له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

8 - ذئب يتدرب على الموت

شخص يذرع النوم بأحلامه

ليس كافياً أن تأتي من النوم، المهم أن تحضر أحلامك معك. تلك هي ثروتك التي أمضيت نوماً كاملاً تسعى إليها وتشقى لأجلها. ففي النوم، أنت لم تكن غائباً عن العمل، فهناك تكون عادة في أكثر الحالات صدقاً وحرية. بل إنك هناك تكون أكثر حضوراً في واقعك المصادر مما ينتابك في يقظة مرصودة بما لا يقاس. في النوم تكون خارجاً على السلطات التي تمارس ضدك هيمنتها وعنفها وقمعها أيضاً. ولذلك عندما تدخل في النوم تبدأ في تشغيل أعضائك المعطلة طوال اليوم، وهي أعضاء عادة ما تكون مشحونة بطموح لا يلبيه ولا يستجيب له النهار المفضوح بمزاعم الحركة والحياة. ولولا فسحة هذا النوم الشاسعة لتعرضتْ تلك الأعضاء لعطب لا يمكن تفاديه.
عندما تستغرق في تلك النعمة اللانهائية، أثناء نومك، ستكون في درجة من لذة الطريق والمكتشفات، جديرة بأن يحتفي بكل ما يتوفر بين يديك من أحلام. وهي أحلام بمثابة كائنات تعبت من أجل صياغتها وتأثيث عالمك بها ودفق الحياة فيه. ومن الفداحة أن تخرج من نومك عارياً من رعاياك الجميلة. لا تترك أحلامك هناك عندما تخرج. فالصباح لا يكون نهاراً حينما تأتي إليه بيدين فارغتين.

إذا كان ثمة حلم في حياتنا، فهو الحلم الذي لا يسعه الواقع ولا يستوعبه ولا يستجيب له. والذين يضعون أحلامهم على محك الواقع، سوف يصابون بخسارة فادحة، علينا أن نجرّب وضع الواقع على محكّ أحلامنا. ربما لأن الحلم هو التحدي الذي يتوجب على الواقع مجابهته.

في النص، في العمل الفني عموماً، لن تكون موجوداً بغير الحلم، فمن يصوغ عمله الفني عارياً من الحلم، يكون مثل عاشق يذهب إلى الحب عارياً من الوردة. والذي يرقب المشهد الأدبي الراهن سوف يصادف الكثير من الأعمال الأدبية تتنازل عن أحلامها، كما لو أن شرط الإخلاص للواقع هو تفادي الأحلام، متجاهلاً هذه الطاقة الرؤيوية المكنوزة بالحياة. ليست حياتنا غير مجموعة من الأحلام.


يقف الشخص عند النافذة : هذا صباح جدير بالحياة، فقد كانت الأحلام غنية بما يجعل النهار ساطعاً، والليل شرفة زرقاء لمستقبل أكثر غموضاً من الجمال. تنثال أحلامه من النافذة، فيتبعها كأنه يقود جيشاً يسبقه نحو المجابهات. هذا شخص آلته أحلامه. يخرج من النوم، ويخرج عليه بعطاياه. هذا شخص لا يرى في الحياة غير أحلام تتكشف عن شراك الفتنة، تمنح الوقت طبيعة السائل الذي يأخذ أشكاله على هيئة الناس. يضع قدميه على طين الطريق، ويسأل عن المنعطف التالي. ثمة أصدقاء يدّخرون المفاجأة. لا تخلع أحلامك عن خطواتك، فليس في الطريق قناديل تقود أقدامك غير الأحلام.

كتب له صديق ذات رسالة: (صادفت حلماً جميلاً، رأيتك مهدورا، تبذل أعضاءك لآلة الكتابة، ولا يلتفت إليك السابلة وهم يتعثرون بجسدك المعطوب، ذاهبين نحو ما لا يدركون).أدرك الشخص أن صديقاً له يرى أحلامه كمن يقرأ في كتاب.

يفتح كتاباً ويدخل. يلتفت أبو حيان التوحيدي للفتى الذي ينشغل بفكّ لغز الكلمات، وينهره : (لا أقول لك الكلام لكي تنشغل بتفسيره وفكّ رموزه، الرموز تفقد جمالها حين تحاول إخضاعها لعسس العقل وجلافة المعنى. دع الرموز تأخذ طريقها غامضة لروحك، روحك تدرك ما لا تدركه الأذهان). يرتبك الفتى ويتلعثم، فيما يحاول لملمة نفسه ويجمع الشظايا المتناثر مثل الجمر من حوله. يبتسم التوحيدي لفرط المعنى الذي يتفجّر بين يدي تلميذه. يعرف أن الكتب بالغت في إفساد من يقف عند حدود المعنى. يطوي كلامه، ويفتح قميصه لتطلع فراشة تطير في وجه الفتى المتلعثم. يتهلل الفتى، فقد أدرك أن للمعنى الذي يغيب عنه جمالا لا تطاله العقول الخاضعة لمنطق الفيزياء. يتقدم التوحيدي ليضع كفه الحنونة على جبهة الفتى : (هذه هي الحمى. لا دواء لك غير إطلاق أحلامك في حضرة الكلام، كهذه الفراشة التي تذهب إلى النار بيقين الضوء. إذهب إلى نارك أيها الفتى، إذهب، ففي النار حياة للمعنى). كأن التوحيدي قال ذلك، كأنه فعل.

في النوم فضائل جمّة. من بينها أنه يلقّن النائم درساً في الرؤيا، لا يدركه غير المجبولين على حرية البوح. فبعد النوم، أنت ليس أنت. فقد نلتَ طاقة الأحلام، التي لا ينالها الشخص عندما يغفل عن أحلامه فيما يكون في النوم. تعال بأحلامك، كأنك تأتي إلى الحبيبة بوردة القلب.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى