاغ تلك المكتسبات بمعزل عن المعطيات الإنسانية والفكرية لتلك التجربة التي لم تخل من عسف تجاه المثقفين. فعندما لا ننسى أن المثقف قد تعرض للعنف المادي والمعنوي في تاريخه الحديث، فإننا نمنح تعاملنا مع متغيرات الواقع حساً تاريخياً يتصل بطبيعة التجربة الغنية التي استطاع المثقفون أن يسهموا في صياغة ملامحها الفكرية والاجتماعية.

لكن عندما يتخلى المثقف عن ذاكرته فإنه مشرح دوماً لأن يضع تاريخه جانباً ليدخل في تاريخ الآخرين.
بمعنى أنه معرض لأن يقبل بمبدأ الإسهام في صياغة الحاضر والمستقبل تحت وطأة شروط غير شروطه.
والآخرون أحياناً لا تروق لهم (الذكريات) خصوصاً إذا كانت مشغولة بهواجس ليست ثقافية خالصة. وهي هواجس تتصل بطبيعة الأسئلة الجوهرية التي تؤرق المثقفين في تجربتهم المعاصرة : أسئلة تتعلق بالحرية. فعندما لا يريد الآخرون أن يصغوا لهذه الأسئلة التي تحمل الهم السياسي فنحن لا نعتقد بأن الثقافة ستتوقف عن التشبث بها والإلحاح عليها كرؤية للعمل وعند هذه النقطة بالذات تتجلى خطورة ترديد الكلام الإعلامي عن التجربة الثقافية الماضية، بدون الالتفات إلى العنصر التاريخي فيها. فبدون القراءة العلمية لتجربتنا الثقافية بأفقها الاجتماعي والسياسي، سنقع في احتمالات التلفيق إذا نحن امتثلنا للمنظورات الرسمية لذلك التاريخ.

العمل الثقافي لم يكن يأخذ طبيعته الحقيقية في المجتمع بشرطهم الحضاري، بهمومهم وهواجسهم بقدرتهم على التجرد من جميع الغايات الشخصية.

هذا ما سيمنح العمل الثقافي القادم أصالته وقدرته على الفعل ومن هنا نقترض أن البوابة الذهبية لتحقيق ذلك المستقبل الثقافي، هي بوابة الحوار المتكافئ بين كافة الأطراف التي تزعم التصدي للعمل الثقافي المشترك والتواصل الثقافي.. إلى آخره.

ففي مواجهة الأسئلة التي تعطيها الجهات الرسمية بلبوس ثقافية يجوز لنا أن ننشغل كثيراً بالسؤال الثقافي وهواجسه السياسية بدون التباس ولا تبسيط ويجوز أن يتوقع الآخرون ذلك دوماً.

(3) حرية المبدع وحرية المجتمع

ليس كافياً أن يقال : للكاتب حرية أن يكتب، وللفنان حرية أن يعمل في أدواته.
إن مثل هذا الإطلاق شكل من أشكال التمويه، من أجل حصر المسألة في عملية الإبداع، وفي شخص المبدع بالذات.

إن الحرية لحظة الإبداع وداخل العملية الفنية مسألة لا تدخل في حقل حديثنا عن حريات العمل الثقافي، ولا ينبغي الخلط بين الحقلين، المبدع يقدر، في أسوأ الظروف والحصار، أن يمارس حريته، وهو بالطبع يفعل ذلك، لأن طبيعة عمله وأدواته تتصل به، إلى أن ينتهي العمل (كتابة كانت أو لوحة) ولكن المشكلة تبدأ بعد إنجاز هذا العمل مباشرة، هذه هي المشكلة التي نتكلم عنها طوال الوقت، حيث حرية المبدع وقتها لا تجدي لأن الضرورة تتصل بعد ذلك بحرية المجتمع في الوصول إلى هذا العمل الأدبي والفني.

وسيتمثل لنا الأمر بجلاء أكبر على صعيد آخر.
حيث نجد أن أشكال تعبير أخرى سوف تواجه الصعوبات بصورة أكثر تعقيداً والتباساً، فالفنان المسرحي عندما تختلف طبيعة عمله وأدواته عن الشاعر والرسام سيظل عرضة لمحذورات متواصلة قبل أ يمكننا القول بحريته في العمل الفني، إن مساحة الحرية التي يتطلبها العمل المسرحي ستبدو أكبر من تلك التي يحتاجها الكاتب والرسام، بل إن المسرح هو أول الفنون التعبيرية التي تدفعنا مباشرة وبدون مواربة إلى الشرط السياسي الذي يحاصر الشرط الثقافي ويضع العمل الثقافي عموماً أمام مهماته وضروراته في آن واحد.
ومما يزيد الأمر دقة في مجال التعبير المسرحي، أن المحاذير المحيطة به أصبحت تتراكم وتتعقد يوماً بعد يوم، ليس علي الصعيد السياسي فحسب ولكن أيضاً على الصعيد الاجتماعي، وهو مرتبط بالمفاهيم والقيم التي يدفع بها ويكرسها البناء السلفي الذي يترشح بقوة من قبل دوافع سياسية تهيمن وتجد في هذا البناء رصيداً متاحاً لثباتها واستمرارها كل ذلك يضغط بشكل مطرد على العمل الثقافي ويحاصره، وسيكون المسرح أول ضحايا هذا الحصار.

وإذا نحن راجعنا واقع المسرح في منطقة الخليج في السنوات العشر الأخيرة سنجد إلى أي حد تعرض الفعل المسرحي للتدهور فنياً وموضوعياً، فبالإضافة إلى الشروط الصعبة التي كان يتحرك فيها المسرح، لم يكن ينقصه إلا الشرط التجاري الذي يكاد أن يجهز على روح الفعالية المسرحية في هذه المنطقة.
هل نقدر على القول بأن هذا شأن ثقافي خالص ؟! وهل يمكننا الكلام عن تواصل ثقافي بمعزل عن مناقشة هذه التفصيلات التي يقوم عليها العمل الثقافي أساساً ؟!
إننا فحسب نرأف بالرغبة الجميلة التي يزخر بها الجميع في سبيل الدفع بالواقع الثقافي في المنطقة، ونحن نؤمن تماماً بأن المبالغة في (الكلام) عن التواصل سوف يعطي انطباعاً بغياب (التواصل) طوال الوقت بين ثقافة هذه المنطقة.

بالطبع ليس سهلاً الميل إلى هذا الانطباع لأن التواصل الذي نعنيه أو الذي ينبغي أن يعنيه الآخرون يتجاوز التواصل الفردي أو الإبداعي. نريد أن نقول أن بين مثقفي ومبدعي هذه المنطقة تواصلاً مستمراً لم يتوقف عبر التاريخ ولم تقدر الحواجز السياسية والقوانين الإدارية أن تحول دونه.

ربما يكون فردياً، أو معرضاً للنشاط أو الخمول بين فترة وأخرى، لكنه في كل الأحوال لم يتوقف ولا داعي لذكر الشواهد العديدة على الصعيد النظري، أو على الصعيد العملي المتمثل في الحركة الحرة التي كان يمارسها كثيرون من كتاب وأدباء ومثقفين من شتى بلدان الخلية. ويسهمون في فعاليات ثقافية هنا وهناك، حتى أن المؤرخ والناقد الأدبي لا يستطيع الجزم فيما إذا كان خالد الفرج، عبد اللطيف المبارك، عبد الجليل الطبطبائي، عبدالله الطائي، غازي القصيبي، عبدالرحمن المعاودة.. الخ يمكن اعتبار كل منهم كويتياً أو عمانياً أو.. إلى آخره، هذا المظهر يؤكد أن التواصل ليس ابتكاراً جديداً، ولكنه حقيقة موضوعية كانت طوال الوقت تنفي الحواجز الإدارية التي ابتليت بها هذه المنطقة، ولم تزل مهددة بها.

إذن فإن الكلام الآن ينبغي أن يضع هذه الحقيقة في اعتباره، وينطلق إلى أفق آخر يتناسب مع الواقع الحضاري الذي تستدعيه متغيرات حديثة محفوفة بالمحاذير.

أولاً : حريات التواصل الثقافي سوف تتصل دوماً بالعمل الثقافي الذي تعنى به مباشرة المؤسسات الثقافية والأدبية في مناطق الخليج، فبدون هذه المؤسسات الأهلية لا يتسنى لأي مشروع ثقافي مشترك أن يتوفر على النجاح، إلا في شكله الإعلامي.

والإعلام ليس شأناً ثقافياً كما سبق وأشرنا.
والفرق بين حريات المبدع لخطة عمله وبين حريات العمل الثقافي هو الذي يجعلنا مباشرة في مواجهة السكوت عنه في كل هذا الكلام عن الثقافة في المنطقة.

ثانياً التوجه المكثف نحو العمل الثقافي ومشروعات التواصل، من قبل الأجهزة الرسمية، إلى جانب احتمالاته الإيجابية التي لا نقلل من أهميتها، فإن ثمة توجساً ينتابنا في غمرة هذه المهرجانات، ومصدر هذا التوجس هو خشيتنا من أن الاندفاع القوي نحو (تنظيم) هذا التواصل و(تقنين) العمل الثقافي يؤدي إلى مبالغات إدارية تمارس دوراً عكسياً في هذا المجال.

فكلما زادت رغبة (التنظيم) كلما ترشحت المشاريع إلى الوقوع في قيود جديدة، ومزيد من القيود أيضاً، خاصة إذا صارت وسيلة التنفيذ أدوات روتينية تهيم بالأداء الوظيفي فحسب، دون أن تكون طبيعة الثقافة عنصراً حاضراً في كافة مراحل العمل، هذا إذا كنا نحسن الظن بما يمكن أن يقع فيه روتين وقوانين الموظف. ولكننا لا نخفي درجة أخرى من التوجس (ربما تكون صادرة عن استهانات لم تتوقف بالثقافة) وهي الدرجة التي نصبح فيها مضطرين للتخلي عن حسن النية حين نشعر بأن الأمر يشير إلى رغبة كامنة في (توجيه) العمل الثقافي وتقنينه، وبالتالي تحجيم حركة الفعل الثقافي عند هذا الاحتمال (وهو احتمال لا تخذلنا التجارب السابقة في إمكانيته) والذي ربما تكفل به موظفون (مؤهلون) يجوز لنا أن نضع أيدينا على قلب يرجف وكتابة في قلق.

إن العمل الثقافي يتطلب بالدرجة الأولى مفهوماً واضحاً للثقافة واستعداداً ديمقراطياً لاستيعاب التنوع والطبيعة النقدية التي تتميز بها هذه الفعالية الإنسانية، فليس مؤكداً أن ينجح الموظف المسلح بخبرة العمل الإداري في العمل الثقافي.. ومن جهة أخرى ليس وارداً أن تقبل الثقافة (بمعناها الحضاري) الخضوع لقوانين تقيد حركتها.
إننا نخشى كثيراً أن يؤدي كل هذا الحماس الجميل للعمل الثقافي إلى الاصطدام أخيراً بعقلية الإدارة والروتين من جهة، وبرغبة التوظيف المتخلف والتجبير من جهة أخرى، وبهذا الشكل نعتقد أن الصفة الرسمية التي يدفعون إليها الثقافة والأدب لابد أن تتميز بالحذر والتريث لئلا تفاجأ بالفشل والخيبة، ولئلا تصل آخر الأمر إلى نوع من الفعالية الإعلامية، ونفقد التواصل.*

الأحد 23 نوفمبر 1986

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى