وحيدون يا صديقي، وحيدون جداً

(1)

العام 2000 ، منعطف تاريخي على مستوى الكون والبشر بلا استثناء.
حتى العرب منهم، لم لا. انهم ممن يسكنون هذا الكوكب على الأقل. وحدث مثل هذا ليس أقل من اشتراكنا في الاحتفال بحلوله. ولقد شاركنا مع العالم في ما لا يحصى من الاستفتاءات في كل وسائل الإعلام، تحسرا على القرن الماضي، وتأملا في القرن القادم.
وليس بوسع المرء أن يجزم ما إذا كان حقنا في الحسرة متساو مع حق باثي الأمم أم أن لنا الحق في الأمل في المستقبل، بقدر ما لنا في ما تحقق من الخسارة في الماضي. لا أحد يحاسبنا على الكلام، ومعظم مشاركاتنا في الاستفتاءات هي مجرد كلام، والحق أنها كلام فارغ لا أكثر.
فليس في الواقع العربي ما يمنح الثقة في أن حقنا مكفول في المساهمة بتحقيق أحلامنا التي (نتكلم) عنها، بنفس درجة الحق في نعي الماضي و التحسر على الخسارة، بل أن أحدا لا يضمن لنا أن هذه الخسارة لن تتواصل في هذا العام وفي القرن القادم أيضا. و إلا فإننا لسنا منجمين لكي نطرح توقعاتنا لمستقبلنا في القرن القادم. حتى لو كانت (مجرد توقعات) كما يحاول الصحفيون وأصحاب وسائل الإعلام الذين أمضوا الأشهر الثلاثة الأخيرة في السعي لجمع ما يمكن جمعه من توقعات الناس في شتى التخصصات لما سيحدث في الألفية الثالثة. نقول أنه حتى التوقعات من وجهة النظر العلمية، لابد أن تكون صادرة عن درجة واضحة من المعرفة و الحقائق المادية التي اختبرها الإنسان ومخضتها التجربة، ففي نهاية القرن العشرين لا يجوز أن نستقبل القرن الواحد والعشرين بهذا النوع من الاستهانة بالعقل الإنساني، متذرعين بنفس العادة التقليدية التي لا ترى في التوقعات أكثر من كونها ضربا من التنجيم.
كيف يصح لنا أن نزعم قدرتنا على توقع ما سيحدث في الألفية القادمة (يعني مدة ألف عام) في حين أننا لا نستطيع أن توقع ما سيحدث في الشهر القادم، بل أن مشروعا عربيا مبرمجا يؤكد لنا ما سيحث أو ما سنفعله السنة القادمة غير متوفر بالشكل العلمي الذي يذهب به العالم إلى القرن القادم. ترى هل يمكن لكائنات تخضع لمثل هذه المخلفات البالية من القصور، أن تشارك في توقعات ما سيحدث في القرن القادم بأكثر من الكلام الفارغ.
لقد تابعت الكثير من الاستفتاءات العربية في وسائل الإعلام المختلفة، فشعرت بالقدر المهين منم الاستهانة لعقل السامع والقارئ والمشاهد، بحيث تتحول الأمنيات الساذجة (رغم مشروعيتها) عند الكثير من المشاركين إلى ضرب من التنظير و التكهنات المنطقية الزاعمة (أن ذلك سوف يحدث كذلك). وسوف يأخذ الحماس بعضهم ليعتقد (داعيا الآخرين إلى الثقة معه) بأن سنة ألفين، والألفية من بعدها، ستكون المفتتح الكوني لوضع العرب في مرحلة مشاكلها المحلولة. كما أن هناك من أكد لنا بأن كل شيء سيحدث بالضبط في القريب العاجل، كما لو أن القرن الجديد هي فرصة العرب الأخيرة، (لقد طال انتظارنا بما يكفي) أوشك البعض أن يصرخ. وفات هؤلاء أن يقولوا لنا ما الذي سيحدث، لو أن شيئا لم يحدث.

(2)

ثمة فأل حسن أن نستقبل هذا المنعطف بالتباس في سنة 2000 بين الدلالة الرقمية والدلالة الزمنية. فقد استقبل العالم العام ألفين بما يمكن وصفه بالالتباس المتوافق عليه، التباس خلط لنا حلول العام 2000 بدخول الألفية الثالثة. وأقول التباس متوافق عليه، لكون الجميع يعرف (أو أنه سيعرف لو اكترث وتريث قليلا) بأن سنة 2000 هي نهاية الألفية الثانية، وأن القرن الواحد والعشرون سيبدأ من عام 2001 . وبالرغم من وضوح هذا الأمر إلا أن هذا التباس العالمي أصبح في حكم الواقع الحقيقي، في حين أنه ضرب من الواقع الافتراضي الذي سيحسن الغرب اقتراحه علينا دائما، (بوصفه نموذجا حيا لما يمكن أن تحققه آلية العولمة الإعلامية من ترويج الحقائق المشكوك في صحتها).
لم يتوقف أحد مبكرا ليقترح على الناس التفريق بين الحدثين الملتبسين، وبدا أن هذا الخطأ الفاضح، المكرس عالميا، بمثابة الصواب الشامل الذي تبنى عليه مجمل الاحتمالات والمشاريع والتوقعات. لم لا. إن أحدا لن يتضرر من هذا الاحتفال المهرجاني العالمي بحدث سوف يحدث بعد سنة واحدة كاملة. لم لا، يقول الرئيس الأمريكي، "يمكننا الاحتفال ثانية في العام القادم". لن يخسر شيئا، الذين سيخسرون هم الذين يعيشون خارج الزمن، والذين بالغوا في الاحتفال بلا شعور غاية في التركيب والتعقيد مفاده أن ثمة أرواح مقهورة (على كل صعيد) تحلم أن تحدث المعجزة في القرن الجديد، ويتوفر لها (مقهورة على كل صعيد) المسكن والأمان والكرامة الإنسانية، لكي يجوز لها بعد ذلك (وليس قبله) أن تطالب بالحريات والديمقراطيات والانتقال الضوئي. من هذه الشرفة نستطيع فهم هذه الكرنفالات التي نصبتها الدول لشعوب (عبر العالم - حسب تعبير العولمة) من أجل أن تعبر عن توقها للمعجزات. لكن أحدا لم يقل لنا ماذا سيحدث لو لم يحدث شيء.

(3)

نموذج مضاعف من الهدر العالمي العلني للمال العام، لقد وضعنا قلوبنا على راحاتنا (لاهين، كطبيعة شخصية، عن تلك الكرنفالات) توجسا وخشية وخوفا من حدوث مشكلة الصفرين لأجهزة الكمبيوتر. الأمر الذي شاع فينا حتى وصل (رغم التطمينات المتأخرة والغير ذات معنى جوهريا) لاحتضان أجهزتنا الشخصية لحمايتها من ذلك الاحتمال المؤكد. ولولا كونه مؤكدا (حسبهم) لما بذلت الدول والحكومات والمؤسسات والشركات ورؤوس الأموال وشحاتي الأجهزة الشخصية، مقتنعة ومؤمنة بضرورة صرف كل تلك الملايين من الدولارات والدنانير للحيلولة دون وقوع تلك الكارثة، التي أطلق عليها بعضهم كارثة القرن. كل ذلك خشية من غباء متوقع لدي جهاز الكمبيوتر لحظة قراءته الصفرين بدل 99، وعدم فهمه لهما، فيرتكب الحماقات التي تحدث العطب الكارثي في البرامج والأنظمة والمحتويات الأخرى. والحق أننا خفنا مثل غيرنا، رغم أن أحدهم أوشك على أن يقسم لي بأغلظ الأيمانات بأن جهازا تافها كالذي أستخدمه لن يكون في برنامج أصغر برامج الكارثة .. إذا حدثت. ولكوني من المأخوذين بشبكة الانترنت ولكونها أحد أخطر مظاهر ومداخل العولمة، زعمت له أن قلقي يتجاوز الشخص إلى العالم فهذه مسألة كونية، ثم واصلت قلقي الفتاك.
ولا أعرف لماذا فات على أحدنا التفكير (هل هذه الخاصية لا تزال من طبيعتنا؟!) لكون الكمبيوتر من الذكاء بحيث يتفهم سهوا بشريا يقع فيه الإنسان تسع مرات في الساعة يوميا وعلى مدار السنة وعبر القرون السالفة واللاحقة. وليس لنا إلا أن ننتظر عبور ذلك البرزخ الجهنمي لنعيش تجربة الانتقال من عام 99 إلى 2000 ، لنكتشف بعدها كم هذا الجهاز أكثر ذكاء من البشر، وكم هو قادر أيضا على تجاوز حماقات البشر وغفرانها.
هذا ما تم اكتشافه صباح اليوم التالي، بعد هيلمان الكرنفالات والذعر العالمي (لحقوق الإنسان المقهور على كل صعيد). لقد هدرت كل تلك الأموال الطائلة من خزائن الدول المدينة والدائنة على حد سواء، وتأكد بما لا يثير الشك بأن لنظام العولمة القدرة الغامضة لإقناع العالم ببذل الأموال على أكثر المشاريع قابلية للحلول المسبقة التي تستوجبها طبيعة الأشياء المصنوعة من قبل بشر لا زالوا يقدرون على معالجتها لو أن أحدا طرح بعض الشك في تهويلات، كيف لنا أن نفهمها ونحن في هذا التفاقم الفاجع لنقص المعرفة في حياتنا. وكان لنا أن نسأل فحسب، ألئك الذين قادوا وروجوا وكرسوا تلك الكارثة الوشيكة من أجل أن يقولوا لنا :
ما الذي سيحدث لو لم يحدث شيء. على الأقل كان لنا الحق أن نعرف.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى