له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

2- كرسي يجلس وحيدا

الشعر و جماليات المعرفة

إبراهيم الفاضل باحث سوري ومتأمل في حقل الفلسفة. يتصل فكره بالبحث الإنساني بصورة تختلف عما هو شائع في الثقافة العربية. وهو إلى ذلك يعمل حاليا في مختبرات (IBM ) قسم هندسة الحاسبات وأتمتة تصميمها في نيويورك. ولا يخلو من دلالة، في سياق الثقافة العربية، أن يعمل مفكر في هذا الحقل المتصل بالمستقبل، خصوصا إذا عرفنا عن الموهبة الأدبية العالية الشعرية التي يتميز بها الفاضل. عندما توصلت بأوراق ندوة (الإبداع الثقافي والتغيير الاجتماعي في المجتمعات العربية في نهايات القرن) التي عقدت أوائل مايو 1998 في غرناطة، وجدت أن من بين أهم أوراق الندوة ورقة إبراهيم الفاضل بعنوانها المثير (بين الهندسة والشعر). فشعرت برغبة في إشراك القارئ معي في متعة هذا النص المتميز، لأنه لم ينشر، حسب علمي، حتى الآن، خارج دائرة الندوة. لم أصادف شخصيا كاتبا عربيا يتناول موضوع علاقة العلم بالشعر بالجمال والحساسية الحضارية التي يلامس بها الفاضل موضوعه في هذه المقالة. فهو يبدأ مقالته بتشخيص العلاقة الجوهرية بين الهندسة كعلم والشعر كأدب، بوصفهما فعلا إبداعيا خالصا يصدر عن فعل المخيلة والرؤيا. فما من إبداع على الإطلاق إلا وانطلق من لحظة الحلم. ويستطيع الفاضل بهذه الملامسة أن يختصر، منذ اللحظة الأولى، مسافة كبيرة كانت بمثابة الفجوة المتوهمة بين العلم والشعر. فهو لا ينفي الرأي الشائع الذي يقول أن التقنية تغلب الملكة المنطقية على ما سواها من ملكات، ولكنه يشير إلى تغلب في جانب واحد من جوانب الإبداع التقني هو الجانب الإجرائي، أما الجانب الإشرافي فيحتاج، حسب الفاضل، إلى كل ملكات المبدع ومجموع مهاراته. في الثقافة العربية، لم تزل الفجوة المعرفية تتحكم في إدراك علاقة الحقل الفني بالحقل العلمي، مما يساهم دائما في تخلف الملكات الإبداعية الفنية والأدبية عن استيعاب ما يحدث من متغيرات ثورية وسريعة على صعيد المعرفة العلمية، وبالتالي الاستفادة منها كطاقة تحليلية وتعبيرية للحياة والكون. وفي اختيار إبراهيم الفاضل الكلام عن العلاقة بين الهندسة والشعر في هذه الورقة، ليس فقط انحيازا مبكرا لتقريب حساسية المبدع العربي عامة والشاعر خصوصا لما يحدث في اللحظة الكونية الراهنة في حقل وسائل الاتصال والنشر الإلكترونية، وهو ميدان تجربة وخبرة الفاضل الآن، ولكن لسبب مهم يتصل بالفرق العملي بين العقلانية والهندسة، وعلاقتهما بالحقيقة الإنسانية (ولإبراهيم الفاضل نصوص طريفة في تأمل هذا البعد الفلسفي جديرة بالاطلاع). ففي العقلانية يقول الفاضل (الحقيقة مرغوبة لذاتها، والسبيل إليها التجريد العقلي. أما في الممارسة الهندسية فالحقيقة وسيلة بين وسائل لا غاية الغايات، والسبيل إلى كل مرغوب في الهندسة هو التجسيد(…) والمعرفة الهندسية تتجاوز التفسير الذي تأتي به المعرفة العلمية إلى التغيير الذي هو غاية كل مبدع). وسوف يتوصل الباحث إلى ما يجمع الهندسة بالشعر من فعالية المخيلة ودورها الحيوي الذي يكون سابقا لتحقق النص. فالمهندس يبني الشكل في خياله قبل أن يحققه في الواقع، (كما أن الشاعر يكتب قبل أن يعرف) وكلاهما يخلصان لقول نيتشة : (التأمل مانع من الفعل. أي أن انتظار الحقيقة يمنع الإبداع). الحقيقة تأتي بالعمل، في شكل المهندس ونص الشاعر. قبل أن يتكلم إبراهيم الفاضل عن الأبجدية والكتابة في الثقافة العربية، يشير إلى ما يسميه التحدي التقني الذي صادفه الشعر في المجتمع الأمريكي كنموذج للأزمة الناتجة عن الفجوة التي تحققت بغتة في وجه الشعر، (حيث الإبداع الهندسي المستمر والمتسارع واحد من أهم مصادر إنتاج الثروة وتأطير الثقافة (…) إذ لم يأت القرن العشرون على أمريكا إلا والفرق واضح بين مستوى الإبداع الشعري ومستوى الإبداع التقني. لم يكن الشعر ندا مقنعا للتقنية. فهتاف والت ويتمان (أنا شاعر القاطرة) في القرن التاسع عشر ظل بلا صدى في القرن العشرين. والذين يبدعون الأدوات ويستخدمونها في جو من التفاؤل بقدرة التقنية على حل أي معضلة في تعامل الإنسان مع المادة، هؤلاء الناس، وهم الأكثرية الساحقة في المجتمع التقني، ليسوا بحاجة إلى شعر لم يواكب الطليعة الخلاقة في المجتمع). وعندما أخذت الثورة التقنية تبدع وسائط تعبيرها الفني (السينما / المذياع / التلفزيون) سرعت في نقل النشاط التعبيري من مجال النص، وهو في التاريخ الإنساني، مجال الشعر، إلى ميدان الصورة. يقول الباحث، لم تكن الثورة التقنية كذلك بحاجة إلى شعراء لخلق معادلها اللغوي، لأن الذين كانوا يبدعون الأشياء كانوا أيضا يبدعون الأسماء). ففي مجتمع تقني برغماتي معياره الآراء لا الشكل، والتغيير لا التعبير، كان الشعر والإبداع بحاجة للتبرير. وعندما يشير الباحث إلى بعض من حاول التصدي لتبرير الشعر في ذلك المجتمع من الشعراء الأميركيين، سوف يكشف عن أن هجرة بعضهم (مثل أزرا باوند وأليوت وغيرهما) الذين هاجروا إلى أوربا (حيث ثقافة النص أعمق جذورا منها في المجتمع الأمريكي، وحيث الجمهور اقل ارتباطا، في ذوقه الإبداعي، بقيم التقنية الجديدة في أمريكا) بحثا عن (الجمهور العظيم) الذي أشترط ويتمان وجوده (لكي يكون الشاعر عظيما). وبرغم فشل من بقي من الشعراء في أمريكا في تبرير الشعر تقنيا حيث (سقط الشعر في امتحان الأداء) حسب تعبير كارلوس ويليامز، الذي تكتسب شهادته أهمية ذات دلالة بسبب طبيعة تجربته الشعرية ودورها الفني في الشعر الأمريكي، يقول إبراهيم الفاضل أن الشعر لم يمت بفشل تلك المحاولات (فالشعر ما يزال، منذ فجر الأبدية يجدد نفسه مع كل ثورة تقنية). في ملامسة باهرة يشير إبراهيم الفاضل إلى ما مثلته الكتابة في الثقافة العربية بوصفها (حدا قاطعا) بين العين والأذن، عندما فصلت بين الصوت، عندما انتقلت من الشفوية، إلى الصورة، حيث الكتابة. بين المسموع والمرئي. معتبرا أنها بداية الغربة التي نفت الصوت عن الحرف. خصوصا بعد موقف الإدانة الدينية لثقافة ما قبل الإسلام متمثلة في الشعر والغناء. وسوف يعتبر الباحث إقرار الإسلام للترتيل والتجويد إعادة اعتبار (شكلانية) للصوت في الكتابة. و(إعادة التلازم الشعري بين العين المتأملة واللسان الناطق والأذن الخاشعة). وبقبول الأبجدية ربح الشعر مكانه في بنيان الثقافة المدونة وأنظمها.ودخل الشعر إلى ملكوت النص. فالأبجدية المكتوبة (أول التقنيات، هي أيضا أول قيود الشعر وأول مثال في تاريخ الحضارة على قدرة الشعر على التحرر بل الاستفادة من قيود التقنية). ترى إلى أي حد سوف يكون الشعر العربي مستعدا للاستفادة لاحقا بمكتشفات التقنية الحديثة في حقل وسائل الاتصال والنشر والتعبير، من الكمبيوتر حتى عناصر الفضاء الإلكتروني. سوف يستطرد إبراهيم الفاضل، في شكل تأملات أدبية تقارب الشعر، عبر مراسلة بينه وبين الشاعر أدونيس. فيقول (أن شعرا ينفي التقنية من عالم رؤياه وهو يدعي إنقاذ الإنسان، يجهل الإنسان. كما أن شعرا يقوم ليستشرف المستقبل، ولا يرى التقنية فيه، قد أخطأ الشرفة وأشكل عليه المستقبل).والشعر - لا يزال الكلام للباحث- الذي لا يرى الخيط في حرية ثيزيوس أو الفلك في نجاة نوح، أو الصليب الذي على الجلجلة في فداء ابن الإنسان، الشعر الذي لا يرى التقنية في خطة الخلاص كابوس أغلق على الإنسان كل سبل الخلاص). الباحث هنا يركز على الدور الجوهري للأداة في حياة الإنسان. تلك الأداة التي تبدأ بتحويل مادة الخيال إلى مادة العمل. فالإنسان مرشح للقنوط واليأس إذا هو لم يتصل بفعالية الأداة لتحويل الحياة والعالم. هذا التحول المتصل بلانهائية الأداة في الحياة. فالإنسان، حسب برغسون، (صانع أدوات صانعة بدورها لأدوات). وهنا يتجلى اتصالنا الراهن بحقيقة ما يحدث على صعيد التقنية المعاصرة، حيث الحواسيب بوصفها أدوات يبتكرها الإنسان، سوف تكون قادرة دائما على ابتكار مستقبلها يوميا، بمعنى أنها سوف تصنع دائما أدوات أكثر تطورا منها. وبالتالي لن يكون أمام الإنسان مفر من التعاطي مع هذه المبتكرات، خصوصا إذا أراد وضع نفسه في المستقبل الماثل بكافة حواسه وعناصر الفعل فيه. وسوف تمتزج مخيلة المهندس الفعالة بالشاعر الكامن، (لأن فلسفة تفصل الفكر عن المادة، والمثال عن الصورة، أبعد كثيرا عن تجربة الإنسان، من شعر لا يسقط من المغامرة الإنسانية شيئا، فيعانق كل إنسان : فكره ويده، ذاته و أدواته) . لماذا يتردد الإنسان عموما أمام التقنية؟ (في كل تقنية جديدة مأساة، يقول الفاضل. فموقف الإنسان العادي من التقنية يتنازعه الحنين والخوف:حنين إلى ماض تعود عليه، وخوف من مستقبل لا يدري أي أمر يخفيه). هذا الموقف المقلق لا يقتصر على الإنسان في المجتمع حديث التنمية أو المتخلف، بل انه يمكن أن يوجد في المجتمع التقني نفسه حيث إبداع التقنية ممارسة يومية لا تنقطع في الثقافة والاقتصاد. أما إذا جئنا للمجتمع العربي غير التقني، حيث يستهلك التقنية ولا يبدعها، يلاحظ الفاضل أن المثقف العربي يعاني من ازدواجية في الموقف من التقنية. فهو يتمزق في وجهين لم يتمكن بعد من استيعابهما بالشكل الحضاري. ففي حين يدرك هذا المثقف أن خلو الحياة العربية من الإبداع التقني علامة من علامات الضعف الحضاري والتخلف، ولكنه يعبر عن خشيته من كون حتمية التقنية، استهلاكا وإبداعا، مسارا يؤدي إلى التبعية التقنية والاقتصادية التي ترتبط بالنمط الذي من شأنه أن يفرغ الهوية العربية من طبيعتها العربية. (أي أن دفاعه عن الهوية يقوده من حيث لا يدري إلى رفض للثقافة التقنية جملة وتفصيلا، كما فعل أتباع (نيد لود) الذين أحرقوا القاطرات ومصانع النسيج في إنكلترا،ابان الثورة الصناعية، وكما يحطم أمثالهم اليوم الحاسبات الإلكترونية). أهمية حديث إبراهيم الفاضل هنا أنه يتسلل إلى بنية قطاع كبير من المثقفين العرب الذين لا تزال الفجوة بينهم وبين التقنية الحديثة متسعة ومستحكمة بصورة تدعو للقلق. حيث لا تزال صورة الثقافة في الواقع العربي مقتصرة على المفهوم الأدبي الخالص للكلمة. أكثر من هذا سوف نصادف تصورا مرتبكا عند بعضهم يصدر عن وهم مفاده أن التقنية هي ضد للثقافة ونقيض للأدب خصوصا. وعندما يبالغ بعضهم في الاعتقاد بأن ثمة تناقض بين الهوية التاريخية والتقنية المعاصرة، سوف نجد أنفسنا في مواجهة ضرب من العقلية السلفية التي تفقد مبررات وجودها الحضاري، لتصبح ثقافة في سبيلها إلى الاندثار. شخصيا، عندما يتطرق الباحث للثقافة العربية بوصفها لا تزال ثقافة نص، سوف يضعني في مواجهة القلق الذي يستحوذ على مشاغلي في السنوات الأخيرة، والمتمثل في طبيعة الثقافة العربية التي تصدر طوال الوقت عن فعل الكلام بوصفه قولا يعتمد على واسطة ثابتة هي اللفظ، بمعنى أنها لم تزل ثقافة شفوية إلى حد بعيد، أكثر من هذا فان ثمة حرمانا متواصلا وقع على الذائقة العربية من الاستمتاع بالحواس البصرية. وهذا ما يفسر لنا تخلف فنون محددة مثل الرسم والمسرح خصوصا. لأنهما يقومان في الثقافة العربية على النص (فن الخطاب التقريري في الرسم والوعظي في المسرح)، دون الاكتراث لأهم عناصر الفنين القائمين على حاسة البصر. ولعل المبالغة في تقديس الموروث اللغوي في الثقافة العربية، هو ما يقلل من الأيمان بخطاب الثقافة التقنية القائم على الأداء. ففي التقني (صورة واحدة ابلغ من ألف كلمة). ثقافة الصورة إذن هي ما يمس بها إبراهيم الفاضل جوهر المشكل المعرفي في الثقافة العربية. ولا يعني بالصورة التي (تخاطب الحس فحسب، ولكنها الصورة التي تخاطب البصيرة بمخاطبة البصر (….) كل صورة لا تراها العين إلا بعون) والإصرار على نبذ الصورة باسم النص هو، حسب الفاضل، إصرار على تفضيل الوهم على الرؤية. إن المس الشفيف الذي يتميز به حديث إبراهيم الفاضل، يصدر دائما من إحساس حقيقي بالمستقبل وأهمية أن نكون قادرين على الذهاب إليه متميزين بالقدرة على إنتاج الأداة، وهي هنا أداة المخيلة والعقل الفعال. وليست طبيعة الحقل الذي يتحدث عنه ويعمل فيه هي التي تجعل من حديثه مهما وشفافا فحسب، ولكنه أيضا النزوع التأملي المتميز بشعرية طاغية هو ما يصقل رؤيته ويجعلها متألقة في ذهن القارئ. وهذا ما يجعله نموذجا للمبدع التقني الذي يجري الكلام عليه في المقالة ذاتها. (الواثق بالنفس، المتفائل بالحياة. حيث العصر الذهبي للثقافة التقنية هو دائما وأبدا : المستقبل). شعرية إبراهيم الفاضل في بحثه المتميز (عن الشعر والهندسة) سوف تتجلى في الفصل الجميل الذي يضع فيه الشعر العربي أمام التحدي التقني. فهو يبدأ من الجذر اللغوي للكلمات في الأصل اليوناني، حيث كلمة (التقنية) تعريب لكلمة TECHNE في الأصل اليوناني المحمل بمعنى الفن، وكلمة Poesie أو Poetry في الأصل اليوناني يحمل معنى الصناعة. كما في العربية، القصيدة تحمل معنى القصد. الأمر الذي يجعل العلاقة بين الصناعة والشعر، حسب تعبير الباحث، تتجلى في (تقاطعات معنوية بين الكلمات تحيل إلى حدس بدئي أن الصناعة والشعر الفان لا ضدان). وإذا كانت التقنية هي (لغة أدوات) كما يقال، فان المهندس المبدع هو شاعر العصر، شاعر يستخدم لغة بلا أبجدية. فكلما غابت الأبجدية لدى المبدع اتسعت مساحة حريته في التعبير والتصوير. تماما مثلما تتجلى إبداعية الشاعر في قدرته على التخلص من قيد الأبجدية، حيث لغة المجاز بالإشارة والرمز يتسع الفضاء التعبيري الصادر من مخيلة لا نهائية الرؤى. أحب هنا أن أذكر النص المهم الذي كتبه أدونيس في السنوات الأخيرة بعنوان (في حضن أبجدية ثانية) حيث لا يخلو من دلالة كونية التأكيد على (أبجدية) يعيد المبدع صنعها بشكل متواصل، يخلقها ويتفاداها في اللحظة ذاتها. فعندما تعيد قراءة أدونيس في ضوء ما نتحدث فيه، يمكن أن نلامس الحس الفاجع الذي يعيشه شاعر يتصل بالمجرات فيما تعمل (أدوات) الواقع القديم منعه من ذلك، (قال أدونيس مرة : تلك الأبجدية التي تخونني) فيحاول التفلت من تخوم الثبات الذي يمنع الروح الجديد عن جسد يكاد أن ينفد. مع إبراهيم الفاضل، يمكننا إدراك ما يفسر النزوع المتزايد في حقل الهندسة المعاصرة نحو المجازية في التصميم بحيث تتحول الفضاءات بالنسبة للمهندس المبدع نصوصا في الأفق الافتراضي الذي يصاغ بواسطة المخيلة بوصفه سطوحا وأجساما قابلة للخلق بلا هوادة. وإذا كانت ثمة علاقات رؤية تجمع بين الشعري والهندسي، فان الباحث سوف يشير إلى ثلاث نقاط جوهرية يختلف فيها الإبداع الهندسي عن الإبداع الشعري هي : الأولى : (أن الإبداع الشعري ينتهي عند المجاز، أما الإبداع الهندسي فيبدأ به). والثانية : (أن الإبداع الهندسي يخضع كل مجاز، كما يخضع كل فكرة، لمحنة التجسيد وامتحان الأداء. ولا أظن أن في الشعر الذي يبقى في عالم الرمز والإشارة ما يعادل تلك المحنة وذاك الامتحان). والثالثة : (عامة تتجاوز المجاز وتتصل بالممارسة الإبداعية ذاتها. يظل الإبداع الشعري مغامرة فرد واحد، ومحاولة لتأكيد استقلال الشخص وتحقيق فرادة الذات. أما الإبداع الهندسي فقد تحول إلى ممارسة اجتماعية ذات طابع مؤسسي منظم.) أما عن الجوانب التي يمكن للإبداع الهندسي أن يغني الإبداع الشعري، فيقول الباحث أنها عدة مناحي يعددها كالتالي:

1 (منحى اللغة الشعرية، حيث من شأن المهندس بوصفه خالق أشياء أن يفتح الأفق أمام الشاعر لكي يبتكر التسميات لهذه الأشياء الجديدة التي يخلقها المهندس.(فلغة المهندس توسيع وإغناء للغة الشاعر) وفعل التفاضل والتمايز الذي تقوم عليه لغة المهندس يمكن أن يحقق مع لغة الشاعر القائمة على التآلف والتكامل مشهدا إبداعيا ثريا من حيث تشغيل الخيال في تقاطع حقول تكتشف ذاتها معا في ذات اللحظة التي ينبثق فيها العمل الإبداعي : الهندسة والشعر).

2 (منحى الأدوات الشعرية، فكون الشعر منتميا لثقافة النص، فيما يعتمد على التعبير التخيلي، هو الأقرب مجازيا من ثقافة الصورة. وبسبب من محورية الصورة في العمل الشعري. وكلما تيسر للصورة أن تكون أكثر دقة ونقاء فان النص الشعري سيبدو قريبا من الأفق التعبيري الذي يذهب إليه). وهنا تتجلى أهمية النزوع نحو المعرفة عند الشاعر المعاصر. حيث لم تعد الصورة في العمل الشعري مقيدة بالمعنى المجرد في النص، بل انها مرشحة ومعرضة للتحول نحو المعنى الفيزيائي في لحظة التحقق الإبداعي، حيث من الممكن أن يكون النص الشعري بمثابة المكان والزمان الافتراضيين بواسطة الصورة الجديدة التي تتيحها وسائل التعبير والاتصال الجديدة.

3 (منحى الرؤية الشعرية، وهذا ما يتصل بما تعمل على إنجازه الحقيقة التقنية في حقل الخيال الشعري. فالذي كان في الماضي القريب ضربا من الأسطورة بات الآن من الممارسة اليومية المألوفة.) ولكي نكتشف كنه ما تحقق على الصعيد التقني جماليا وتعبيريا، ينبغي أن نرى ذلك في ضوء الأحلام التي يحلم بها الشاعر منذ الأسطورة حتى أبعد مستويات الشطح السريالي. وبعدها سوف ندرك خطورة السؤال الذي يقترحه الباحث : (ما مستقبل الرؤيا الشعرية في ظل تقنية تكاد أن تنسخ الحلم؟) وفي ظني أن ما يستدرجنا إليه الباحث من الأهمية بحيث لن يعود أمام المبدع العربي أي خيار آخر سوى الإصغاء لما تبتكره المخيلة التقنية المعاصرة بوصفها أفقا مفتوحا أمام المبدع في شتى الحقول. ولعل التأخر عن استيعاب ما يحدث أمامنا هو تخلف قاتل لا محالة قياسا لما سوف يترتب عليه المستقبل القريب على أصعدة الأدوات ولغة التعبير في حقل الفنون قاطبة. فالقول بأن ثمة انفصالا بين فن وآخر هو قول بات قديما ولا يصمد أمام المشهد الراهن، فثقافة الصورة هي الآن الأفق المشترك الذي تتقاطع فيه كل الفنون بشتى وسائل التعبير. وليس أمام الشاعر لكي يظل جديرا باسمه، حسب تعبير الباحث، إلا أن (يسكن في المستقبل حتى فيما هو يكتب عن الماضي). والتقاطع الإبداعي الذي يحدث بين المهندس والشاعر يحقق لهما ذهابا مشتركا إلى (مستقبل المستقبل) كما يقول إبراهيم الفاضل برؤيته الشعرية. يحذر الباحث في ختام كلامه من الاستهتار بالثقافة التقنية في أوساط المثقفين العرب، مؤكدا أن (نقد التقنية أسهل من فهمها، وفهمها أسهل من ممارستها، والعبرة في كل الأحوال هي في نقدنا لأنفسنا). ويخشى الباحث أيضا من (أن يكون الذين تثقفوا ثقافة تقنية من النخبة العربية غير مبالين بالقيم الإنسانية التي تجعل الإبداع التقني، بل كل إبداع، ممكنا في مجتمعنا. فالحرية والحوار والتسامح مع الرأي المخالف وقبول النقد والإسراع إلى الاعتراف بالخطأ وتصحيحه، ويسر الوصول إلى وسائل التعبير والانفتاح على غير المألوف، واليقين أن الأيام دول وأن التغير أثبت السنن، والتواصل بين أهل الإبداع على اختلاف معارفهم وفنونهم، وتشجيع النابه منهم بالرعاية والمكافأة، كل ذلك هي قيم وفضائل في المجتمع الحر المفتوح، غيابها من مجتمعنا مثبط للإبداع، وحضورها، بل حضور بعضها، محرض له). ولكي يكون الباحث منسجما مع أطروحته التقنية والإبداعية، لابد أن نتوقع منه الإشارة الختامية الصادمة التي من شأنها أن تشكل في نهاية التحليل فضحا موضوعيا (في صيغة رجاء عالم) للواقع العربي الذي لم يزل بعيدا عن تحقيق المناخ الحضاري الذي تتوفر فيه هذه العناصر الجوهرية التي فصلها البحث. فالإحباط الذي يشير إليه إبراهيم الفاضل إذا كان قد فعل فعله في القطاع الأكبر من مبدعي البلاد العربية ودفعهم إلى المهاجر (ومن ضمنهم الباحث نفسه)، فهو اليوم يهدد بتدمير البقية الباقية من الذين اختاروا البقاء في بلدانهم تحت شروط أرحم منها الجحيم. لذلك نقول أن المسافة الحضارية بين التوق التقني والإبداعي الذي يلهج به المبدعون العرب، وبين الواقع العربي، المؤسسي خصوصا، هي من الفداحة بحيث تجعل مجرد التفكير هما مقيما لا يمنح الإنسان لحظة أمان واطمئنان واحدة في الأسبوع. غير أن إبراهيم الفاضل، من شرفة الأمل الذي يتميز به من يجلس في المستقبل فيما يرى إلى الحاضر، يتشبث بخاصية الحوار العميق (والملح حضاريا) بين من سماهم (أهل الغايات والوسائل) في سبيل علاج المسافة المعرفية بين ثقافتي الشعر والهندسة، منطلقا من الدعوة إلى إصلاح النظام التربوي، لكي تكون عملية الالتحاق بالمستقبل متصلة، منذ الوهلة الأولى، بالتخلق الجنيني للمعرفة في الإنسان. فكلما اتصلت عناصر المعرفة ببعضها مبكرا، تيسر للأجيال اللاحقة تحقيق ذاتها بصورة تليق بالأحلام.

بقي أن أقول بأن هذه المقالة قد علمتني، فيما تقوله وما تشير إليه، درسا مهما،أشبع عندي جانبا من الجوع الذي يتعاظم في روحي فيما أتعرف على ملامح المستقبل الماثل، ذلك المستقبل الذي (يا للحسرة) لن يسعني الوقت لكي أذهب أليه بما يكفي.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى