مي الخليفة، تضع الوثيقة على الطاولةً

(1)

هذه المرة، جاء إلى القرامطة شخص من (البحرين) لينعش بهم الذاكرة. فبين القرامطة وأهل البحرين (الجغرافية الحديثة خصوصاً) ثمة وشائج غامضة، لا تتصل بحقيقة التاريخ إلا كشكل من أشكال الفذلكات اللطيفة التي تعالج حنيناً (لا يقبل التفسير) سيتصل دائماً بنزوع التمرد والخروج والاعتراض. ومن هذه الفذلكات أنني سوف أعتبر كتاب مي محمد الخليفة (من سواد الكوفة إلى البحرين) واحداً من أجمل الاستعادات، رشيقة التأمل، لهذه الحركة الموغلة في التاريخ الإنساني والحاضرة في قلب الواقع العربي (كأنها الآن إلا قليلاً).

(2)

مي محمد الخليفة مؤلفة بحرينية طرحت قبل سنوات تجربة لافتة في الكتابة التاريخية، بدأت أهمها بتاريخ يتصل بما يمكن تسميته بالوصف السردي لتاريخ جدها الشيخ محمد بن خليفة، الذي حكم البحرين في نهايات القرن الماضي، وتعرض لحركة استبعاد دراماتيكية شارك فيها الاستعمار البريطاني الحاكم بأمره لعموم منطقة الخليج وقتها. وبالرغم من أهمية ذلك المؤلف من الوجهة الوثائقية، إلا أن بعضهم قلل من جدية التجربة التاريخية المفاجئة التي تقترحها مي الخليفة، بحجة أن ثمة دوافع شخصية وراء ذلك السعي. وإذا كنا نفهم تلك الاختزالات الصادرة من حساسيات اجتماعية تقليدية، فإننا لا نتفق معها، ولا نميل إلى ذلك التحفظ لتناقضه مع ضرورة الدرس الحضاري لتاريخ المنطقة الذي يتوجب علينا تأكيد الحق العام في إعادة كتابته بوجهات نظر مختلفة، على أن لا يكون من بينها مصادرة أي اجتهاد، وان كان اجتهاداً صادراً من دوافع ذاتية. أكثر من هذا فإنني شخصياً صرتُ ممن يعتقدون بأن حاجتنا الملحة (إنسانياً) أن نحقق حريتنا في قراءة تاريخنا الحديث والمعاصر، صدوراً من الحساسية الذاتية بوصفها الروح الحقيقي الذي يمنح التاريخ حيويته وعفويته، وبالتالي صدقه، هذا الصدق الذي (يحررنا من برودة وحذلقة الدرس الأكاديمي) لن يتناقض مع الحقيقة التاريخية، مادامت ثمة آفاق مفتوحة لجميع الاجتهادات لكي تقول التاريخ نفسه من وجهات نظرها (الذاتية) هي الأخرى. أقول هذه الفكرة محاولاً الإسهام في اختراق وهم (الموضوعية التاريخية) التي شدخوا رأسنا بها طوال الوقت، في حين (أنهم) لم يفعلوا سوى كتابة التاريخ من وجهة نظر الحاكم شخصياً في كل العصور باسم الموضوعية، وهي في حقيقة الأمر كتابة تصدر وتسعى إلى تدوين وجهة النظر (الذاتية) لحاكم بعينه في كل مرة.
فبعد مئات السنين لابد لنا من إعادة النظر في طريقة كتابة التاريخ، متحررين من الطريقة (الموضوعية) الفجّة المملة وغير الجديرة بالثقة، ونبتكر الطرق المختلفة لكتابة التاريخ بما لا يحصى من تعدد وجهات النظر، دون أن نكون ملزمين بالركون إلى رواية واحدة وكاملة لرواية واحدة، بل أن علينا انتخاب ما يستقيم مع التجربة الإنسانية المعاصرة في كل وقت. لست بصدد اقتراح طريقة محددة لكتابة التاريخ، ولكن ثمة سأم بات ينتابني (أنا المولع بالتاريخ) فيما أستعيد الكثير من الروايات التاريخية لكي أكتشف حجم الكذب الرسمي الذي كنا نتجرعه طوال عمرنا بوصفه التاريخ الصحيح والكامل للحقيقة. أقول نبتكر الطرق المختلفة، لئلا يغفل أحد عما يتعرض له العالم في اللحظة الراهنة (التي ستكون قديمة صباح الغد) تحت وطأة التدفق اللامحدود للمعرفة وآليات تداولها والحريات التي تفرضها هذه الحقيقة، التي لم تزل بعيدة عن إدراك أصحاب أطول شوارب في مضاربنا. أقول ذلك لكي أعني،خصوصاً، البعد الحقيقي للفعل الشخصي في تحرير المعلومة وصناعتها ونشرها.

(3)

قبل ذلك وبعده، لا ينبغي الاستسلام لحتمية البعد الذاتي في عمل مي الخليفة التاريخي، فالوثيقة ليست نصاً ذاتياً، كما أن الحقيقة التاريخية لا تكتسب طبيعتها إلا مما يمنحه لها النظر النقدي من تأمل وتحليل، يقرأان الواقع من خلال الشبكة الكثيفة التي تشرعها تلك الوثيقة وهذه الحقيقة، وأخيراً ليست الحقيقة نهائية حتى وهي مرصودة بالوثيقة التي تظل دائماً قابلة للنقد والنقض بوثيقة محتملة تقترح حقيقة أخرى. أليس التاريخ هو الكتاب المطروح للقراءة إلى ما لانهاية؟
لكن، حين أشير إلى ضرورة الإصغاء إلى تجربة كتابة التاريخ المكتوب بوجهة نظر صادرة عن الذات الشخصي للكاتب، لا أصف كل ما كتبته مي الخليفة بذلك، (وان كنت أميل إليه) ولكنني أسرد نموذجاً عملياً مما يمكن أن تمنحنا إياه الروايات الذاتية المتعددة الدوافع للتاريخ، ففي تجربة كتاب مي الخليفة (الأسطورة والتاريخ الموازي) مثلاً، تفتح المؤلفة اجتهاداً يكاد يكون بكراً في حقل الدراسات التاريخية للفترة الحديثة والمعاصرة في الخليج عموماً والبحرين بشكل خاص، فهي دأبت بسعي كثيف على نشر العديد من الوثائق التاريخية المتصلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي للبحرين في مرحلة كثيفة الأحداث، عنيفة الصراع، حاسمة التحولات، بحيث شكلت هذه الوثائق في حد ذاتها اختراقاً علمياً يتوجب تشجيعه وتأكيد مشروعيته على الإطلاق. فقد عهدنا في المؤلفات التاريخية المحلية والعربية، فيما تتعرض لتاريخ المنطقة،تقع (بالوعي حيناً وبالوهم أكثر الأحيان) ضحية المحاذير والحدود التي تحجب الحقائق وتحول دون نشر الوثائق أو الإشارة إلى أحداث تتصل بالتجربة السياسية والاجتماعية، إلى حد نكاد نشعر بأن ثمة حرماناً مفروضاً علينا لئلا ندرس تاريخنا الحديث بالحرية ذاتها التي يدرس فيها الأساتذة المؤرخون تفاصيل الأحداث فيما وراء البحار، كما لو أننا لم نتعرض للتجارب الإنسانية الطبيعية التي خاضها غيرنا من البشر. فأدى ذلك بالنتيجة إلى الجهل الفادح لتاريخنا القريب والأقرب، جهل يغرق فيه أكثر من جيل في شعب هذه المنطقة، حتى أنهم سيعرفون كثيراً عما حدث في تجربة تأسيس الولايات المتحدة منذ حوالي قرنين، لكنهم لا يستطيعون الكلام عن الحقيقة القريبة التي نشأت من جرائها دول الخليج العربي مجتمعة (بقضها وقضيضها)، الأمر الذي يحول دون فهمهم للظروف والملابسات التي تفسر هشاشة الواقع، وإدراك كنه التشظي الراهن الذي أصبح الأحفاد يتجرعون مرارته ويتحملون الخسارة الحضارية الناتجة من غياب المنظومة السياسية المتماسكة في سياق مشهد عالمي لا يعود فيه معنى للدويلات الصغيرة (الحجم والأحلام) المتناحرة المتقاتلة على تفاصيل سبق أن اشتغل بها الإنسان البدائي حتى التخمة.

(4)

يتوجب أن الكلام ما زال لمناسبة كتاب مي الخليفة عن القرامطة. ولكنني أميل إلى هذا التداعي المتصل بصميم الموضوع. ألم أقل أن ثمة ما يشبه الحنين الغامض لتلك الحركة التي ستمثل أمامنا دائماً ونحن نتأمل المشهد الراهن، كأن أبا سعيد الجنابي بالكاد يغادر التاريخ ليدخل في الكتاب.
سيحلو لنا أيضاً الإصغاء لهذا الضرب من التداعي المتصل بجوهر موضوعنا. وسيحلو خصوصاً أن أرى في الاجتهاد الذي اقترحته علينا مي الخليفة، في غير كتاب، متبلوراً أكثر في (سبزآباد)، نزوعاً نحو حرية طرح الوثيقة على الطاولة، لكي تتحرر أولاً من عتمة الخزانة وتسطع عليها الإحداق المشرعة المأخوذة بالدرس والتحليل من كل جانب، وثانياً لكي يرفع احتكار الحقيقة من أية جهة كانت ونزع قدسيتها تحت أي حجة تكون. وهذا بالضبط ما يمكن تقديره لمي الخليفة التي (مهما كانت دوافعها الذاتية وهي مشروعة) اقتحمت الثغرة لتتركها فوهة مفتوحة على الكهوف الأليفة. فمن أوليات حق الدرس التاريخي علينا هو حرية الوصول للوثيقة وحرية نشرها وحرية تأويلها أيضاً، لكن دون أن نكون ملزمين بكل ما تقترحه علينا الوثيقة أو ما يسرده لنا التحليل الشخصي للنص (متناً وهامشاً). لابد لنا من التمتع بحرية النظر الشخصي حال خروجنا من النص، نحن الذين ورثنا الخروج على النصوص. ألم أزعم بأن في التاريخ شأن ذاتي.

(5)

وعطفاً على إشارتي لضرورة الإصغاء للدرس التاريخي من وجهة النظر الذاتية، سأقول أن في هذا المنزع ضربٌ من تدمير وهم التقليد الرسمي من جهة، ومن جهة أخرى سوف يتحول التاريخ إلى مادة متاحة للحق العام الذي سوف يتعرف على ما تخفيه (الرواية الموضوعية) للتاريخ. إن النموذج المستحدث الذي أشرت إليه، والذي طرحته علينا تجربة مي الخليفة، سوف يتجلى لكل من قرأ كتاب (الأسطورة والتاريخ الموازي) و(سبزآباد)، وأعني بالضبط الحضور الحاسم للوثيقة، التي شكلت السارد المحوري في الكتاب، فأسست لكشف حجم الاحتدام، في تلك الفترة التي تعرضت فيها المنطقة إلى نوع عنيف من الحراك السياسي والاجتماعي، ذلك الاحتدام الذي أججه الاستعمار البريطاني وأحسن توظيفه بشكل يكرّس توسيع الفجوة بين ما يمكن وصفه (اختزالاً يخل) بالمشروع الطبيعي المحتمل للدولة الحديثة في المنطقة، وبين الطموحات الشعبية التي ما كان لها أن تتعثر بالنزوعات القبلية والاثنية ولا تخضع لها. أقول أن التفاصيل المذهلة التي عرضتها علينا الوثيقة (وأختها) في ذلك الكتاب، كانت بمثابة الكشف الجريء الذي من شأنه إضاءة وتفسير ما نراهنه ونراهن عليه.
دليلنا على ذلك ما تبسطه علينا مروحة الوثائق العريضة التي ينشرها الكتاب الأخير للمؤلفة (مائة عام من التعليم النظامي في البحرين) الذي سيبدو للوهلة الأول كما لو أنه انعطاف عن مسار الحقل السياسي الذي انشغلت به بحوثها السابقة، غير أن تأملاً متأنياً سيرى في اقتراح الكتاب الأخير، فيما يكشف تفاصيل السنوات الأولى لتأسيس التعليم في البحرين، عرضاً ذكياً يرسم لنا الجانب الآخر من المشهد المبكر لتأسيس البحرين الحديثة، حيث نتأكد من السعي الشعبي والانبثاق الأول للتعليم. وليس من غير دلالة أن ينشأ هذا السعي منذ نهايات القرن الماضي، أي قبل تأسيس أول مدرسة رسمية بسنوات، مما يشي بأن التعليم النظامي الذي بدأ في العام 1919 هو نتيجة لتعطش شعبي فطري للتعليم، مستجيباً (بصعوبات الولادة الطبيعية) لأشكال مختلفة من مشاريع التعليم، إن كانت بدوافع التبشير أو بروافع التطوير. نريد القول أن انعطاف المؤلفة نحو دراسة تاريخ التعليم هو استكمال موضوعي للواقع الاجتماعي منذ بداية القرن، لكي نحيط بسياق تاريخي (لم ينج من ملابسات التدوين) نشأت فيه حركة التنوير والتوق الاجتماعي إلى التغيير والتطور. مما يثير في أذهاننا السؤال التالي: إن شعباً كان قد بدأ الاستعداد للتطور وتحقيق المجتمع الحديث منذ نهايات القرن الماضي، والذي افتتح مشاريع التعليم في المنطقة، منطلقاً في مقدمتها، كيف حدث أنه (بعد قرن كامل من الزمن) لا يزال يقف في الصفوف الخلفية من الطابور، منتظراً كل هذا الوقت محروماً من التمتع بالشروط الحضارية الكاملة للمجتمع المدني، بحجج كثيرة، من بين أكثرها استهانة عدم أهليته الثقافية لممارسة أحلام تحرره الكامل. نقول : كيف ولماذا؟ أليس في مثل جوهر هذا السؤال ما يتصل بصلب مشروع التأمل والبحث التاريخيين لمجمل مؤلفات مي الخليفة؟ أليس من حقنا أن نرى، في كتابها عن تاريخ التعليم في البحرين، وعياً بالدور الحضاري للتعليم في حياة الشعوب وفي صياغة أحلامها للمستقبل؟ وأخيراً، أليست مثل هذه الأسئلة هي طريق الحقيقة التي تقترح المؤلفة السعي نحوها من أجل تحرير الكائن في الإنسان؟ شخصياً، لا أرى أقل من تحرير هذه الأسئلة المحبوسة لكي نستحق درس التاريخ على الصعيدين : الذاتي والموضوعي، كل في حقل عمله ومركز مسئوليته، ومن لديه أذن فليسمع.
فليست مصادفة أن تفتتح المؤلفة كتابها الأخير (معلنة دافعها الذاتي للمعرفة) بكلمة (برنارد هاكن) التي تقول : (تعلّم الحقيقة وسوف تصبح حراً). بهذا المعنى ينبغي أن نتجرع كأس الحقيقة بكافة أخلاطها، مراً ، مريراً، فليكن، لكنه جدير بشهد المستقبل.
من هنا قصدت إلى أي حد سيكون السرد التاريخي بالحساسية الذاتية سوف يفدح لنا ما يلجأ إليه السرد (الموضوعي) وما يمارسه الكثيرون من المؤرخين مما لا يمكن وصفه بأقل من التلفيق العلني للتاريخ من أجل إظهار الحدث كما يحلو للمزاج الرسمي، حاكماً كان أم حزباً أم قبيلة حتى أصغر كاتب عرائض في أحد الأسواق.

(6)

هل تحدثت بعد عن كتاب القرامطة؟ أعني هل كنت أتحدث عن موضوع بعيد عن القرامطة على الإطلاق؟
قلت لكم ما أخذني إليه التداعي الأول، لكن بقي أن أقول ما سيحلو لي في التداعي الثاني بالمقالة التالية. فإنني حاولت الإخلاص للحظة شخصية مع القرامطة الأشقاء، دون التنازل عن الشعرية التي ستغمرني دائماً كلما تعلق الأمر بشقائق الروح الذين أهملت دائرة الهجرة تسجيل انتسابنا (غير المنسي) لروحهم الحاضرة. ولعل في هذا الاستطراد الممتع للتداعي الحر، ما يشبه التحية الخاصة للكاتبة مي محمد الخليفة، التي تستحق التقدير على ما تبذله من الانهماك في البحث والدرس والتأمل.@

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى