درس الشعر الدائم

أدونيس

(1)

كنت أضع كتابي الأول على عتبة الشعر يوم تعرفتُ على تجربة أدونيس الشعرية، نهاية الستينات. وشعرت، فيما اقرأه، أن هذه تجربة لا يمكن تفاديها. كانت كتابة يجتمع فيها عنصران لا يفوتان القارئ المصقول بخبرة الحياة والثقافة، ولا يخطؤها الشاعر المشغول بالكشف والاكتشاف في آن، عنصران خطيران هما الجمال والحرية.

وهذا بالضبط ما يفسر لنا الكثير من جوانب المشهد الشعري الجديد الذي ارتبطت مكوناته الفنية بوشائج (متفاوتة النوع والدرجة) بتجربة أدونيس ورؤاه الشعرية واجتهاداته النظرية وعمله النقدي على الصعيد الثقافي. وهو ما يكشف أيضاً سر السحر الذي جعل أكثر من جيل من الشعراء العرب المعاصرين يجدون في تجربة أدونيس أفقاً مغايراً يشير إلى الآفاق الأخرى الغامضة، والتي هي قيد الكشف دائماً.

عنصرا الحرية والجمال، إذن، هما ما كان يبحث عنهما الجيل الجديد من الشعراء العرب، فيما يخرجون من تاريخ الشعر السابق، ويخرجون عليه. كما لو أن هذين العنصرين جناحا تجربة جديدة تبحث عما يسعف طموحها الفني وتطلعها العميق للحرية، هذه الحرية التي كانت (من جهات أخرى) مصادرة من سلطات كثيرة مركبة، لا تبدأ من سياسة الأنظمة ولا تنتهي في أيديولوجيات الأحزاب وما بينهما وما بعدهما. لقد شكلت تجربة أدونيس درساً استغرق فيه الكثيرون وأخذوا عنه وتبادلوا معه أدوار الفتنة.

بالنسبة لي، كان ذلك الدرس، الذي بدأ باكراً، جوهرياً وجذرياً على غير صعيد، فمنذ أدونيس أدركت أن الشعر هو شئ آخر غير الذي عرفناه من قبل، وطوال هذه السنوات لم أتوقف عن التعلم من كل ما أقرأه لأدونيس شعراً أو نثراً وصمتاً أيضاً. فثمة علاقة خاصة بلغته وطريقته في التعامل مع الكتابة وأشياء العالم، تمكنت من نسجها، (في المسافة الافتراضية بين النص والشخص) بحيث أستطيع الزعم أنني صرت أدرك في صوره الشعرية وعلاقاته اللغوية ما قد يفوت على الكثيرين. وربما هذا ما جعل الفائدة من درس أدونيس في تجربتي يتجاوز التقاطع المباشر الذي يجري الكلام عنه في معرض الإشارة عن تأثري بأدونيس، وهي الإشارة التي لا ينبغي أن تشكل أية حرج أو حساسية لدي الشاعر عندما يتحدث الآخرون عن معلميه الذين أخذ عنهم ما استطاع أخيراً أن يتجاوزه لينجز كتابته بخصوصية ذاتية واضحة. وعند هذه المسألة أحب التنبيه إلى أنه من بين ما يقلقني في الجيل الجديد من الشعراء والأدباء العرب، نزوعهم غير المفهوم لنفي تأثرهم أو إنكار أية تأثيرات لمن سبقهم على ما يكتبون، وهي ظاهرة لا أصادف مثيلها في تجارب الأدباء في كل العالم، على العكس، فالجميع هناك يعترفون بأساتذتهم، ويحفظون لهم الاحترام حدّ التمجيد، اتفقوا معهم أو اختلفوا، وتدفعني هذه الملاحظة إلى ما يشبه خشية الظن بأننا سنكون آخر الأجيال الأدبية التي تعترف بأساتذتها. ولن يحتاج هذا القول لمناسبة أجمل وأبلغ دلالة من مناسبة الكلام عن تجربة أدونيس، وهو أحد أكثر المبدعين العرب الذين طبعوا أكثر من جيل من الأدباء والكتاب والشعراء والنقاد العرب في النصف الأخير من القرن العشرين. فقد اقترح أدونيس على الكتابة العربية الحديثة أسلوباً جديداً يتميز بالجمال والحرية في لحظة واحدة، وهو الأسلوب الذي ستصدر عنه أهم التجارب الشعرية العربية الجديدة، وتذهب إلى تأكيده وبلورته والإضافة إليه.

(2)

تميزت اللحظة الحضارية التي طرح أدونيس فيها تجربته بالغموض المثير (الذي لن يفارق الشاعر أبداً)، فهي لحظة الاستعداد الكوني للامساك بطرف الحريات كلها والجمال جميعه. ومن المتوقع دائماً، إذا ما توفر الجمال والحرية لحظة الإبداع، أن يكون هذا الإبداع جديداً بالمعنى العميق للحداثة، حيث النص هو فعل إنساني بالدرجة الأولى. الجمال والحرية إذن، كانا مفتاحاً لجميع المجاهيل التي ذهب إليها أدونيس. ولكي أقول عن تجربتي الشخصية دائماً، فقد كنت أشعر بأن لنص أدونيس القدرة على ملامسة الشغاف الإبداعي في الشاعر الجديد. ربما لأنه، خصوصاً، لم يكن يتوجه بالدرس المباشر إلى أحد، لكنه كان مناخاً غامراً وشاهقاً وحميماً في الوقت نفسه. وهذا بالضبط ما كان يحتاجه جيلي من الشعراء الذين كانوا يتفلّتون من القيود والحدود المركبة والمحيطة من كل جانب. وبالرغم من وطأة الهاجس السياسي في مدخل السبعينات وذروتها (وهي وطأة لم ينج منها أدونيس نفسه) إلا أن ثمة ما شدني للأفق الذي كانت تشير إليه تجربة أدونيس الشعرية. لقد كان شاعراً حراً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا ما لم أصادفه، وقتها، عند شاعر عربي غيره. والحرية التي أعني سوف تتجاوز دلالاتها السياسية والفكرية المباشرة، لتمسّ الجوهر الكوني لما يعنيه الإبداع كفعل حب في حياة الإنسان، وكلما كان الحب حراً صار جميلاً بامتياز. لقد كان أدونيس، بالنسبة لي، الجمال الشعري الذي شغفت به وعرفت فيه لذة أن يكون المرء حراً بحق (بوصفه شخصاً وذاتاً متميزة، وأهمية أن يتميز المبدع بين مبدعين متميزين) حتى وهو منهمك في نضال سياسي وفكري يومي وكثيف، لقد كانت تجربتي مع أدونيس واحدة من أجمل وأهم العناصر المكوّنة التي منحت نصي خبرة وقوة وشجاعة حصنته ضد كافة أشكال السلطات السياسية والفكرية. وكانت تلك السلطات توشك على الإجهاز علينا وتخرّب المشروع الأدبي الذي ستؤكد التجربة أنه كان الصواب الواضح في غيبوبة من الخطأ الشمولي الأهوج، كان بعض ذلك الخطأ يقتلنا من حيث لا يدري، غير أننا لم نضعف للإرهاب ولم نستسلم للسياق العام. ليس فقط لأن أدونيس كان هناك، ولكن لأننا كنا نتأكد يوماً بعد يوم بأن الجمال لا يخطئ، وأن من حقنا أن نختار الجنة التي نريد، وهو خيار يتطلب الجرأة، وهذا ما كان أدونيس يصنعه.

قياساً إلى ذلك، يمكن أن ننظر إلى الدور الحضاري المهم الذي حققته تجربة أدونيس في عدد كبير من تجارب الشعراء الجدد في البلاد العربية. كنت أرى في الحرية والجمال ما يمنح فضاء الفعل الشعري رحابة ومتعة، مما أتاح لي أن أتعامل مع المعادلات المعقدة التي كانت الثقافة العربية تتخبط في طينها وتقصر عن اقتراح الأجوبة عليها، مثال على ذلك الحبر الغزير الذي أهدر في مناقشة التراث والمعاصرة، حيث تيسر لي بشيء من السحر الشعري متخذاً الحرية والجمال شرطاً للنظر إلى أشياء الحياة، أن أكتشف بعفوية الشعر بأن ثمة العلاقة الغامضة بين ما سميته، لاحقاً، بالجذور والأجنحة التي لا يستغني عنهما المبدع، في أي مجال، لكي يحقق ذاته الحضارية. فهو لا يستطيع أن ينقطع عن جذوره وتاريخه وتراثه، كما أنه لن يفرّط في أجنحة المخيلة الحرة فيما يصوغ تجربته الخاصة. قد يبدو قول هذه المعادلة، مجردة، على قدر من الشعرية الخالصة، غير أنه لن يدرك خطورة معرفة هذه الحقيقة، وكشفها وممارستها، غير شخص عرف تلك التجربة المريرة التي خضتها على صعيد الحياة، والتجربة الأدبية الفائقة المتعة التي منحني أدونيس خلالها الوعي الشخصي بأسرارها، متعة القدرة على أن تكون أنت ذاتك (الشخص والنص) اختزالاً مكثفاً وواعياً للعالم، دون أن تتنازل عن جنونك وشغفك. ومن غير أن تسمح للماضي أن يتحكم في مستقبلك، فالتراث الإنساني، دائماً، هو ما تكتبه لا ما يكتبك.

لعل طاقة المخيلة الحرة التي كان أدونيس يصدر عنها، فيما يصوغ نصوصه، كانت بالنسبة لي بهواً من الضوء لأجل اكتشاف المعنى الحقيقي للموهبة في الشاعر. كنت أجد في أدونيس (شعراً ونثراً وتبادلاً لأدوار الحوار، وتقمصاً للنقائض بلا هوادة، وإتقاناً لدور أكثر اللامبالين اكتراثاً، وأحرص الفوضويين تنظيماً، بناءً وهدماً) بمثابة ممارسة نادرة التحقق في الكتابة العربية، ممارسة تشي دائماً بما يمكن وصفه باقتحام الدلالة المألوفة في سبيل اكتشاف، وكشف، لا نهائية الدلالات في كلمة النص و نأمة الحياة حين تتجاوران وتتيحان للكائن، متعة اكتشاف رحابة الفضاء الشاسع من الدلالات في النص (كما في الحياة) كلما تيسر للمبدع أن يطلق الطاقة القصوى لمخيلته، ويمعن في تشغيل الحريات الجميلة التي عملت و تعمل السلطات على مصادرتها أو كبحها.

وما كان ذلك ليسهل تمثله في تجارب جيلي لولا أن معظم شعراء هذا الجيل كانوا يأتون من التجربة الحارة للحياة الواقعية الملطخة بالآلام اليومية والتفجر الذاتي الحقيقي الذي يذهب إلى صياغة المستقبل بأحلام شاعر مأخوذ بالحرية والعدالة والجمال. من هنا وجدت أطروحات أدونيس الصدى الفعال في تجارب جيلي. أكثر من هذا فان طاقة المخيلة (التي استحوذت على كل حركات التجديد والتغيير في العالم من الفوضويين إلى الماركسيين إلى السرياليين إلى المستقبليين وغيرهم) ظلت مشروعاً قابلاً لكل موهبة شعرية قادرة على العبور المبكر للمنحنى التعبيري مع تجربة أدونيس وإعلان ملامح صورتها وصوتها الشخصيين. وهذا بالضبط ما يتوجب الانتباه إليه عندما نرصد حضور تجربة أدونيس في تجارب الشعراء الآخرين في اكثر من جيلين. لابد من دراسة تجارب الشعراء الذين استفادوا من أدونيس ثم حققوا شخصيتهم فيما بعد، خصوصاً أولئك الذين فعلوا ذلك دون أية ضجة أو افتعال أو التظاهر بما يصفه البعض بقتل الأب. بالنسبة لي لم أكن أفهم تداول وترويج هذه المقولة الأوديبية لتفسير (لئلا أقول تبرير) العودة والانكفاء لممارسة ما يشبه الانتقام من أدونيس لعدم قدرتهم على تفاديه بإثبات شخصيتهم المختلفة. كنت أشعر طوال الوقت بأن الشاعر لا يسعى إلى إلغاء شاعر آخر، على العكس فمن طبيعة الروح الإبداعية أن تؤكد تميزها وحضورها بين مبدعين، وهذا هو الدرس الذي كنت شخصياً أستوعبه من تجربة أدونيس، وإذا كانت شخصية أدونيس الشعرية طاغية إلى الحد الذي يقصر البعض عن النجاة منها، فلا معنى للتظاهر بالموقف النقدي (لكي نأخذ الدرس وننفي الأستاذ) غير الجحود.

(3)

لقد تعلمت من أدونيس، أيضاً، أن الشاعر، لكي يكون كذلك، لابد له أن يتميز بالموهبة والمعرفة معاً، وهذا ما استغرقني طوال الوقت لكي أحقق، على الصعيد الشخصي، تعويض ما فاتني على صعيد استكمال التعليم المنهجي من جهة، ولكي أتيح لموهبتي الفرصة كاملة لإثبات قدرتها على العطاء. فالشاعر، لكي يظل قادراً على الإبداع والتطور، لابد له من العلم، ليس بالمعنى التقني العام، ولكن بالمعنى الروحي للمعرفة بوصفها باب الامتزاج بالعالم وإدراك جوهر الكائنات والأشياء وليست سطوحها أو قشرتها. كما أن المعرفة تعني أحياناً (لكي تعني دائماً) انه لكي تكسر القاعدة بشكل ممتاز، عليك أن تعرفها جيداً. وهذا ما سوف تتأكد بالأجيال الشعرية الجديدة من إنجازه وإثباته في تجربة الحياة والنص، لا لأجل استصدار شهادة حسن سلوك من سدنة الماضي، ولكن لأن معرفة العالم هي من طبيعة الإبداع الجديد كموهبة.

وهذا ما نعنيه بأن الموهبة والمعرفة جناحان يتصلان بالحرية والجمال اللذين تقترحهما علينا تجربة أدونيس طوال نصف قرن بلا توقف. هذا هو الجوهر الفعال في الشاعر، حيث التجربة تصقل الموهبة مثل الوقت للحجر الكريم. الطبيعة تمنحك الموهبة، والمعرفة تنالها بنفسك. فكل شئ سوف يتوقف على الشاعر كشخص، لكي يفهم طبيعة دوره في الحياة ودوره في الإبداع، وأن يحقق ذاته معترفاً بأدوار الآخرين، ودون النظر لأساتذته ومعلميه بوصفهم مضطهدين أو مصادرين لشخصيته وحضوره وحقه في التعبير عن تجربته بصوته وصورته الذاتيين. فحين يؤكد الشاعر حضوره في التجربة، ستكون الطريق أمامه مفتوحة ليعرف كيف صاغ أدونيس تجربته، وكيف حقق هذا الاتصال الحميم مع أكثر من جيل، وكيف أعطى كل هذا الحوار الإبداعي الفعال بين التجارب، وبالتالي كيف يمكن للجيل الجديد أن يصوغ شخصيته ويختلف مع أدونيس دون أن يضطر لممارسة عملية الإلغاء و الإقصاء على أدونيس أو غيره.

(4)

ليس سهلاً التوقف عند كتاب أو نص بعينه من أعمال أدونيس. فكل ما كتبه أدونيس، أحببته أو لم أحبه، كان بمثابة الدرس الشعري لتجربتي. من طبيعتي أنني كنت أتعلم فعلاً (بالمعني الحرفي للكلمة) من كل ما يصادفني من النصوص والتجارب الشعرية بشكل عام، أما بالنسبة لأدونيس فقد كانت علاقتي الحميمة بتجربته تدفعني نحو الدرس المتأمل في كل ما يفعل هذا الشاعر مع اللغة ومخلوقاتها في هذا العالم. وثمة ما أحب أن أصفه بالولع الخاص والنار الدائمة، وهو ولع يتصل ببعض النصوص التي ستشكل منعطفات تعبيرية ليس دائماً في كتابة أدونيس، ولكن خصوصاً في تجربتي الشعرية، وهذا ما يكسب هذه النصوص وغيرها جمالات لا تخضع لقانون النقد الأدبي العام، وإنما هي انعكاس ذاتي لعلاقتي بالذهاب الفاتن الذي أخذتني إليه تجربة أدونيس دائماً. وهي طبيعة يتعثر توصيفها نقدياً بدون التسبب في إفساد عفويتها.

حتى الآن أشعر بأن ثمة نصوصاً لأدونيس تنتظر الدرس النقدي والقراءة على ضوء التحولات الجوهرية التي تحدث في واقعنا العربي في الأفق الإنساني، حياة وكتابة. فبعد (تحولات الصقر) و ( هذا هو اسمي) و (مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف) و (مفرد بصيغة الجمع) - لكي لا اذكر إلا الأمثلة، لم يعد ممكناً قراءة الشعر العربي والواقع العربي على حد سواء، إلا من خلال الرؤية الشعرية الخطيرة التي تقترحهما علينا مثل هذه النصوص. للشاعر أن يكتب ما يكتب طوال حياته، لكن نصوصاً معينة سوف تشكل ضربات القدر النادرة في الحياة (حياة الشاعر وحياتنا). وليختلف من يختلف مع أدونيس شخصاً وفكراً وشعراً، لكن لا يجوز لأحد الزعم بأن مثل هذه النصوص يمكن تفادي حضورها الغامر في سياقين متقاطعين : الكتابة الشعرية العربية اللاحقة (تبلوراً إبداعيا مؤكداً)، ومعطيات الحياة العربية المتلاحقة (تدهوراً على وجه الخصوص). وإذا جاز لي بعض الاستطراد في هذا الموقف، فان الشعور الهادئ (الذي لا يعلنه أدونيس لكننا نشعر به) بالغبن، سوف يصدر دائماً عن تكاثف الحجب المتواصل لحقيقة وجوهر الرؤية الشعرية والفكرية التي طرحها أدونيس في معظم نصوصه، حجب هذه الرؤية عن حرية تداولها وحرية محاورتها في الواقع العربي، (مما تمارسه سلطات عربية مختلفة) لفرط العمق والجذرية التي تتميز بها هذه الرؤية. ففي حين يستورد العرب الرؤى والتنظيرات من كل صوب، سوف يتصدى لأدونيس (شخصاً وفكراً) مثقفون وكتاب اكتسبوا شخصيتهم الأدبية والنقدية (في بداياتهم) بزعمهم التجديد، وإعلانهم راية الحداثة، وهاهم يستديرون الآن لنفي نص أدونيس وتراثه النقدي عن طريقهم، كمن يتبرع بكنس الشارع العربي أمام خطوات الظلامية والتخلف، متباهين بأنهم يفعلون ذلك لإرضاء سياقات الرأي العام (نظاما ومنظومات). كل ذلك سوف يحدث باسم حرية الاختلاف والنقد، وهم يتجاوزون ويبتعدون عن الكلام (مجرد الكلام) عن ابسط مظاهر التخلف في بلدانهم. لتلتقي بذلك سلطة (المثقف) مع سلطة الأنظمة من أجل تقويض كل ما تحقق في الحقل الإبداعي والفكري، والحيلولة دون حرية تحوله إلى مادة حيوية للحوار الحضاري الفعال في حياتنا، وسوف يساعد مثقفون (مكرسون) على تحقيق هذا الحجب وإنجاز ما تسعى المنظومات العربية المتخلفة لإنجازه. وتحت سقف الحجج التي لا تعوز البعض، سوف تظل القراءة الحضارية للنصوص الشعرية المهمة قراءة مؤجلة في تاريخنا العربي، ولكي ينعم العرب بترف التخلف بامتياز، سوف لن يتاح للأجيال الجديدة اكتشاف التجارب الشعرية بالحرية التي يتطلبها الحوار الحقيقي ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين. ويغيب عن ذهن الكثيرين أنه ليس من الممكن الحديث عن الحرية .. بدونها.

غير أن ثمة فسحة غامضة من الحرية نتوقع أن يفلت بها جيل يتخلق الآن بمعزل عن سكك الحديد التي ينصبها النظام العربي أمام المستقبل، هذه السكك الحديدية التي تريد أن تضع كل عربات المستقبل العربي مقطورة في طريق واحد لا يختلف فيه نظام سياسي عن غيره إلا في درجة المزاعم والشعارات، فما سيحدث في السابق في النظام التقليدي، سوف يحدث حالاً في النظام المعاصر، في ضرب فادح من الانحطاط، الأمر الذي يفرض على الأجيال العربية الحديثة مسؤولية تقدير الخسارة الفادحة لتاريخ كامل من النضال في سبيل الحرية والعدالة والمجتمع المدني والنظام السياسي الديمقراطي الحديث، في لحظة يستوي فيها كل شئ بالأرض، وبأكثر انخفاضاً من الأرض أيضا ... حيث القبر.

من هذه الشرفة يجوز رؤية أدونيس كتجربة حضارية لا تتكرر كثيراً في تاريخ الأمم. ففي كل شاعر حقيقي لابد أن تكون رؤيته الإنسانية من الجذرية بحيث يمكنها الكتابة عن الحرية بحرية كاملة. فأدونيس، بوصفه رؤية حضارية متمثلة في صورة إبداع، هو طاقة تتجاوز حدود جغرافية المكان والزمان العربيين، ليمتزج بالأفق الكوني للإنسانية، وهذا هو أهم ملمح يميز المبدعين في تاريخ الثقافة العالمية، دون الغفلة عن دلالة إخفاق التغيير والحداثة في بلد الشاعر أو إقليمه أو أمته، ففي ذلك شهادة للمبدع وليست شهادة عليه.


( 5 )

على الصعيد الشخصي، لا يمكن تفادي القول بأن لأدونيس شخصيته الآسرة، التي لا يستطيع المرء نسيانها بعد اللقاء الأول. فلأدونيس قدرته السحرية على منحك شعور بالحميمية معه، وبالنسبة لي أعتقد دائماً بأن للشاعر شخصية لابد من التقاطها للوهلة الأولى، شخصية تسهم في صوغ تجربة نص الشاعر وامتزاجه بهواء الحياة. سوف تظل شخصية أدونيس من بين أندر الذين صادفتهم من حيث طبيعتهم الإنسانية التي تتيح لك الشغف بها عندما ترغب. فطوال سنوات صداقتي بأدونيس، لم أسمع منه كلمة سوء في حق شخص آخر، رغم تفشي حمى أجواء الكلام العام.

من هنا أعتقد بأن للجانب الشخصي في تجربة أدونيس دوراً حاسماً في محبة الكثيرين له، وستجد نفسك مأخوذاً به كصديق استثنائي. وإذا كان لأدونيس أن يشعرك بحقك في الاختلاف معه، فمن المتوقع منه، أيضا، ألا يفرط في هؤلاء الأصدقاء الذين يحبونه ويحترمونه ويضعون تجربته الإبداعية في مكانها اللائق والمناسب، متشبثين بحقهم في الحب وحقهم في أن يتكلموا عن الحب والحرية .. بحب وحرية أيضاً. وألا يكونوا عرضة للاستعداء لأي سبب.
ليست مصادفة أن يكون أدونيس رائداً متميزاً في حقل الإبداع العربي، ولا يصادف المرء شاعراً شغوفاً بالمغامرات وحرية المخيلة كل يوم، وليس من المتوقع أن يلتقي الإنسان صديقاً حميماً عند كل منعطف، ومن المؤكد بأن الجنون الجميل الذي استحوذ على تجربتي لن يكون على هذه الجرأة والحرية لو لم أعرف أدونيس.
كنت قد قلت عنه ذات لقاء : أنه درس الشعر الدائم، وأظن أنه سيظل كذلك طويلاً. @

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى