ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 

نَزْفُ الجَمَّة، نزهة المحرق، (عراد)

في الخليج الصغير الذي تحتضنه انحناءة حنونة من ساحل المحرق مطلاً على قرية (عراد) المحاذية لمدينة الحد التي تطل على البحر. في هذا الخليج صادفنا منذ وعينا، في طفولتنا، زرقة أليفة، عميقة، شاسعة، هي، بمقياس طاقة الطفل، بمثابة المحيط الفسيح القادر على تنشيط الخيال الغض.

في شرفة هذا الخليج كان بإمكان العين المجردة، لشخص يقف على الساحل الشرقي للمحرق، مشاهدة الشريط الأخضر الرشيق المنساب على ساحل عراد الجنوبي المقابل لمدينة المحرق. و(عراد) القرية الصغيرة المطلة على الماء الأزرق من شرفة مدينة (الحد)، هي واحدة من أخصب بقاع الجزيرة وأكثرها ثراء بالماء العذب، وتعتبر مصيفاً متميزاً لبعض العائلات لقضاء فترة القيظ في أكواخ السعف المنتشرة بين مزارع وساحل البحر. وقد أخذت (عراد) اسمها من تاريخ البحرين القديم حيث كان من بين أسماء البحرين القديمة هو (أرادوس).

والذين يتذكرون تلك السنوات لن تفوتهم ما اشتهر به ذلك الخليج الصغير المشهور ب(دوحة عراد)، الذي كان يشتهر بألذ أسماك (الصافي) الذي كان يشكل واحدة من أجمل وجبات أهالي البحرين، في الموسم الذي تزدهر فيه مصائد (خور عراد) بأعشابه البحرية الطيبة المذاق لسمك الصافي، إلى حد أن هناك من كان ينقل كميات من تلك الأعشاب البحرية في موسمها، على ظهور الدواب إلى مناطق مختلفة من المحرق، لإعادة طرحه في أقفاص الصيد (القراقير) ومصائد السمك (الحظور) في الجانب الثاني من بحر المحرق.

كانت قناديل الطفولة ترى في النهار أكثر وضوحاً من الليل.

فعندما نقف على ساحل (حي البوخميس) كنا نلمح تلك الزرقة الغامضة اللانهائية التي تمخرها السفن الصغيرة وقوارب الصيد مشمولة برغبات وأحلام البشر المأخوذين بالبحر، فليس من المتوقع أن نصدق أن الساحل الذي ندركه بأبصارنا يمكن أن يكون متاحاً لنا خارج تلك الأحلام. فلكي تصل إلى (الحد) أو (عراد) ستحتاج إلى رحلة في سيارة تضاهي رحلة الذهاب إلى المنامة العاصمة. وكنا نسمع أن كثيراً من بائعي الخضروات المتجولين على البغال يقدمون يومياً من (عراد)، وبعضهم سوف ينتهز فترة الجزر ليختصر المسافة بين الساحلين عابراً البحر بالتفاف خفيف يوازي قوس الخليج الصغير، لئلا يضطر لقطع مسافة أبعد على اليابسة التي تطوف بالقوس الواسع بين (عراد) و شرق المحرق. غير أننا كنا نسمع أيضاً أن ثمة وسيلة لقطع المسافة بين الساحلين عن طريق السفر بحراً. وهي تجربة جديرة بالاستعادة لأنها كانت من بين أجمل الملامح الاجتماعية لجغرافية المحرق.

كانت أول تجربة اكتشفُ فيها دور الشخص في السفر الجماعي، هي عندما ركبت للمرة الأولى قارباً صغيراً نقلنا من ساحل المحرق الشرقي، عند حي الظاعن، إلى ساحل (عراد) الجنوبي. فيما يسمى وقتها بــ(الـعَـبرة). والعبرة (بفتح العين وتسكين الباء) هي ذلك القارب الشراعي الصغير الذي لا يتجاوز عدد ركابه خمسة على أكبر تقدير. وتسمية ذلك القارب بــ(العبرة) كما هو واضح لغوياً من عملية العبور بين الساحلين. غير أن الرشاقة اللغوية هنا سوف تجمع في تسمية العبرة بين وسيلة العبور، وهو القارب، وعملية العبور نفسها، وهي آلية لغوية سوف لن يتوقف الخيال الشعبي عن ابتكارها. ويتوضح ما أشير إليه من وصفهم للشخص الذي يركب القارب (والحافلة فيما بعد) بأنه (عبري)، عطفاً على فعل العبور و(العبرة) في نفس اللحظة. العبري هنا تعني بالضبط الراكب.

ويبدو أن مهنة نقل الركاب بين ساحلي (عراد) والمحرق هي من بواقي نفس المهنة التي كانت الوسيلة الوحيدة للانتقال من جزيرة المحرق (وقت كانت جزيرة وحدها) وجزيرة المنامة (يوم كانت جزيرة كلها) قبل بناء جسر الشيخ حمد في بداية الأربعينات.

أذكر أنني قلتُ ذات نص:

                     طوبى لمن يرى البحر من بيته.
لقد كان البحر يحيط بنا من كل جانب.
وكنا نتعلم منه درساً في الألوان منذ أن لامست أحداقنا زرقته الفاتنة.
فليس أجمل من البحر إلا الذهاب إليه.

كمن يريد أن يعلن عن مغادرته الطفولة إلى مرحلة الصبا، إذا لم نقل الفتوة. فليس حدثاً عابراً أن (يسافر) طفل خارج بيته في المحرق إلى المكان الغريب. وبين المحرق وعراد مسافة الكواكب والمجرات، أو هي المسافة بين الطفل والفتى.

لقد كانت دقائق لا تتجاوز الخمسة وأربعين تحتاجها الرحلة لعبور خور عراد. لكن كيف يمكننا تصور أن هذه الدقائق التي كانت تفصل جزيرة المحرق عن جزيرة عراد، ستكون، بتقدير تلك السنوات، بمثابة السفر الممزوج بنزهة لا تخلو من مغامرة. ومغامرتنا في ذلك العمر سوف تأخذ أشكالاً مختلفة. غير أنها ستكون في المرة الأولى للذهاب إلى البحر عندما قررنا التسرب من المدرسة ذات صباح قائظ، بزعم الانتقال إلى الضفة الأخرى من العالم، إلى ذلك الشريط الأخضر الكثيف على ساحل (عراد)، مختارين ركوب تلك (العبرة) لكي نقضي يومنا حتى الظهر في المزارع المشحونة بما لذ وطاب من الخضروات وفاكهة البطيخ البحريني الشهير. وكان علينا التضحية بمصروفنا اليومي الذي لا يتجاوز وقتها خمسين فلساً، لكي ندفعها أجرة العبرة وهي عشرة فلوس تقريباً، والباقي لرغيف الخبز نشتريه من الخباز في أطراف المحرق قبل ركوبنا القارب.

القارب الذي ركبته لأول مرة في حياتي، كان مع أصدقاء الحي، أصحاب فكرة الغياب من الدرس إلى مزارع عراد، أذكر منهم (عبدالله إدريس ياقوت وإبراهيم الصاحب ومحمد الجفيري) فقد زينوا لي تلك المغامرة التي سوف أجرب فيها للمرة الأولى البحر الغامض. 

وبعد أن خضنا بضع خطوات في ماء الساحل لكي نصل إلى القارب، صعدنا وبدأت الخشبة الصغيرة تنساب بنا في رفق إلى داخل الخور. وكنت أضع رأسي على حافة القارب محملقاً في الأسفل لكي أرى قاع البحر القريب جدا والمح الرمل الأبيض الذي أكاد ألمسه بيدي لفرط قربه من سطح الماء. وكلما تقدم القارب في البحر ابتعدت عن ناظري تضاريس الأعماق.

لقد كان المنظر مدهشاً إلى درجة أنني لا أنساه أبدا. لقد كنت أرى الأسماك في الأسفل تتحرك بخفة ورشاقة، كأنها تدرك أن عيناً ترقبها فتروح تبالغ في رشاقتها وحيويتها كمن يباهي بنعمة البحر أمام طفل ينزل البحر للمرة الأولى. كانت كائنات البحر أليفة أكاد الثمها ببصري لفرط قربها. كانت القواقع تنساب بين الصخور الملساء المغروسة مثل نياشين في قطيفة فضية تشع. والأسماك بأحجامها الصغيرة والمتوسطة وبألوانها التي لا تحصى تتراقص في صفحة الرمل الناعم مثل سرير ملائكة يمرحون. وثمة سرطانات صغيرة وردية اللون تلوح بأطرافها حيناً وتطارد حشرات مائية سرعان ما تتماهى مع الرمل والصخر والأعشاب وأسراب القواقع المذعورة. أحملق كمن ينظر في زجاجة كبيرة زاخرة ببحر صغير بشتى كائناته.

هذا بحر يداعب مخلوقاته ويمنحها لوناً جديداً في كل لحظة، مثل أب يأخذ أطفاله إلى النزهة. كان البحر من النقاء بحيث كنت أشعر كأن كلَ تلك المخلوقات سابحةٌ في فضاء وليست غارقةً في ماء.

رأيت سجادةَ القاع تنساب تحت القارب مثل ساحة اللعب في الدار، وفي تلك المخلوقات النشيطة كائناتٍ جاءت تواً لكي تؤنس وحشتي في غربة خارج البيت.
كان الطفل يتشبث بالحلم والفتى يتفلت من الواقع.
وكنت بينهما أمسك بالجمال من أطرافه.
لم يخرجني من ذلك الحلم إلا صوت أحدهم ينبهني بأن عليَّ الآن المشاركة في نزف (الجَـمّـة).
في رحلة باهرة مثل هذه سوف يكتشف الصبي لأول مرة دور الشخص في السفر الجماعي:

نزف (الجمة) بفتح الجيم وتشديد الميم، والجيم هنا سوف تُقلب دائما إلى ياء لتكون (الـيـمّـة). والجمة هي ما يتجمع من رشح ماء البحر في قاع القارب أثناء عملية النضح الفعال، مما يستدعي طوال مدة الإبحار القيام بالنزف المتواصل للماء بعلبة صفيح فارغة وتفريغه في البحر. وهي عملية سوف يتناوب عليها جميع الركاب بالتوالي مساهمة منهم في مساعدة صاحب القارب الذي سيكون مشغولاً بقيادة قاربه ورفع الشراع وتوجيهه، ولا يجوز لأحد أن يتخلف عن المساهمة في (نزف الجمة).

تلك المغامرة الأولى خارج البيت والمدرسة، هي واحدة من بين أبكر المغامرات التي كانت تستعصي على النسيان لفرط ندرتها وخطورتها. فأنا أولا سوف أتغيب عن المدرسة، ثم أنني، ثانيا، سوف أعبر الخور بين المحرق وعراد. وهذا العمل، بقياس ذلك الوقت، هو بمثابة السفر، خصوصاً بالنسبة لصبي في سن العاشرة أو الحادية عشرة. وسيضاف إلى هذا أنني سوف أكون شريكاً في سرقة بعض البطيخ من أحد المزارع في عراد، وهو ما لم أكن أعلم أنه من تقليد تلك المغامرات التي اعتادت عليه الرفقة الخيرة.

لقد كان الهدف الذي سيذهب إليه الصبية الأربعة هو بركة السباحة التي تتوسط أحد الحقول الخضراء التي كانت عراد تتميز بها في تلك الفترة. وبسبب حرارة القيظ كانت الفكرة أن نقضي بعض الوقت في تلك البركة، (وهي على شكل حوض إسمنتي متوسط الحجم) في غفلة من الفلاح الذي ينشغل غالباً في أطراف الحقل. وبعد أن أمضينا ما يقارب الساعة في السباحة وبدأ الجوع يتسرب إلينا أخذنا نأكل من الأرغفة التي حملناها معنا من المحرق، ولكن محمد الجفيري اقترح أن نجرب طعم البطيخ الذي كان يلوح لنا عن كثب بلونه الوردي في ارض الحقل على مقربة من حوض السباحة. وراق الاقتراح لنا فخرجنا من الحوض وملابسنا الداخلية ترشح بالماء متجهين إلى حقل البطيخ.

وما إن انحنينا لكي نقطع البطيخ من شجيرته حتى سمعنا صرخة الفلاح في طرف الحقل منذراً مهدداً، شاهراً منجله المصقول في الريح. تلك الريح التي لم تسعفنا ونحن نحاول الهرب من الفلاح الذي بدأ في الركض نحونا برشاقة قافزاً بين الشجيرات والقنوات الصغيرة، فأسرعنا بالهرب باضطراب على نحو عشوائي وأخرق يفتقر إلى الرشاقة، لأننا رحنا نخبط على الأرض بأقدامنا المذعورة معطبين شجيرات البطيخ وحقول الخضروات الأخرى، الأمر الذي ضاعف من غضب وفزع الفلاح المسكين الذي كان يرى ثمرات جهده وتعبه عرضة للتلف الوحشي، من صبية لم يكتفوا بمتعة السباحة في المزرعة ولكنهم راحوا يسرقون البطيخ ثم يعيثون فساداً في خضرته الطيبة والغنية بالخيرات.

لم أكن أرى سوى النجوم تتراقص أمام عيني لفرط الخوف.

فقد كانت تجربة خارج قانون الطبيعة بالنسبة لي، ليس لأنها ابتعاد مبالغ فيه عن البيت والمدرسة والحي فقط، ولكن لأنني وجدت نفسي فجأة مشاركاً في السرقة ومطارداً من شخص مدجج بسلاح لم تغب عن عيني لمعته طوال العمر. فألقيت العبء كله في تلك اللحظة على القدمين المذعورتين بأمل النجاة من ذلك الموقف. ملابسنا متروكة خلفنا على دكة حوض السباحة وأطرافنا متروكة للريح عراة إلا من الملابس الداخلية المبتلة بماء سرعان ما نشف بفعل الشمس والريح.

لقد كنت أركض هائماً لا اعرف أين أذهب بالضبط بعد تفرق الرفقة الخيرة، التي فرت تاركة الصبي يرفع قدمه دون أن يعرف أين يضعها في أرض غريبة وبعيدة عن البيت. وسرعان ما وجدت نفسي في مواجهة البحر على ساحل أبيض طويل وفارغ إلى الدرجة التي يمكنني تصورها درجة الصفر من الضياع.

فلم أجد مفراً من مواصلة الركض على الساحل بلا هدف سوى الهرب من المنجل اللامع الذي يلوح به ذلك الفلاح المقهور.

ساعتها شعرت بالوحدة والوحشة الهائلتين، لأنني لم أكن أرى أحداً من أصدقائي ولا أحداً أعرفه، لا أحد على الإطلاق.

كما لو أن ثمة كوكباً غريبً وقعت فيه فجأة لئلا ينقذني أحد.

واصلتُ الجري أتبع قوس الساحل الذي صادف أنه سيأخذني بعد وقت طويل، خلته سنوات، إلى الساحل الشرقي لمدينة المحرق. دون أن أشعر بأنني بهذا الهروب والجري المتواصلين كنت قد عبرت قوساً كبيراً من الساحل على أطراف عدد من المدن والقرى ربما اذكر منها الآن مدينة الحد وقلالي وعن كثب من الدير وسماهيج مجتازاً الأطراف الجنوبية للمطار القديم، لكي أجد نفسي تقريباً على مشارف حي البوخميس، وهو بالضبط ما أنقذني من عقاب سرقة حقل البطيخ الذي لم أكن مخططاً له، وان تورطت في المشاركة فيه بفعل رفقة الخير.

أخبرني لاحقاً أحد أصدقاء العائلة أنه صادفني في حالة يرثى لها، هائماً ألهث، وقد أدرك المحرق مساء رطب، فأخذني إلى البيت في محاولة لأن يخفف على العائلة قلقهم الذي كان قد وصل إلى حد الفزع، لكونهم يعرفون أن ابنهم ليس من طبيعته الغياب إلى هذا الوقت، فلم يتركوا كائناً إلا سألوه عن (جاسم) الذي تأخر في العودة إلى هذا الحد.

والدي كان رؤوفاً وهو يتلقفني من صديق العائلة، شاكراً له فضله بإعادة الطفل التائه. حدجني وقال بصوت يتراوح بين الصرامة والنصيحة: لا تسمع كلام أحد ولا تذهب إلى مكان لا تعرفه ولا تركب (العبرة).

 ولم يزد والدي على ذلك.

فيما بعد، عندما جرى الحديث عن تجربة (العبرة) وعن فكرة مشاركة الركاب في (نزف الجمة)، ابتسم والدي بنوع فاتن من البهجة، لكوني قد ساهمت مع الآخرين في (نزف الجمة). مؤكداً أن تجربة البحر هي دائماً تجربة الفرد في الجماعة، فأنت في البحر لست وحدك ويجب أن تتصرف على هذا الأساس. فما إن تتصرف بأنانية حتى يستفرد بك البحر.

الآن. أفكر.

كم منا سيحتاج إلى (نزف جمته)، لكي نتمكن من إنقاذ المركب من الغرق؟
هل ثمة من يلتفت إلى ضرورة (نزف الجمة) في حياتنا بلا توقف؟
في اللغة: الجمة. جمام: البئر الكثيرة الماء.
مجتمع ماء البئر. يقال استق من جمة البئر.

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى