أيتها القراءات

(كلما اتسع الناس،
اتسعت المعاني)
المازني

تأخذ نصاً(قصيدة أو قصة). تقرأه. يتيح لك هذا النص تشغيل طاقة المخيلة، فتكتشف المعاني، تنغمر في مناخ يحسن الاتصال بتجاربك، تكتب عن هذا النص، فتطرح ما رأيته في هذه القراءة. يعترض شخص قائلاً :(لقد حملت النص أكثر مما يحتمل).

* * *

لكن، كيف ينبغي أن أعرف حدود احتمالات هذا النص ؟!.
لماذا ينبغي أصلاً أن تكون لنص ما حدود لا يجوز للقارئ أن يتجاوزها ؟!.
النص الأدبي، يكتسب طاقته الإبداعية من قدرته على فتح الآفاق أمام مخيلة القارئ، ومحاكاة أعماقه. النص(الجديد خاصة) لا يطرح على القارئ خبراً أو موضوعاً واحداً محفوفاً بالحدود، إنه يقترح عليه مالا يقاس من الاحتمالات في صور فنية تعبيرية تستفز طاقة الخيال لديه. القارئ لا يأتي إلى النص لكي يكتسب عملاً، لكن لكي يشارك في تجربة شعورية تقوم على المخيلة. وهذا يتيح للقارئ حرية الاكتشاف، بمعنى حرية القراءة. فما دام النص قادراً على احتمال المعنى، فليس أمام القارئ سوى الاستجابة لهذه الإمكانية، والاستغراق في هذه الغواية. فالكتابة ضرب من الغواية التي لا حدود لها. ولكل قارئ بعد ذلك أن يصل إلى المعاني التي تسعفه خبرته في ارتيادها. حين ذاك لا تعود اكتشافات القارئ مبالغة، إنها نوع من القراءة المبدعة، أو ما يسميه النقد الجديد، إعادة كتابة النص، فحين يلتقي النص قارئا فعالاً يمتلك المخيلة النشطة فسوف يكون(النص) مرشحاً لمزيد من التألق، حين ذاك لا يعود النص ملكاً للكاتب، إنه حق مشاع لطاقة القراءة. بل انه(كنص) عرضة لما لا يقاس من القراءات التي تنطلق من النص، ثم لا تعود إليه أبداً، فلكل قارئ حريته في الاكتشاف إذن، كيف يمكن لشخص ما أن يفترض بأن قراءة شخص آخر قد حملت النص أكثر مما يحتمل ! ؟.

ربما دفعنا هذا الاعتراض إلى افتراض أحد أمرين :
- إما أن هذا الشخص قد وصل إلى مستوى معين من الفهم لهذا النص، وهو بذلك لا يريد لشخص آخر أن يتجاوز حدود هذا المعنى، لكي لا يفسد عليه اكتشافه، وهو بهذا السلوك، يصدر عن تقديس للمعنى الواحد في النص. وهذا السلوك بدوره يرتبط برغبة كامنة عند قطاع كبير من القراء. أولئك الذين يطلبون المعنى في النص لكي يلتهموه، لا لكي يحاوروه. هذا النوع من القراء يربكهم أن يكون للنص عدة مستويات من المعاني لأنهم اعتادوا المعنى الواحد المنجز سهل الظهور.

- الاحتمال الآخر، هو أن الشخص المعترض لم يستطع اكتشاف الطرق التي تسعفه لقراءة هذا النص، وهو بالتالي اصطدم ببنية فنية لا يمتلك أدوات التحاور معها واختراقها. التجديد دوماً يشكل ارتباكاً بالنسبة للقارئ (التقليدي خاصة) وسوف يصاب هذا القارئ بالفزع إذا صادف شخصاً آخر يقول عن قراءته لهذا، النص بشكل جديد مغاير، فاكتشاف ذات النص من قبل قارئ آخر سوف يمثل فضحاً لقصور القارئ الآخر. من هنا ستأتي ردة الفعل منطوية على نوع من العسف والخلط معاً : العسف، لأن الشخص المعترض لا يقدر على فهم النص، ولا يريد لسواه أن يفهمه، وإذا حدث ذلك، فسوف يعتبر من باب تحميل النص مالا يحتمل.

والخلط، لأن الاعتراض ينم عن رغبة مكبوتة لدى نوع من القراء في محاصرة الذات(وربما تحصينها) ضد النصوص الصعبة والغنية التي تستدعي درجة من الخبرة والمعرفة. وبالتالي حظر التعامل معها على سواهم بشكل يجعلها ممكنة الاختراق والفهم والاستيعاب. وبمثل هذا النوع من القراء يتاح للتقليد (في مجمل حياتنا) أن يتكرس، ويصير قانوناً لكل شيء.

تقرأ نصاً، تفهمه، يعترض شخص لا يقدر أن يفهم، ولا يسمح لك بذلك أيضاً.

* * *

(أما أنت أيتها القراءات الجيدة
فإن ثمة ذواقة يقبع في اريكته
متحامياً المجازفة
أو متنحيا عن المخاطرة
يخالسك النظر دون أن يطاله عقاب
إنه القارئ).
الشاعرة البلجيكية جانين مولان

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى