ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 
نصفُ عائلة،

في نصفِ شاحنة، في منتصفِ الليل

الزمان : أوائل الستينات (يجب أن يكون الفصل صيفاً، حيث كنت أقضي ردحاً من عطلة الصيف عند ابنة عمي في القطيف).

المكان : على مشارف القطيف.

ثمة من تبرع بأخذنا في نزهة إلى الإحساء.

(أبو فيصل) زوج ابنة عمي الكبرى قائد الرحلة، و(علوي) زوج ابنة عمي الصغرى، قائد العربة. لم يكن مثل هذا الأمر مزحة آنذاك، فرحلة كهذه، في ذلك الزمن، تشكل سفراً كامل المواصفات، بما فيه عامل المغامرة. فقد قلتُ لهم ذات يوم، بعد أن جلتُ معهم (أكثر من صيف) مناطق القطيف وما جاورها:

- أليس هناك مكان أبعد من هذه النواحي؟.

في ذلك العمر، كنت مولعاً بالاستحمام في الحمامات العامة والعيون الطبيعية، التي كانت تزخرف بها حقول القطيف والعوامية وصفوى والقديح وغيرها. كان يحلو لنا الذهاب إلى ذلك الماء الدافئ في الهزيع الأخير من الليل. ذات ليلة، وأجسادنا الغضة مغمورة في إحدى الينابيع الدامسة، هتف بي شخصٌ من العائلة، لا تتبينه الذاكرة الآن، يجيبني على سؤالي اللجوج:

- نعم، هناك العين الحارة .

العين الحارة! راق لي الاسم. حسبتُ أنها في الجانب الثاني من البساتين كالعادة. صرختُ به (نذهب إليها في الليلة التالية). ضج الماء الذي نتقمصه بالضحك، لكي يتبرع الجميع بالشرح كيف أن (العين الحارة) تبعد أميالاً عن القطيف، فهي في الإحساء وليست في القطيف.

وبما أنني كنت الضيف المدلل لدى الأهل في القطيف، فقد عزّ عليهم أن تنال مني تلك الخيبة الفادحة التي عدت أجرجرها عائداً إلى الدار، قبل انبلاج الفجر بقليل. ويومها عزفت عن الذهاب معهم، كالعادة، إلى خباز الحي لكي نجلب خبز الصباح. ونمت ذلك اليوم حتى وقت الغداء، كمداً على تلك المسافة التي تفصلني عن (العين الحارة).

لا أتذكر الآن جيداً ذلك الهوى الغريب الذي يستحوذ على خيالي عندما يتعلق الأمر بعيون الماء الطبيعية المبذولة للاستحمام. ويبدو لي، الآن، إن في الأمر شيئا من المفارقة، خصوصاً وأنني لم أكن أحسن السباحة في ماء أعمق من كعب القدم، (وتلك حكاية طويلة تستحق الفضح). هل كانت المسألة ضرباً من التعويض غير الواعي عن عقدة السباحة. أم أنه ذلك الانسحار المبكر بالماء؟

على الغداء، همس لي زوج ابنة عمي، (ما رأيك أن تستحم هذه الليلة في العين الحارة؟). أدركتُ الأمر. ثمة مغامرة تنتظرني هذه المرة. انتفضت لفرط المفاجأة. وانتعشت العائلة، خصوصاً ابنتا عمي، فقد كانتا تلحان على زوجيهما منذ زمن أن يأخذاهما إلى الإحساء. ولم يبق إلا أن أتلقى عدداً من الاحتضانات الحميمة من العائلة، لأنني تسببت في تحقيق هذا المشروع. لأول وهلة، لم أكن أتصور أن تلك النزهة على هذه الدرجة من الندرة، لفرط مداعبتها أحلام الجميع. إنها (العين الحارة) ليس غير. وكان عليّ أن أتخيل أسطورية تلك النزهة مسبقاً، لكي أتهيأ للمغامرة.

لمَ كل هذا الادعاء الطفولي بشهوة اكتشاف الماء؟ ماذا ستفعل لو أنك تجيد السباحة؟ ضحكتُ في داخلي على هذه النفس الأمارة بالماء. وفجأة تخيلت الأمر : ماذا لو اكتشف الجميع أنك لا تحسن العوم، وأنت القادم من بلد يحيط به الماء من كل جانب؟! طردت الفكرة سريعاً لئلا ينكشف السر وتفسد الرحلة، فالإحساء في سواد النخل، حيث (عين نجم) تسهر لك، تستحوذ على لبّك وتستدعيك. وأنت إليها كمن يذهب إلى حلم يمتلك الجمع.

علينا أن نتحرك قبل منتصف الليل بقليل، لكي نصل إلى هناك في الوقت الذي اعتدنا أن نذهب فيه إلى ماء القطيف. ستبدأ الرحلة من (القديح) حيث دار (السيد علوي). وهذا يعني أن العشاء سيكون في (القديح). أعدت ابنتا العم لوازم الرحلة من الزاد والماء. مثل قافلة صغيرة من البدو (المبتدئين) يتدربون على صحراء حميمة، أجمل من الحلم وأكبر قليلاً من النوم. ولم يبق إلا أن نتخيل قافلة صغيرة تتزود قبل الربع الخالي بقطرة ماء (كما سيقول مظفر النواب بعد ذلك بسنوات) تقودها طفولة ماثلة نحو الماء الحار في فجر صيفي رطب.

أذكر أنني، عندما كنت أقف على ساحل القطيف، أتخيل ذلك الماء الكبير بركة لا متناهية من الماء الغامض، أقفز إليه وأبدأ العوم حتى الجانب المقابل من ذلك الساحل. وكثيراً ما رأيت أسماكاً كثيرة متفاوتة الأحجام ترافقني السباحة لكي توصلني للساحل مثل حرس يعرف أنني أفتعل العوم، مستعدة دوماً لإنقاذي في الوقت المناسب. وربما يأخذني الخيال أحياناً لكي أقرر ساعتها الإقامة في الأعماق صديقاً دائماً لكائنات الماء. ولكن سرعان ما ينتشلني من تلك الأحلام اندفاع الأصدقاء نحوي، في مداعبة ثقيلة، يريدون القذف بي في متاهة الأعماق. ساعتها أتيقن من خطورة الأوهام التي تستحوذ عليّ.

الطريف في الأمر، أن للأهل تفسيرا غريبا لشهوة السباحة في البرك الطبيعية آنذاك. حيث يقال أنّ لماء تلك العيون مفعولاً صحياً على أجسادهم، إذ تزيل أثر البعوض الذي يتولى أجسادنا طوال الليل أثناء نومنا. فقد كنا في صيف ذلك الوقت ننام على سطوح الدور (حيث لم يكن قد طالنا اختراع المكيفات بعد). وبسبب من انتشار المستنقعات الآسنة في تلك النواحي من البلاد، وهي مياه تفيض على حاجة الزرع لفرط تفجرها الذي يغمر الأرض)، لتتخلق أسراب كثيفة من البعوض، أصبحت آنذاك واحدة من مظاهر الحياة اليومية في القطيف وضواحيها. الأمر الذي يجعل الليل (خصوصاً بالنسبة للزائر الذي لم يعتد جسمه على ذلك) عذاباً مقيماً. وأذكر أنني في كل صباح أبدو مثل شخص خرج تواً من معركة دامية مع خصوم غير مرئيين. بذلك التفسير الفسيولوجي الطريف لفعالية ماء العيون الطبيعية، يخفف الأهل عني بعض الشيء بالحمام الدافئ المبكر. وكنت أستهوي ذلك التفسير، لكي أتفادى الظهور أمام الآخرين بجسد مضرج بالندوب الملتهبة في النهار. والغريب أنني سرعان ما أنسى معاناة الليل بعد أن أعود إلى المنزل من الماء، كما لو أن الطبيعة قادرة على خلق تلك المعادلة الساذجة، بين حشرات تخرج من الماء الفاسد لتعطب بالجسد البشري، وذلك الماء الطازج الذي يصبح دواءً ناجعاً لخراب تلك الحشرات، كأننا نعيد كلام شاعر قال ذات نشوة (وداوني بالتي كانت هي الداء).

ترى هل كنا نرى الأمر وقتها بمثل هذا الوضوح الفانتازي، لو أننا كشفنا أسرارنا الحميمة، التي تستحوذ على خيالنا في ذلك الليل قليل النوم، ونكابر بها أمام شغف الفتيان طوال النهار، مستحوذين على ما تبقى منها لئلا تفتك بنا الأوهام؟! لا أحد الآن يتذكر تماماً كيف كانت الطبيعة تتحكم في حياتنا، كما لو أننا الجانب الخفي منها، بحيث لا نعرف، هل كان الماء هو السر، أم أن السر يكمن في أرواحنا التي تفيض على الأجساد. ولم تزل الإحساء هي مربط خيلنا الليلية التي تستعد للضرب في الظلمة الكثيفة.

قال أبو فيصل، بفصاحة القائد وشكيمة الخبير: (ستجلس مع ابنتي عمك والأولاد في الخلف، وسوف أكون أنا في المقدمة لكي أدل علوي على الطريق). وعندما يقول أبو فيصل هذا فإنه يعني أنه سيكون قائد الرحلة.

منذ وعيت كنت أرى في زوج ابنة عمي الكبرى شخصاً يجمع خصالاً متنوعة ومتناقضة في نفس الوقت. فبالإضافة إلى خفة الروح والقدرة غير المتناهية على الهزل والميل إلى المرح، فهو من المكابرة بحيث يمكن أن يحسن عمل كل المهمات التي يعجز عنها الآخرون، وهو أيضاً يتميز بروح المبادرة والقيادة بحيث لا يحتمل وجود كائن على الكرة الأرضية يفرض عليه رأياً. وكرمه الفائض لا حدود له، ولا يقبل أن يبدو أقل من رجل ميسور الحال كأن بين يديه أموال قارون، التي يملك أن يخسرها إذا هو أراد ذلك. يمكنني الآن أن أتميز فيه رجلاً يمتلك طبيعة الفارس، كما لو أنه آخر فرسان القرون الوسطى، لكن دون أن يصل إلى حدود الدون كيشوت، لأنه سوف لن يضع نفسه في موقف المغامرة غير المحسوبة. إلى ذلك كله فإن سلمان سيكون عرضة دائماً لهزائم صغيرة لن يعترف بها على الإطلاق، لأن الآخرين هم الذين يقعون في الخطأ دوماً لعدم تقديرهم لمواهبه الباهرة.

بهذه الصفات المتقاطعة سوف يمثل سلمان شخصية متميزة بمحبة جميع أفراد العائلة في المحرق والقطيف. وهو، بالمناسبة، كان في السنوات الخوالي، موجوداً في البحرين بنفس حضوره في القطيف، ربما لأنه يجد نفسه على سجيته أكثر في البيت الكبير الحيوي الأجواء، وكانت الأيام التي يقضيها بيننا في البحرين تعد من أبهج أيامنا على الإطلاق، فالجو المرح الذي يشيعه في العائلة سيجعلنا ننتظر زياراته مثل المناسبات التي تضاهي الأعياد، حتى إننا نكاد نشهق فرحاً حين نسمع أن (أبا فيصل) سيصل غداً، وربما لن ننام ليلتها في انتظار الغد.

لم يكن لأحد أن يناقش (أبو فيصل) في الأمر الذي أصدره، ونحن نقف أمام نصف الشاحنة التي يمتلكها (علوي). فالجميع يعرف من هو القائد دائماً.

ساعدنا على الصعود إلى خلف الشاحنة المغطاة بالقماش السميك، المفتوح المؤخرة، فرش لنا بساطاً خفيفاً، ونهرني بأسلوبه المحبب: (أنت مسئول عن مؤخرة القافلة. إياك أن تنام. تستطيع أن تطرق زجاج قمرة القيادة إذا رأيت ضرورة لذلك). والتفت نحو (علوي): (توكّل على الله يا سيد).

وإلى أن تحركت الشاحنة، كان (علوي) يؤكد أن كل شيء تمام، فهو الذي سيقود شاحنته. ولفرط هدوئه، لن تشعر بوجوده في المكان حين يكون موجوداً.، فهو من الدماثة بحيث يستطيع أن يشعرك بأنك على صواب طوال الوقت. قليل الكلام، ويثق كثيراً في مواهب (أبي فيصل) التي لا تحصى.لا يتردد في ثقته بالآخرين واستعداده لخدمتهم، تفادياً لأية ضرورة للمناقشة، حتى إنني لا أكاد أذكر موقفاً استدعاه للاعتراض. إلا أنه بلا شك كان يجيد قيادة شاحنته أكثر من (أبو فيصل).

كان معنا في مؤخرة الشاحنة طفلا بنت عمي الكبرى، (فيصل) أكبر سناً من شقيقه (محمد)، وهما لم يتجاوزا العاشرة إلا عندما انطلقت بنا الشاحنة، في ليل كثيف الظلام، نحو الإحساء.

تستطيع أن تشعر (بحواسك المختلفة) بشخصية الطريق المترب الذي لم تطله بعد معطيات النفط السوداء الكثيفة، فسوف يتقطع بك المرصوف، لكي تتسلل إلى مسامك ريحٌ من الغبار غير المرئي، لفرط الليل وانفعال النزهة. ويمكن أن نطلق على ذلك الطريق، الذي أستحضره الآن بطاقة المخيلة، طريقاً زراعياً بامتياز. ويمكن أن أتذكر أيضاً تلك المسافات المغلفة بالعتمة من الصحراء المزخرفة بما يشبه الأحراش والغابة والتلال، حتى ظننت أنني على شفير الندم، لأنني وضعت نفسي (مع هذه الكائنات المتشبثة بتلابيب الأحلام) في هذه المغامرة. فعندما اجتازت العربة المكابرة ظاهرَ القطيف وضواحيها، تيقنت أنني ذاهب إلى ماءٍ نادرٍ لفرط الوحشة التي كانت تخفر توغلنا في الرحلة.

الآن، يتوجب أن أبذل استحضاراً ذهنياً مضاعفاً للذاكرة (تعضدها مخيلة نشطة) لكي أرى ابنة عمي (أم فيصل) التي لم تعد بيننا الآن (رحمها الله). فما إن شعرتْ بما ينتابنا من وحشة، حتى بَسَطَتْ لنا عباءتها الرحيمة لنجد أنفسنا متكورين، مثل صغار الطير، تحت أجنحة كأنها سقيفة الرحمة. وربما كانت تلك العباءة السوداء أكثر رأفة وطمأنينة لنا من عتمة الليل خارج الشاحنة.

كانت الشاحنة تموج بنا مثل سفينة الأساطير، في سحابة من غبار الليل، ونحن نحملق في مؤخرة العربة، لنرى ما يشبه الأشباح ترافقنا بصمت غامض، دون أن ندرك هل كانت ترصدنا أم تخفر خطواتنا. فلم تصادفنا عربات أخرى ولا علامات بشرية تشير إلى الكوكب الذي نتحرك فيه. و(أم فيصل) تفتح كيس المكسرات وتوزع علينا بكفها ما يشغلنا عن الأشباح، ثم تسكب لنا قليلاً من الماء لكي نبلّ ريقنا الناشف.

وإذا بنا نسمع من مقدمة الشاحنة، حيث قمرة القيادة (حسب تعبير أبو فيصل) صوت المغني السعودي عبد الله محمد، يشدو بأغنيته الجديدة آنذاك (إيه ذنبي ليه بس يا أسمر). فأطلقت ابنة عمي الصغرى ضحكتها المجلجلة في رد فعل لا شعوري على الأغنية، فانتقلت لنا عدوى الضحك مثل كهرباء. تفجرت العربة بصخب وفوضى محببة، كأننا كنا بحاجة لانفعال جامح يصدّ عنا شعور الوحشة الذي يطبق على الموقف. كانت الأغنية تكسر وجومنا وتخلق مفارقة تجعل الموقف يتخبط بالمشاعر. فأطلقتْ (أم فيصل) تعليقها الطريف:

(في هذا الظلام لابد أن يكون الحبيب أسود وليس أسمر).

فتصاعدت درجة الانفعال الجماعي، فقد شَعَرَ الجميع أنه وجد صوتاً رفيقاً يحاول إضفاء بهجة لازمة على مسيرة الرحلة. لكن هذا لم يدم طويلاً، فعندما نهضتُ محاولاً الوقوف ممسكاً القضبان الجانبية لتفادي الوقوع بفعل اهتزاز العربة، تناهى إلينا صوتٌ نقيض لصوت الأغنية. ثمة الأشباح تأخذ طبيعة الحيوان، وتطلق أصواتا مترصدة. وكأنني لمحتُ قطيعاً غامضاً يتبعنا.

واقترب الصوتُ، إنه مزيج من النباح والعواء. فسقط جسدي مثل صخرة على سطح العربة، وأطلقتُ بشارتي: (الذئاب.. الذئاب).

هكذا بدأت علاقتي بالذئب بوصفه كائناً ميثولوجيا.

لا أتذكر تماماً كيف تطورت هذه العلاقة فيما بعد، لكن من المؤكد أن أسطورة الذئب الكائن الغامض المكتنز بالأسرار. ذئب في ليل. ليس الأمر هيناً بالنسبة لصبي مثلي، كثير المزاعم، يحمي مؤخرة قافلة تبحث عن ماء الإحساء، جاف الحلق واجب الفؤاد.

فما إن رأيت، أو خُيّل لي، أن قطيعاً من الذئاب تلهث بعوائها الكثيف خلف العربة، حتى سقط الجسد مرتعشاً على سطح العربة الحديدي الساخن. مطلقاً الإنذار كأنه الوصية الأخيرة: الذئاب خلفنا.

ولم يكن ينقص النساء والأطفال إلا شخص يحمي حماهم مذعوراً مثلي.

جرتني أم فيصل بقوة نحوها في قاع الشاحنة، محاولة تهدئتي. مؤكدة أنها ليست سوى كلاب ضالة لا تخلو منها مثل هذه النواحي. لكن الذعر كان قد انتاب البقية بسرعة جنونية وأخذ منهم مأخذاً. قلت لهم مؤكداً مثل اليقين، إنها أصوات غريبة تقترب من الشاحنة. بدت بعيدة مترددة أول الأمر، وسرعان ما اتضحت وتجلّت منبثقة مثل شعل شاحبة في كهف الليل. وأخذ الجميع يتبينها، بل أنهم صاحوا مؤكدين إنها ذئاب فعلاً. ولذنا جميعاً بأبعد زاوية في عباءة (أم فيصل) التي رأيت لحظتها أنها القلعة التي يتوجب عليها حمايتنا من التهلكة. والتصقنا جميعاً بقاع الشاحنة، وجوهنا ملتصقة بزجاج قمرة القيادة. وصرختُ بالقيادة، التي كانت لحظتها سادرةً في صوت عبد الله محمد، الذي لا يزال يزجي عتبه على حبيبه الأسمر. وبدأت أطرق بالقبضتين على الزجاج طالباً أن يضاعفوا السرعة خشية مهاجمة الذئاب. وعندما استنكرتِ القيادة ذلك الصخب المشتعل في المؤخرة، أخذت تهدئ السرعة كمن يريد أن يقف على جانب الطريق لاستطلاع الأمر. وإذا بجميع من معي يهجم على النافذة الزجاجية التي بدت مثل جدار بين قمرة القيادة والمؤخرة المذعورة، طالبين عدم التوقف ومواصلة السير ومضاعفة السرعة، مطلقين صراخهم: (الذئاب خلفنا أسرعوا أسرعوا).

لقد تيقن الجميع الآن أننا في معركة غير متكافئة، ولابد من الفرار بأسرع ما يمكن. فالعدو الماثل على بعد خطوة منا يوشك على الفتك بنا، فيما القيادة تجهل ما تتعرض له القافلة كلها. وأخذ العواء يقترب، وكنا نسمع اللهاث المسعور يكاد يقفز على طرف الشاحنة. إنها خلفنا، وأصبحنا نرى بوضوح بريق الأعين الملتهبة مثل جمرات في الريح. وفي لحظات تحول الموقف إلى حدود الأسطورة. كمن مسّ الشاحنة سحر العفاريت. وأخيراً أدركت القيادة أن ثمة خطراً داهماً يهدد الجميع. وعندما أخرج (أبو فيصل) رأسه من النافذة محاولاً التهدئة زاعماً (بثقته المعهودة) أنها كلاب فحسب، ظاناً (بتفائله الظريف) أننا يمكن أن نأمن، في تلك اللحظات، لمجرد الأرانب الأليفة.

وانطلقت الشاحنة بأقصى سرعتها، محاولاً (علوي) إثبات خبرته في فن القيادة، في حين كان يثبت للجميع شطارته في فن الهروب كالغزال. وأخذت العربة تجتاز ظلاماً مضاعفاً، ظلاما أصبح الآن أكثر خرافة متوغلاً في المجاهيل. لقد انتقل الرعب إلى القيادة، برغم مكابرة (أبو فيصل). وتبرعتْ ابنة عمي الصغرى بفكرة كفيلة بتمزيق كيان الجميع، فقد صرخت بأن الذئاب يمكن أن تقفز علينا في الشاحنة لو أن الشاحنة خففت السرعة قليلاً. وشعرنا أن القيادة قد اتصلت سريعاً بهذه الفكرة الجهنمية، فقد شعرنا

فجأة أن السيارة تكاد تخفّ من أرض الطريق طائرةً لفرط السرعة التي دفعها (علوي) لعربته. تخيلنا العربة المغطاة من الجوانب المفتوحة المؤخرة فوهةَ الجحيم، وربما بقفزة جريئة، لا تنقص تلك الكائنات المسعورة، يستطيع حيوان واحد فقط أن يكون بيننا في الداخل. وفيما كانت الشاحنة منطلقة تهرب من قطيع الذئاب (من يستطيع الآن أن يشك أنها ذئابٌ بالفعل) بدرت عن (أم فيصل) حركة خلناها أنها ضربٌ من الحكمة وسحر الخائف في آن واحد. فقد أخذت تبحث في ظلام المؤخرة بيدين مضطربتين عن صندوق الزاد الذي أشرفت بنفسها على إعداده، وأخرجت كيساً (عرفنا فيما بعد أنه يحتوي على قطع دجاج مبهّرة ومحمرة) وراحت تفرغه وتقذف بمحتواه خلف الشاحنة. وفجأة شعرنا بابتعاد لهاث الحيوان وعوائه وخفت الأصوات دفعة واحدة كأنها وقعت في هاوية، تخاذلت تلك الكائنات منشغلة بوليمة غير متوقعة.

وَجَمنا متقلصين على بعضنا البعض نكاد نسمع خفق قلوبنا بوضوح برغم هدير الشاحنة التي لم يخفّ انطلاقها. ولم يجرؤ أحد منا على كسر الصمت. كل ما استطعنا أن نفعله أننا تشبثنا (بأم فيصل) بحرارة المتضرع، معبرين لها عن امتنان عميق على هذه اللفتة، التي تعد بحق عملية إنقاذ حاسمة، سوف يحسدها عليها طوال الوقت (أبو فيصل)، الذي لا يتخيل أن أحداً يمكن أن يفعل المعجزات سواه.

انهارت الأجساد المرتعشة وهدأت غارقةً في عرق خفيف. وتماسكت (أم فيصل) لكي تصبّ لنا شيئاً من الماء، تسقينا وهي تهمهم بكلمات مقدسة تسبغ بها سلاماً بارداً على القلوب الصغيرة، التي كانت موشكة على الخطر. لم تتوقف السيارة. ولم نتبادل كلمة. فما أن ارتخت عضلاتنا كلها حتى وجدنا أنفسنا نغرق في شيء يشبه الفرح اللذيذ والنوم، لكوننا نجونا من ذلك القطيع المتوحش الذي رأيناه رأي العين. ويمكن الزعم ليلتها أننا كنا ننام بأعين مفتوحة تقريباً، كما لو أننا اكتسبنا من الذئاب أسطورة النوم بعين واحدة. ولن نستطيع بعد تلك التجربة أن نحب الكلاب أبداً. ولا زلتُ أعتقد بأن في هذه الحيوانات جزءاً كامناً من الوحش يمكن أن يستيقظ ويستدير نحوي، فلا يتوجب الغفلة عنه أو الثقة به. غير أن علاقتي بالذئب، ككائن ميثولوجي، سوف تتحول بأشكال شتى، في كتابتي، كما لو أنه المخلوق الغامض الذي يمكن أن يتقمّص الكائنات الأخرى دون أن يتجاوزها. وربما كان ولعي بالذئب، بوصفه الدلالةً حمالةَ الأوْجه، هو ضربٌ من محاولة محو ذاكرة الذعر المبكر الذي تجرعته في لقائي الأول بالذئب. سوف يحضر الذئب كثيراً في كتاباتي بشكل أو بآخر.

صَعَدَت الشاحنة بكائناتها المرتخية إلى الطريق المرصوف، فَدبَّتْ فينا حياة جديدة. ولمحنا على مبعدة قناديل صغيرة تشير إلى المدينة. فانتعشت الأرواح، وأخذت الأجساد تتمطى مستعيدة طبيعتها.

هاهي الإحساء إذن.

ولم تتوقف العربة، وإن كانت قد خفّت سرعتها كثيراً. وكنا في الهزيع الأخير من الليل. ورأينا كأن الإحساء تهتف لنا مباركة لنا هذه النجاة، باذلة لنا ماءها الحنون.

وقفتْ الشاحنة بقرب حرش متصل بالأشجار والنخيل، وأطلقتْ الافئدة زفيراً كثيفاً، كمن يتنفس الصعداء بعد رحلة طويلة.

هل كانت الطريق إلى الماء غامضة مثل الماء الذي نقف بين يديه الآن؟

أطلق (أبو فيصل) النداء المنتظر: انزلوا.

كأن للماء الدافئ نكهة لا تخطئها الحواس. ليست رائحةً، لكنها ضربٌ من مزيج الطبيعة، يتصاعد في هيئة الوصيفات وهنَّ يستقبلن هودج العرس. قيل لنا إنها بكاء المعادن، يتفصّد ويتحول إلى سائل رهيف، ما عليك إلا أن تقبل عليه لكي يحتضنك.

تحدّرت القافلة الصغيرة مندفعة نحو العين. لم يمنعنا الظلام الذي يلفّ المكان من رؤية صفحة الماء المسوّرة بفوران غريب. صرنا نتحرك دون أن يتبين بعضنا البعض تماماً. راح (أبو فيصل) يوجهنا نحو حافة العين. فوضعنا أسمالنا على صخور متناثرة. لم يكن سهلاً معرفة حدود الأرض من حدود الماء من حدود الهواء، لولا تلك الصخور المصقولة بأجساد البشر وحرير الماء. كنا نحن والماء فقط في كوكب مفقود. ولم نشعر بالوحشة التي كانت، قبل قليل، تهددنا بالمجاهيل.

انشغل الرجلان بإنزال ما نحتاجه. لا أتذكر تماماً من الذي حاول أن يفسد جمال ذلك الظلام بشمعة قديمة، تعثّر بها على إحدى الصخور. وسرعان ما نهره الجميع برد فعل لا شعوري، كأن الجميع قد وجد في الظلام صديقاً أليفاً حنوناً يحمي ويستر، ولا يجوز خدشه بالضوء. الجميع رفض النور في تلك اللحظة. النساء لأنهن كذلك، والرجال لأنهم منحازون لعتمة غامضة. أما أنا فقد كان لي سببي السري. أذكر، الآن، أنني كرهت فكرة إشعال الشمعة، فيما أبدأ في ترك جسدي في الماء. الضوء سيفضح جلوسي الصامت متشبثاً بصخرة في طرف العين، بعيداً عن عرض الماء حيث الأعماق.

هل كان الماء فضيحتي الدائمة؟

كان الجميع سيعرف أنني لا أحسن السباحة، وأن كل مزاعمي بشهوة الماء ليست سوى تعويض لا شعوري عن قصوري عن ماء جميل بهذا الشكل.

أتخيل الآن كيف كان صوت انغماس أعضائنا في ماء العين الساخن، كمن يرمي بسبائك الذهب المتعب في بحيرة من الجليد. بهدوء وحذر تقدمنا في الماء، كل على طريقته. (أبو فيصل) انصرف لمساعدة طفليه على التوغل داخل العين. ابنتا عمي كانتا قد غمرتهما المياه حتى الكتفين. (علوي) كان آخر من طرح ملابسه، و شدّ الإزار الأبيض على وسطه وتمتم بكلمات شبه مسموعة كأنه يذهب إلى الوضوء.

هذا هو الطقس الذي انتظره الجميع طويلاً.

أذكر إن الهدير المكتوم الذي يصدر من مكان مجهول في العين، كان يضفي على الموقف رهبة غامضة، احترمها الجميع، وبالغ في تبجيلها.

من أين يأتي كل هذا الماء، وإلى أين يذهب.

شعرنا بأن ذلك الماء يفيض على أطراف العين، لكأن الأرض تضيق به وتقصر عن كرمه واتساعه. وفيما راح (أبو فيصل) يروي لنا قصصاً وحكايات (تتراوح بين الحقيقة والخيال) عن عين نجم. كنت أتساءل عن سر هذه الكثرة الملحوظة للعيون الطبيعية الممتدة من الإحساء حتى القطيف. وكيف أنها تكاد تغمر الأرض من حولها (انها كانت تفعل ذلك حقاً). واستعدت، مما يحضر في ذاكرة الصبي، من درس الجغرافيا المبكر، الذي يقول عن تلك البحيرة الغزيرة من الماء القديم المنسرب تحت الأرض على امتداد المنطقة الشرقية، مغذياً، لفرط غزارته وعمقه، مناطقَ بعيدة في الخليج تصل إلى البحرين. وكأن (أبا فيصل) كان يصغي للتداعي الذي استغرقني، فهتف مؤكداً أن البحرين تشرب من الماء الذي ينبع من الإحساء، بل إنه أكدَ (لأطفالٍ تطيبُ لهم المبالغة أحياناً) بأن الأهل في المحرق ربما يشربون من نفس الماء الذي يغمرنا الآن. راقت لي الفكرة.

قلتُ:

- ترى لو أنني غرقت في (عين نجم) الآن، بسبب حماقة ما، هل ستنقذني الكائنات المائية (صديقتي في الحلم)، وتأخذني إلى واحدة من عيون البحرين، ويعثر علىَّ الأهل هناك؟).

ولئلا يبالغ الآخرون بالسخرية من هذه الخاطرة، تذكرتُ لهم قرائنَ كثيرة، من تشابه أسماء العيون في المنطقة الشرقية بعيون في البحرين، (مثل قصاري وأم نخيلة والرحاة والبديعة والصالحية وأم رحى والعين العودة)، وهي قرائن كفيلة بتحقيق مثل هذا الحلم، لو أن المصادفات الأسطورية تسعفنا.

ولم تكن الطبيعة غافلة عنا. ففي ذلك الصمت المعتم، ومن بين هسهساتنا المتقطعة، كانت كائنات الطبيعة ترصدنا بدماثة. كنا نسمع كل شيء بوضوح باهر. حفيف أغصان تتحرك في هواء ساكن، أصوات مختلفة من الحشرات الكثيرة، مكونة جوقة ليلية لا توقظ النائم ولا تتركه وحيداً. تثاؤب الخضرة الداكنة في الأوراق، وربما سمعنا أيضاً (مثل السياب)، الجذورَ وهي تشرب الماء تحت الأرض. أما الضفادع فقد كانت هي قائدة الجوقة الرئيسية في ذلك المشهد. لم أكن (حتى ذلك الوقت) قد سمعت ضفادع بهذه الكثرة، حتى إنني كدت أموت فزعاًً، عندما تقافز حولي ضفدع بمحض الصدفة وأنا أنتقل من صخرة إلى أخرى على حدود العين، الأمر الذي دفع (أبو فيصل) لأن يقود حملة السخرية المستحبة مني، بوصفي كائناً تقتله الضفادع وهي تداعبه بأطرافها الطرية اللزجة. لقد كان طقس الاستحمام أحد أكثر المواقف متعةً، بعد ذلك السفر النادر.

هذه هي (عين نجم) إذن.

لم يشعر الجميع بالوقت. ولم ننتبه لغياب ابنة عمي (أم فيصل)، إلا بعد أن سمعناها تدعونا للأكل. لحظتها فقط شعر الجميع بالجوع. فنحن لم نتناول شيئا، تقريباً، منذ غادرنا القطيف. خرج الجميع، بملابس تتقاطر برحيق المعدن، واقتعدنا أطراف الصخور نتعرف على الأكل. شاي بالحليب، الخبز المتأخر، المربى، لكي يلسع حناجرنا بحلاوته، والجبن، الذي ستجرح علبته المعدنية أصابعي فيما كنت أتلمس الطريق إليه في العتمة، خليط من الفاصوليا الخضراء المطبوخة سلفاً منذ الظهر. ثم ذلك الطبق الذي سيفاجئنا جميعاً، ويدفعني إلى منتهى البهجة كأي طفل. فقد كنتُ في ذلك الزمان أحد المذهولين بالاختراع الخارق الذي يسمى (معكرونة)، وكانت المرحومة (أم فيصل) تحسن إعداد ذلك الاختراع، كما لو أنها تعيد ابتكاره في كل مرة. الأمر الذي جعلها تهيئ ذلك الطبق كمفاجأة لي. قالت إنها مكافأة إضافية، لأنني كنت صاحب فكرة الذهاب إلى ماء الإحساء.

ولكي تبدو الأسطورة رفيقة لطفولتنا، وعدنا السيد (علوي) أن يأخذنا، في طريق العودة إلى سوق التمر، لنحمل معنا شيئاً مما اشتهرت به الإحساء في جميع العصور. وأظن أن الأسطورة هي ذاتها التي هيأت لي، في السنوات الأخيرة، صديقاً من الإحساء اعتاد أن يتحفني، كل عام ،بسبائك التمر الم طيب بعسله الكثيف.

فشكراً لأن الإحساء لا تزال قادرة على دفع الروح في ذاكرتي، لكي أسرد شيئاً يتقاطع مع الخيال متجاوزاً الواقع.

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى