له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

8 - ذئب يتدرب على الموت

نعمة المعني

أرفع غطاء السرير، فإذا كل شيء يمرح هناك. سرب كثيف من الجنيات يعكفن على صقل الأحلام، قطيع كامل من الزرافات منشغل بتعليق قناديل الحديقة في مكانها، غيم كثير يرصد الهواء لكي يسعف الطيور وهي تنقل أشرطتها الملونة بين غصن وآخر. أرانب بيضاء تتظاهر بالنوم لكي تخدع المرأة وتدخل معها في الحلم التالي. نهر صغير من الحليب يزعم أنه ذاهب إلى مهد الطفل لئلا تصيبه الوحشة. حمامتان ترتجلان الأغنية قبل النوم وبعده. مهرة شقراء تهتز وترتعش وتنتفض منتورة الأعضاء والعناصر ناشبة حواسها في بياض فاتن يزعم أنه مأدبة السرير. ثم لا أعود قادراً على طرح غطاء السرير ثانية، فقد نالت اللذة من المهرة ما اشتهت من الغواية، وسوف أكون قد استسلمت لمرح الأحلام وهي تبدأ نشيد النشوة.. لا ترفع غطاء السرير وأنت وحدك في
المكان، ثمة كائنات تستفرد بك وتغويك.

السمكة (بوسامتها الصقيلة) تقف على الشاطئ، تثني ياقة قميصها الفضي متحفزة لتلاوة الرسالة التالية، فقد حمل لها بريد الموج حقيبة كاملة من الرسائل جوابا على أحلامها الرهيفة التي فاض بها سرير البهجة في الليلة الماضية. ثمة رسالة مكللة بالزبد موعودة بالمرح الأعظم، تقول الرسالة : إن البحر أصغر من السفينة. السمكة ذاتها (بالحدقتين الشاسعتين لفرط الضوء في الأقاصي العميقة) مذهولة لما يحدثه الماء الأزرق العظيم في دفاتر العابرين، فيما يأخذون تذكاراتهم في طريقهم إلى نسيان فادح، حيث الرسالة التالية تهمس في زعنفة السمكة ذات الأوسمة الفضية، تقول الرسالة : لم يعد البحر مسؤولاً عن البريد، الموج وحده يذهب إلى الأمكنة بعيداً عن البحر و السفن، الموج وحده.

بحرنا المستهام بأخشابه التائهة
بحرنا الوحيد الذي تذهب عنه السفن وتتركه على السواحل،
ينتظر عابرا غريباً يرسم له جسرا إلى مكان.
بحرنا المستهام بضياع أطفاله،
يحلو له أن يضيع معهم.

وقف يخلع أوسمته واحداً بعد الآخر، ويضعها على الطاولة أمام حشد الواهبين :_ خذوا الأوسمة كلها، فكل ما وهبتموني إياه من النياشين لم يعد يلزمني، لقد صار عبئاً ثقيلاً على الروح و الجسد. فقدت طريقتي في المشي والحياة. فقدت تلك الخفة والرشاقة التي تستدعيها الحرية، ماذا تريدون مني، أنا الذي لم أعد أشعر بأطرافي وهي تتخلع لفرط الوحدة. خذوا كل هذه الأوسمة، لست جديرا بثقتكم ولا أملك موهبة الإذعان لمشتهياتكم. لقد أوشكت النياشين أن تصبح كوابيس ليلية بلا هوادة. صارت ثقيلة، حتى أنها تمنع الهواء عن القلب. هاكم إياها كلها، ودعوني أذهب حيثما تأخذني أقدامي، أقدامي التي مثل الأجنحة تكاد أن تشهق بالريح وتطير وتتصاعد مثل النيران. مع كلمته الأخيرة، كان قد وضع آخر الأوسمة على الطاولة، واستدار نحو البحر، بقميصه المزخرف بالثقوب من أثر دبابيس الأوسمة والنياشين، ثقوب يتخللها هواء نقي بارد. وهو يتقدم عابراً شريط الرمل الأبيض متوغلاً في ماء حميم يدغدغ ربلة ساقيه، ويغسل أطراف الأجنحة التي كانت قد بدأت في البزوق مثل زغب الصقور. طليقاً من الأوسمة.

منذ البدء كنت مولعا بالقواميس. أذكر أول قاموس اشتريته، قرأته مثل رواية للحلم أو تاريخ للحب، وربما مثل كيمياء جميلة، كتاب لا يشبه غيره. حروفه المفرطة في الصغر تضاعف ولعي بالإفراط في القراءة. كنت أشعر بأن كل سلسلة من المعاني متاهة جديدة في غابة كثيفة تغري بالتوغل في أدغالها. أشجار لا تحصى كانت تقودني صفحة وراء صفحة في ضوء شاحب (وقت كان الضوء يصدر عن الكلمات في ليل المعنى) يقودني إلى الإغماء. كلما واصلت في قراءة القاموس شعرت بحرية أكثر في الخروج عن المعاني المكنوزة مثل طيور في حبس، فما إن تمتلك المعاني حتى تفيض فيك شهوة التأويل. تلك القواميس التي عبرتها طوال العمر والكتابة، كانت مثل القناديل على طريق طويل شاسع، تضئ لي الجوانب لكي أتطرف هنا وأنزاح هناك، لكن دائماً لكي لا يمتلكني المعنى. ومن دون أن أنسى ضرورة صقل الذاكرة بنسيان ما قرأت. قال لي القاموس ذات نص : لكنني لا أعني ما تذهب إليه. قلت له : إذا لم تذهب معي سأذهب لتلك المعاني وحدي. دائما كنت أذهب عنه، ودائماً كان القاموس ينال نعمة المعاني من الشاعر.

وفيما أنا كذلك، وإذا بالصوت يهبط من الأعالي : إذا أردت أن تعرف الشاعر، خذ شيئاً من القاموس، وضع عليه بعضاً من أنفاس الشخص وهو في بهجة التأويل، فإذا تحول ذلك الكلام من المعدن الخسيس إلى الجوهر النفيس، فاعلم إنك بين يدي شاعر، فلا تدع روحك تتعلق بغيره، فإنه شفيعك ساعة النص. *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى