ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 

زائرٌ أزرق،

يتجول في غرف البيت، والنساء يشهرن النارعليه

منذ أن خرجت من حدود البيت متعرفاً على أطراف مدينة المحرق، كنت أصادف البحر في كل مكان. في البحرين (فيما اكتشفت لاحقاً) وفي المحرق خصوصاً، سوف يتسنى للمرء أن يصادف الأفق اللازوردي الفاتن في نهاية كل طريق، فكل طرق المحرق سوف تبدأ بالبحر وتنتهي به كل يوم.

من أي مكان في المحرق يمكنك أن تلتفت لكي ترى البحر ينتظر هناك.

كأن ثمة كائناً أزرق ينتظر الجميع في كل منعطف.

ولعل في تلك الألفة الحميمة أحد أجمل أسرار المزاج الإنساني الذي يصوغ علاقة المرء بأشياء الحياة.

ولفرط تغلغل الكائن الأزرق في حياة الناس اليومية في المحرق، تحولت العلاقة من كونها طريقة حياة وعمل إلى نوع من الضرورة الفيزيائية التي أدت إلى عدم قدرة الشخص في المحرق على الاستغناء عن الاتصال بالبحر مرة واحدة كل يوم على الأقل. ولدى أبناء المحرق أسباب لا تحصى للالتحاق بالبحر يومياً، وتقديم فروض المحبة له، فإذا لم يكن بدافع المهنة والعمل، وإذا لم يكن بسبب هواية الصيد، وإذا لم يكن بسبب المتعة وترفيه النفس، وإذا لم يكن لضرورات الانتقال والاتصال، فثمة من يبتكر أسباباً كثيرة من بينها الزعم أنه يفعل ذلك للاطمئنان بأن البحر لم يزل هناك.

لقد تداخلت المحرق مع البحر بصورة تكاد تجعلنا نؤمن حقا بأن هذه المدينة هي صديقة البحر بامتياز. لن تعثر في المحرق على عائلة تخلو من علاقة ما بالبحر بشكل من الأشكال.

دائما سيكون البحر هناك.

لقد كان البحر كائنا كلي الوجود بالنسبة لنا. والذين عاشوا في أطراف القرى والمدن التي تطل بيوتها مباشرة على البحر، يتذكرون الزيارة الشهرية التي يقتحم فيها البحر البيوت مثل ضيف متوقع. كانت معظم البيوت الشعبية الكائنة على الساحل مباشرة مبنية من سعف النخيل، ولفرط الاتصال الحميم بين الإنسان والبحر، لن تكون هناك موانع تحول دون دخول البحر إلى تلك البيوت وقتما يحلو له ذلك، وبدون استئذان. ومن مألوف تلك الأيام  أن أوائل كل شهر عربي هو موعد منتظر لارتفاع المدّ بصورة تجعل مستوى الماء عالياً وممتدا بحيث يتجاوز الحدود العادية للساحل. وأذكر أنهم كانوا يسمون ارتفاع المد أوائل الشهر العربي (ماية الهلال) لارتباط ذلك المد ببزوغ هلال الشهر العربي أشهر الصيف خصوصا. ويختصرون التسمية بقولهم جاءت (الماية)، وهو لفظ تدليل لكلمة الماء وهو يزداد ويفيض ويخرج من سواحله ليدخل ضيفاُ على الأكواخ الفقيرة المشيدة من سعف النخيل. وسيكون مألوفا أن يستيقظ أهالي الساحل على حركة غريبة تحدث في حوش البيت وغرفه المصنوعة عادة من سعف النخل وبعضها من الطين. فامتداد البحر وارتفاعه حتى حوش البيت، سوف يجعل كل أدوات المنزل ترتفع عن الأرض وتسبح بهدوء في أروقة البيت، وتدريجيا سوف يصل الماء إلى البسط (الحصير) الخوصية، ثم فرش النوم ليدفع الأهالي للإسراع من أجل رفع الفرش وأدوات البيت الأخرى إلى أماكن تقيها من التلف أو التسرب عائدة مع (الماية) عند انسياب الموج العائد إلى بيت البحر. لقد كانت حيطان البيوت المصنوعة من الجريد مخلخلة، عند أصولها، بحيث لا تمنع الماء ولا الهواء، الأمر الذي يجعل تسرب البحر سلساً، ولا يشكل ظاهرة كارثية آنذاك. كانت حياة الأهالي في مثل تلك الأيام طبيعية وتخلو من الاحتجاج على مداعبات الطبيعة البحرية ورغبتها في تبادل أنخاب الحياة، كما لو أنهم يتفهمون هذا الزائر ويرحبون به مفسحين أمامه الوقت والمكان، لكونهم يدركون أن ذلك أمر مؤقت، فبعد ساعات قليلة سوف ينسحب البحر نحو بيته. وربما اعتبروا زيارة البحر لبيوتهم رداً كريما على زيارة أهالي المحرق الدائمة للبحر طوال المواسم، نزهة وصيداً وإبحارا وسفرا ومباهاة.

أكثر من ذلك فإن أهالي السواحل كانوا يرون في تلك الظاهرة خيرا يستبشرون به ويتفاءلون، فمع ارتفاع المدّ سوف يتوفر السمك بصورة أكثر، و أذكر أن الأطفال في تلك المواسم يجدون فرص صيد الأسماك الصغيرة متاحة بصورة أكثر، فيلجأون إلى وسيلة شهيرة للصيد، آنذاك، تتمثل في إناء من أواني البيت مغطى بقطعة قماش بيضاء خفيفة مثقوبة في الوسط، ويضعون داخل الإناء بقايا الخبز أو بعض العجين، ويتركون الإناء في ماء الساحل فيمتلىء الإناء سريعا بنوع معين من السمك الصغير يسمونه (المَـيْـد).  

وفي الساحل الشرقي للمحرق سوف يتفنن الصبية في ابتكار الوسائل لصنع القوارب الصغيرة بصفائح البراميل وبعض قطع الخشب وقليل من القار المأخوذ من بقايا تبليط الشوارع ، لكي تتحول أيام المد مهرجانا يبدأ من بعد الظهر حتى سهرة الليل. وتتحول تلك الشطآن إلى مكان يعج بالكبار والصغار كما لو أن في الأمر ضرباً من مهرجان البحر الزائر.

لقد كانت تلك أيام دخول البحر في الناس.

أيام لا نكاد ندرك حدود البحر من حدود البيوت، وأسرة النوم، وسفرة الأكل، أيامها يتصاعد اللهو مع البحر الذي يبالغ أحيانا بالعبث بنا. المهم أن البحر وقتها سوف يغسل كل أشياء حياتنا، فكل ما لا نقوى على أخذه إلى البحر من أجل تنظيفه، سوف يأتيه البحر إلى مكانه ليغسله لنا بكل كرم. وسوف نصادف البحر يدخل المدينة من كل المداخل المطلة على الساحل، سيكون البحر هو ملك الوقت والمكان.

ظاهرة المد هذه واحدة من أشكال الاتصال الحميم بين الناس والبحر. فالألفة كانت يومية بصورة تشفّ عن تفاهم غامض بين الناس والبحر. ولفرط العلاقة الأزلية بين الناس والبحر، ثمة شعور ينتابني أحيانا بأن الناس يتصرفون مع البحر بوصفه كائنا عاقلاً يحسن التفاهم معهم، ويدرك مشاعرهم تجاهه. ولعل بعض الطقوس المرتبطة بالبحر تشي وتؤكد هذه الطبيعة البشرية في تلك العلاقة.

فلا يخلو من دلالة مثلا ذلك المشهد الذي تخرج فيه النساء، أيام الغوص، بعد أن يطول غياب الرجال لشهور، ويتفجر شوق النساء لأزواجهن، الذين بالغوا في رحلة الغوص على اللؤلؤ، تخرج النساء متوجهات إلى البحر معبرات عن انتظارهن الطويل، يطلبن من البحر أن يأتي برجالهن في أغنيات جارحة الحزن

 (جيبهم جيبهم   خاطفين بجيبهم)

ويعني:  أرجعهم لنا مشرعين قلاعهم.

ثم يتصاعد ذلك الموقف كلما طالت غيبة الرجال، فيتحول الشعور إلى نوع من الغضب، مما يدفع النساء إلى معاقبة البحر لإمعانه في تغييب الرجال وعدم إصغائه لتضرعهن له. فيحملن في أيديهن سعف النخيل المشتعل متجهات إلى الساحل، ليغمسونها في ماء البحر كناية عن كي البحر، وذلك إشارة إلى غضبهن منه. ولعلهن بذلك العمل يعبرن عن حقهن في الانفعال والغضب على صديق حميم مثل البحر، يسمع نحيبهن، ولا يصغي ولا يكترث بشكايتهن وشوقهن إلى الرجال الغائبين.

كان في ذلك شيء من الأسطورة، فالميثولوجيا رفيقة أهالي هذه الجزر منذ الأزمان السالفة. لكنها في زمن الغوص خصوصاً تحولت إلى ضرب من الفلكلور المتصل بحياة الناس اليومية وعملهم وطريقة معيشتهم ومعايشتهم للطبيعة. إلى ذلك كانت النساء تؤدي نوعا من النذور تجاه البحر في حالات مختلفة من تأخر الغائب أو مرضه، أو تعرضه للغرق ونجاته منها، حيث كان الأهالي يقدمون أنواعا معينة من الطعام تعد خصيصاً للبحر بمثابة القرابين، رجاة أن يشفق البحر على الشخص المقصود، فيعيده من سفره، أو ينجيه من مرضه.

وللمشهد الجماعي الجميل لمجموعات الأطفال، وهم يتوجهون إلى سواحل البحر حاملين أصص القمح النابت في قَِفف الخوص الصغيرة، كان قد سهر الأطفال على رعايتها طوال أيام قبل عيد الأضحى، ليقوموا برميها في البحر في مساء اليوم الأخير قبل العيد، كما لو أنهم يقدمون أضاحيهم الخضراء بتلك الصورة المشحونة بالدلالة التي تعبر عن حالات مختلفة في العلاقة بين الناس والبحر، تلك العلاقة التي تتراوح بين الشد والجذب بناء على ميثولوجيا قائمة على حالات الحياة والعمل في ذلك المجتمع.

ولم أزل أتذكر تلك المناسبات التي تتكرر بعد انتهاء أيام حداد المرأة عند وفاة زوجها، ففي اليوم الأخير من أيام (عدتها) التي تكون فيها معتصمة في دارها أربعة أشهر، محجوبة عن غرباء الرجال من المحارم، تخرج مغطاة بالكامل متوجهة إلى البحر في بداية الليل متسترة بالعتمة السرية، كمن تذهب إلى موعد حميم متوخية الستر. فتتوغل المرأة وحدها داخل البحر حتى تغتسل بكامل جسدها تطهرا من أيام (العدة)، ربما ليشهد البحر على طهارتها بعد زوجها الميت. وبعد أن تعود من أداء ذلك الطقس تستعيد حياتها الطبيعية. ويبدو الأمر مثل امرأة تكون مستعدة لحياة كاملة جديدة.

كنت أرقب ذلك كثيرا، وأرى فيه غموضاً لا أقدر على تفسيره أبعد من الذهاب إلى الغسل.لكي أكتشف فيما بعد أن للبحر كرامات يستعصي على عقل طفل مثلي إدراكها آنذاك.

ومن فضل البحر على هذه الجزر عيون الماء العذب الخفية، تلك التي كانت تتناثر كثيرا في السواحل القريبة، والتي كثيرا ما يقصدها الأهالي لرفع الماء منها عندما يحل الجزر، ويبدو الساحل أرضا براحا لمسافات داخل البحر.

لم يكن البحر قاسياً إلا بالمعنى الذي يتصل بالصعوبات الطبيعية التي تتطلبها طبيعة الحياة في ذلك الزمان، وهي صعوبات لا تختلف عن أخطار (طبيعة العمل) كما يسمونها في العصر الحديث. الصعوبات أيام الغوص بحثاً عن اللؤلؤ لم تتأتَّ من البحر في حد ذاته، لكنها صعوبات تتصل بالظروف المرافقة لمتعهدي رحلات الغوص وأصحاب السفن وتجار اللؤلؤ.

أما البحر فهو صاحب المزاج الرائق وقت الحب والعاصف وقت الحرب.

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى